المبحث الرابع: الطلب
بعد أن فصلنا في المبحث الأول من الفصل الرابع الترتیب الموضوعي للدعاء و قلنا إن أصل الدعاء هو الطلب ،وإن الطالب ینتقل إلی الطلب بعد مقدمات یعرف فیها بالعجز والذلة و یسبّح ربّه ،و یذكر صفات جلاله و عظمته، نتطرّق إلی لب الدعاء و هو المسألة من الله عزوجل و قد قسّمنا الحاجات التي یسألها العبد إلی ثلاثة أقسام :الأول :طلب الإیمان و المعرفة و الثاني :ما یتعلّق بالآخرة و الثالث: ما یتعلّق بالدنیا
الأول: طلب الإیمان و المعرفة
إن أهم ما یمكن طلبه من الله سبحانه و تعالی هو الإیمان و المعرفة ،لأن الغایة من خلفة الإنسان هي الوصول إلی السعادة و الفلاح الحقیقیین .و لایمكن الفوز في الدنیا و الآخرة إلا من خلال طاعة الله و الطاعة ،لا تنفع إلا إذا كانت مع ایمان حقیقي .والمعرفة بالخالق و الإیمان أمران مقولان بالتشكیك ،فمن العباد من یحصل علی درجة من الإیمان و المعرفة حیث یتجاوز مرتبة الملائكة كالأنبیاء و الأئمة الأطهار ،ومنهم من یحصل علی مقدار أقل من الإیمان و المعرفة ،و منهم من لا یكاد یری لونا من ألوان الإیمان و المعرفة، ویسقط إلی الأسفل حیث یقترن بالشیاطین والفاسقین.
یطلب الإمام في هذا الدعاء یطلب من الله أن یوفقه لمقام الخشیة في العبارة التالیة:« اللهم اجعلني اخشاك كأني أراك ،و اسعدني بتقواك و لا تشقني بمعصیتك»
و الخشیة هي الخوف الخفي و الفردي و یشوبه الإحساس و العظمة. إن الخوف و الخشیة قد یكونا متقاربین في المعنی ،لكن هناك اختلافا بینهما في الدعاء "الخوف تألّم النفس من العقاب المتوقع بسبب ارتكاب المنهیات والتقصیر في الطاعات ،وهو یحصل لأكثر الخلق .والخشیة حالة تحصل عند الشعور بعظمة الخالق وهیبته وخوف الحجب عنه ،وهذه الحالة لا تحصل إلّا لمن اطلع علی حال الكبریاء "(92)
یقول علماء الكلام إن الخشیة إنما تكون مع العلم و لكن الخوف لا یكون مع العلم بالضرورة(93)
والخشیة "مختصة بالعلماء كما جاء في القرآن الكریم « إنما یخشي الله من عباده العلماء»(94) لأنهم أعرف بالله و بعظمته ،لكن غیر العلماء من الناس بما أن الخوف من الله في نفوسهم ،لم یكن ناشئا عن معرفة حقیقیة غالباً ،فلا یصدق علیهم معنی الخشیة ،وقد طلب الإمام (ع) و هو أعرف العرفاء بالله الخشیة من الله ولم یطلب الخوف"(95).
یصور الإمام صورة الخشیة التي یطلبها من الله و هي خشیة من یری الله أمامه ،فحینئذ یخشاه خشیة مختلفة عن غیرها ،فكیف إذا كان المخشي منه هو الله الذي لا تستطیع الأوهام درك عظمته و قدرته و جلاله ،فهذه الخشیة لا یقوی علی حملها إلا من حاز علی نصیب كبیر من معرفة الله ،وأصبح قلبه وعاء حبه و ذكره ،وإن كان الإنسان قاصرا علی كل حال من بلوغ الخشیة الكاملة من الله لأنه محدود و قاصر.
و یطلب الإمام(ع) بعد ذلك أن یسعده الله بالتقوی ،والتقوی بمعنی تجنب المعاصي أو صیانة النفس من الشرور والآفات وإتباع الشیطان .وعلی كل فإن التقوی من أجمل الملكات النفسیة التي یتزین بها المؤمن وقد ركب حرف «كـ » الخطاب مع كملة التقوی و ذلك لإخراج كل تقوی لغیرالله من دائرة التقوی المقصود(96)
و للتقوی منازل و مقامات تبدأ بالإیمان بالغیب ،وتنتهي بالإطاعة والإنقیاد الكامل أوامر الله و نواهیه إلی مرحلة الرضا و من وصل إلی هذه المرحلة لا تنفك منه التقوی (97)
ویثیر هذا الطلب إستفهاما وهو هل یمكن استنباط معنی الجبر من هذا الطلب و ذلك أن الإنسان مجبور علی السعادة أو الشقاوة لأن الله هو الذي یعطیها ؟
إن الأمر مختلف عما یظنه البعض ،لأن الإمام (ع) یطلب سبیل السعادة وهو التقوی و طلب من الله أن لا یشقیه بمعصیته و ن الواضح أن توفیق التقوی أو النجاة من الشقاوة بیدالله و كل الأمور تحت إرادة الله ،لكن نفس هذا الطلب ثم الإستجابة من الله ،یظهر إختیار الإنسان وأنّه لم یكن مجبرا علی الفعل ،لأنّ الجبر مخالف لحكمة الله.
و في عبارة أخری یطلب الإمام (ع) حاجاته التي تتعلق بالإیمان والمعرفة ،وهي أنفع ما یمكن أن یطلبه الإنسان .وحینما یقرأ الإنسان هذه الطلبات یشعر بمزیح من الجمال الأدبي و الروحاني في نص الدعاء ،ولا یشوبه شك في أن هذا النص صادر من منبع رفیع یعرف اللغة و یعیش معرفة الله بكل كیانه و قد بلغ من الیقین اعلی درجاته و العبارة هي:
«اللهم اجعل غناي في نفسي ،والیقین في قلبي ،و الإخلاص في عملي ،و النور في بصري والبصیرة في دیني ،و اغفر لي خطیتي ،و اخسأ شیطاني»
ربما یشعر من غفل عن الآخرة أن من یرید أن یحصل علی الغنی فلا بد أن یكنز الذهب و الفضة أو أن یعتلي علی الآخرین لكن الإمام (ع) بهذه العبارة یرد الخطأ إلی الصواب و یؤكد أن الشعور بالغنی هو في نفس الإنسان وهناك إشارات إلی هذا المعنی في الروایات مثل: و« لیس الغنی كثرة العرض و لكن الغنی غنی النفس»(98)
إن غنی النفس یحصل من التوكل علی الله ،و الإعتماد علیه ،و الزهد في الدنیا .و كل ما ازدادت الثّقة بالله زادت قناعته(99) فإن لم یكن الإنسان كذلك ،و إن لم یكن قانعا و غنیا في نفسه ،فلا یسد العالم بأسره طمعه و ولعه في الدنیا بل یزداد قلقه و تهافته ،لكسب المال و الظواهر الدینیة.
و تجدر الإشارة إلی أن النفس هي حقیقة تشتمل علی كل ما یتعلق بالجسم و الروح و كل ما یطرأ من الإنسان ،وكل ما یتأثر به ثم في العالم الخارجي یؤثر في نفس الإنسان و یغیر فیه.
یطلب الإمام (ع) الیقین في القلب و هو مرحلة عالیة من الإیمان.
و من خلال القرآن نفهم أن الیقین علی مراتب ثلاثة و هي:
1- علم الیقین : و یصل الإنسان إلیه من خلال الإستدلالات و البراهین العلمیة
2- عین الیقین: وهو أن یری الإنسان حقیقة الأمور فكأنه یری النار التي یعاقب بها المذنب.
3- حق الیقین: وهو أن یدخل الإنسان النار و یشعر حرارتها ،وهذا أعلی درجات الیقین
و كذلك یطلب الإمام (ع) الإخلاص في العمل ،والإخلاص هو ان یقصد الإنسان