المبحث الأول: الترتیب الموضوعي لدعاء عرفة
الغرض الأصلي من الدعاء هو الطلب ولكن هذا الطلب یحتاج إلی مقدمات وآداب تأتي قبل الغرض الأصلي ،لذلك یمكن أن نتصوّر نصّ الدّعاء مجموعة من سلسلات متشكلة من ثلاث حلقات ،لكن بشرط أن تكون السلسلة كاملة .حلقتان إذ هناك تمثل مقدمات الدعاء والحلقة الثالثة هي طلب وتضمّ الحلقة الأولی من المقدمات مدح الله تعالی ،وذكر صفات كماله وجلاله وأفعاله ،ونعمه التي ینعمها ،ویتفضّل بها علی العباد ،وفي مقابل ذلك الحلقة الثانیة من المقدمات تتعلّق بإقرار العبد بذنوبه ومعاصیه وتقصیره وضعفه وفقره وعجزه.
المجموعة التي تهتمّ بذكر صفات الله تقع مقابل المجموعة التي تذكر صفات الإنسان ،فالإمام (ع) یتوخی من تقابل هذین المجموعتین بیان هذا التباین في الأفعال والصفات التي نخوص في كلّ منها في مبحث مفصل، إظهار فقر الإنسان أمام الربّ الغنی والكمال المطلق وفي المقابل یذكر ذلَة العبد وحقارته ،فلا یمكن أن یطلب هذا الذلیل من ذلیل مثله ،أو بعبارة أخری من عبد آخر ،وإنما یطلب ممّن یملك القدرة علی العطاء ،وهذا القادر هو الله .ویمكن القول إن الإمام (ع) یذكر من خلال مقدّماته أسباب الطلب من الله ،فلأنّه القوي والقادر ،والإنسان ضعیف وفقیر ،لذلك یطلب حاجاته من الله.
والحلقة الثانیة أي حلقة ضعف الإنسان وقصوره وإقراره غیر حاضرة في بعض السلسلات ،ویبدو أن هذه الحلقة امكان عدم الإتیان بها لكن حلقة صفات الله وأفعاله ،لا یمكن الإستغناء عنها قط.
والحلقة الثالثة هي حلقة الطلب فالعبد بكلّصفات الضعف یطلب من منبع القدرة والعظمة حاجاته وهذه الحاجات قد تكون أخرویة وقد تكون دنیویة والطلب متكررٌ بین مقاطع الدعاء بعد المقدّمات إلا أن المقدّمات ،في بعض الحلقات لم تكن كاملة ،فیذكر فیها صفات الله وتفضله علی العباد دون ذكر اعتراف العبد علی ذنوبه وتقصیره وعجزه ،والرّابط بین حلقة صفات الله وأفعاله وصفات الإنسان وقصوره في كلّ السلسلات هو ذكر الصلوات (اللهم صلّ علی محمّد وآل محمد) .وحینما یطلب الإمام (ع) من الله شیئا یأتي قبل الطّلب بذكر الصلوات في أغلب الأحیان والإتیان بهذا الذّكر كان خصیصة أسلوبیة فإنّ الروایات تشیر إلی الصلوات علی النبي وآله (ع) بمعزل عن الفضائل الكثیرة، كوسیلة لإستجابة الدّعاء كما یقول الإمام الحسین (ع): « ایّاكم أن یسئل أحد منكم ربّه شیئا من حوائج الدّنیا والآخرة حتی یبدأ بالثناء علی الله تعالی والمدحة له والصلوة علی النبي وآله ثم الإعتراف بالذّنب ثم المسئلة» (1)ولا یمكن أن یخرج الأئمة عن هذا الأسلوب إلا لسبب معیّن.
إذن یمكن أن نعدّ الصلوات رابطاً بین حلقة الطلب والمقدّمات وإن كانت السلسلتان الأخیرتان في دعاء عرفة لا تشتملان علی ذكر الصلوات بین المقدّمة والطلب وهاتان السلسلتان ناقصتان في المقدّمات لأن مقدّمتهما تشملان علی ذكر صفات الله بإختصار دون الإقرار من جانب العبد بالعجز والضعف وهاتان السلسلتان یمكن أن نفصلهما من بین سلسلات الدعاء بسبب النقص في هیكلتها المضمونیة بالنسبةإلی باقي السلسلات المذكورة في دعاء عرفة ونعتبرهما خارجتین عن إطار الأسلوب المذكور لسبب ما.
السلسلات المذكورة في دعاء عرفة
ویجدر بالذّكر أن المقدّمات تتراوح دائما بین مضامین الحلقة الأولی والثانیة بحیث تكون صفات الله مذكورة في الأولی ،ثم یأتي دور صفات وأفعال العبد وقصوره ،بل هناك استطراد من باب إلی باب من صفات الله إلی صفات العبد ومن أفعال الله إلی أفعال العبد ففي السلسلة الأولی علی سبیل المثال نذكر الترتیب التالي:
صفات الله و أفعاله+ افعال الإنسان وقصوره= الطلب
• حمد الله
• صفات الله وأفعاله وتفضله
• الإقرار بربوبیة الله وخلقته للإنسان
• ذكر نعم الله
• ضعف الإنسان لشكر هذه النعم
• إقرار الإنسان بربوبیة الله وعظمته بكلّ وجوده واعضائه وضعفه في شكر النعم
• حمد الله
• الصّلوات علی محمد وآل محمد
• الطلب من الله
وسلسلة كبیرة آخری علی نفس الأسلوب المذكور بصورة عامة لكن هناك أربع سلسلات یختلف أسلوبها عن الأسلوب الماضي حیث تنقص هذه التسلسلات إلی الحلقة الثانیة وهي حلقة صفات الإنسان وأفعاله وعجزه ومن تكرار هذه السلسلات یتبلور الدّعاء.
ویمكن توجیه حذف الحلقة الثانیة في بعض هذه السلسلات ،إذ إن الداعي ضعیف ومحتاج بطبیعة حاله ،وإن لم یكن ضعیفاً وفقیراً وحقیراً لم یدع ولم یطلب فهذا الضعف والفقر واضح في حال الدّاعي ،وإن لم یأتي به ،ولم یصرّح في بعض هذه السلسلات ،لكنّه مقدّر علی كلّ حال في وجود الدّاعي والطالب ،وإما أن یكون الحذف من باب الإجتناب عن الإطالة بإعتبار أن الضعف والفقر والقصور جيء بها في السلسلات الماضیة وهو واضح فلا داعي للتكرار.
أثر القرآن في ترتیب الدّعاء
نشیر في هذا المجال إلی آیة واحدة وتطبیق ترتیب الدّعاء في القرآن الكریم علی نصّ دعاء عرفة.
«وذا النّون إذ ذهب مغاضباً فظنّ أن لن نقدر علیه نفادی في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظ