كل من يتتبع مسيرة المنبر، بوصفه وسيلة من وسائل الاعلام على مختلف ابعاده، يرى بوضوح تطورا في مختلف مراحله، وان اختلف هذا التطور كثرة وقلة. وهذا التطور يشمل مادة المنبر وادواته واتجاهاته، وذلك امر مفروغ منه، لانالمنبر تحول الى حاجة من حاجات الامم الاجتماعية سواء اخذ صورة المذياع او التلفزة او الاعواد. وتبعا لذلك، لا بد من ان يتطور المنبر بتطور الامم. والملاحظ ان المنبر الاسلامي، بصورة عامة، والمنبر الحسيني منه، اتصف، وللاسف الشديد، بالبطء في مسيرته التطورية، وان خطا خطوات في مضماره. انه بالقياس الى وسائل الاعلام الاخرى لا يزال يزحف مع وجود امكانات التطوير. وقد يقول بعضهم ان ذلك ناتج من كونه فعالية من فعاليات الدين. والدين لا ياخذ الزخم الذي تاخذه الامورالحياتية الاخرى، كما هو معلوم، الا ترى ان مفردات المناهج الدراسية في مدارسنا الرسمية قد تطورت، وغدت الحضن الذي يحضن ابناءنا في اخطر مراحل حياتهم؟: هذه المدارس تعد الدروس الدينية في مؤخرة مفرداتها ولا تضع لها علامات محسوبة من المعدل العام، الامر الذي يترك في نفس الطالب انطباعا بعدم اهميتها. قد يكون هذا القوليمثل شيئا من الواقع، لان المدارس الرسمية تعتقد ان امور الدين مما تعتني به الاسرة، وتحرص على تلقينه لابنائها،كذلك لا ترى حاجة للتاكيد عليه. كما ان الامور الدينية ان كانت لا تمثل اهتماما عند بعض الشرائح، فانها موضع اهتمامشرائح الامة الباقية. وقد كان المنبر، بعد مسيرته الطويلة، منفذا من منافذ الدين بالنسبة للجمهور. واعود لاقول: ان وسائل الاعلام الاخرى تحولت الى حاجة للكثيرين وخبزا يوميا لهم، لانها حملت همومهم، وعرفتتطلعاتهم، وتصدت لحل مشكلاتهم في حدود ما تملك من قدرات. كما انها ربطت المتلقين بابعاد المجتمع الاخرى،ومضت ومشت تعالج عندهم الما، او تداعب املا، وتبتكر لهم اجواء للتفاعل مع مجالات المجتمع الاخرى، وعززتعندهم التصور بانهم جزء من المجتمع تشملهم آلامه وآماله. ولم يات هذا التطور في وسائل الاعلام من فراغ، بل كان نتيجة توظيف علوم متنوعة ومهارات مختلفة في ميدانالخطاب، فاين مكان المنبر الاسلامي من ذلك؟ مع ان المنبر المسلم يملك ما لا يملكه غيره من انفتاح في قلوبالمسلمين او غير المسلمين ممن يتطلع الى حلول فكرية لمشاكله، ذلك ان المنبر يحمل صوت السماء المؤمل لمعالجةالقضايا والمشكلات، فالمسلم يقدسه وغير المسلم يرى فيه معالجة لم تتاثر بمصلحة ولم توصف بنقص. فلماذا،والحالة هذه، لا نعمل على استخراج كنوز معارفنا الدينية ونذود عنها الدخيل والهزيل؟ ولماذا لا نطور القوالب التيتحملها مع التحدي الملح؟ ان مراكز القرار الاسلامي تتحمل مسؤولية كبرى حيال ذلك امام دينها المسؤولة عن خدمتهوامام مجتمعها المسؤولة عن تربيته، يضاف الى ذلك ان حقل التربية الدينية لا يخص المتدينين فقط، بل يخص الامةكلها، لانه اهم وجوهها الحضارية، بوصفه مؤشرا بارزا على نمط عقليتنا ومصدرا رئيسا من مصادر سلوكنا. اننا لو عدنا الى تاريخ المنبر الاسلامي، في عصورنا الرائدة، لراينا كيف كان فاعلا في بنائنا، وكيف وفر لنا زادا لا نزالناكل من عطائه حتى الان. لقد كنا شيئا مذكورا يوم كان الاسلام بمنافذه زادنا قبل ان تحتوشه السلبيات، وتتكاثر فيطريقه ادوات التشويه التي شوشت الرؤية، وعملت ولا تزال على تفريغ مفردات الكتاب والسنة من مضمونهاالضخم، ووجهتها الى مضامين هزيلة، او بالغت في اعطاء بعض مضامينها ما ليس منها، او حرفت مداليلها عن معناهاالصحيح. كل ذلك يعرفه المختصون في هذه الحقول، وكان لهذه الممارسات كبير الاثر في ابعاد اوساط كبيرة عن سماعالخطاب الديني والوثوق به. ولولا ان الذهنية الاسلامية بعامة، تشعر بانه لا اجابة عن اسئلتها، في كثير من مناحيالحياة، وفي ما له صلة بالحياة الاخرى، الا عند الفكر الاسلامي، لكانت فجيعتنا كبيرة من حيث انفضاض الناس عنمصادرهم الدينية، وهم يرون كثيرا ممن يحمل الدين يبعد الناس عن الدين بفكره وسلوكه وبتخلفه عن مسايرةالدنيا. فينبغي، والحالة هذه، اعادة النظر في آليات الخطاب الديني ومنها المنبر، ليؤدي دوره المتوقع منه. وهذا الامر، يكاديكون محل اجماع المفكرين المسلمين، وهم وان اختلفوا في بعض مشخصاته فانهم يتفقون في اصله. لقد كان ما ذكرته، مما يدور حول المنبر، من الخواطر التي لا تفارقني، فكنت اطرح الفكرة مع كثير من ذوي الشان،فاسمع منهم المتحمس للتحرك في هذا الموضوع، واسمع الذي يقابل ذلك بشيء من الفتور الناتج من تصوره بانللمنبر دورا محدودا على مستوى العواطف الدينية عند فئة قليلة. عناوين رؤية السيد الشهيد
المضمون الثقافي وعندما يسر لنا العلم وسائل ايصال الكلمة الى اكبر عدد ممكن، على القرب والبعد، اتسع مجال نقل الافكار عبر التلفازوالمذياع والمسجل، بدات النظرة الى المنبر تتغير، وادرك كثير من المعنيين بهذه الامور ان المنبر وسيلة فاعلة اناستطعنا ان نحسن الاستفادة منها، بامتلاك ادواتها وما يرتبط بها، واهم ما يرتبط بها الخطيب المناسب، بل هو المنبركله. وفي وسط هذه الاجواء جرى الحديث في مجلس الشهيد الصدر، طاب ثراه، فرايت من اهتمامه واصغائه لما يدورحول ذلك ما لم اره عند غيره، وسمعت منه تاكيدا على ذلك دفعني الى معاودة الموضوع كلما دخلت عليه. ولكثرة ماعاودنا طرق الموضوع اشبعت جميع جوانبه تقريبا بالبحث، وقد اشرت الى ذلك اشارة مقتضبة في الكتيب الذياصدرته في العام الماضي: «تجاربي مع المنبر»، ولكن ساتناول هنا ابرز ما دار الحديث حوله، وما بقي في ذاكرتي مماطرحه السيد، طاب ثراه، لقد كانت اهم الافكار التي في ذهنه تتلخص في عناوين رئيسية منها، بصورة مجملة: 1- تقعيد المنبر، بمعنى ان يصدر المنبر عن قواعد وعلم اذا تناول اي مفردة من مفردات خطابه، فيكون مثله مثل طالبالعلم الفاضل، اذا عالج مفردة في موضوع شرعي عالجها بمنهجية، مثلا اذا عالج مسالة فقهية نظر الى دليلها، فاذا كانمن غير القرآن الكريم يبدا بتوثيق الدليل من حيث السند، ثم يبدا بتقييم الرواية وتحقيقها، من حيث عدم الزيادةوالنقص والتحريف، ثم ينتقل الى الفاظها، ويسال: هل هي مما لا يحتمل الا معنى واحدا، او يحتمل اكثر من معنى؟فيصنفها الى نص او ظاهر او مؤول، ثم يجمع الروايات حول الموضوع ليرى مدى تاثيرها في دلالات الرواية علىالمعنى المراد او الحكم المراد، ثم يبحث عما يعارضها ويعمل فيها وسائل التعادل والترجيح الخ.. وبالاختصار انيسلك الخطيب مسلك الفقيه في معالجة ما يطرحه على المنبر من عقيدة او احكام. 2- اثراء مادة المنبر، بمعنى تنويع مضامين المنبر والتماس المواد المشوقة للسامع التي يجب ان تاخذ بعين الاعتبارالاختلاف في مستوى المستمعين ومداركهم في الوقت نفسه والظروف المحيطة بالمنبر، وبذلك يحافظ على رعيلالمنبر ورواده ويعمل على زيادة عددهم من الناحية الكمية، كما يعمل على الارتفاع بمستواهم تدريجيا، وذلك فيقوالب تتناغم مع امزجتهم، لانهم من شرائح غير متجانسة من كافة النواحي غالبا، وكل ذلك في اطار اجوائنا العقديةوالشرعية، فهي الهدف الاساسي. 3- العمل على الارتفاع بالمنبر حتى يصل الى مستوى مرجع متجول يرجع اليه الجمهور للتعرف الى كثير مما يهمه، منقريب او بعيد، من حكم شرعي او عقيدة. وبتعبير آخر، الطموح الى جعل المنبر مكتبة متنقلة ترتقي بمقدار ما تؤديالمطلوب للجمهور، على نحو موسوعي لا يصل الى حدود التخصص. واذا قدر له ذلك فهو فتح في آفاقنا المعرفية.وبذلك يكون المنبر مؤهلا للخوض في الافكار العامة، وليس دخيلا عليها، مع لفت النظر الى انه فعلا سائر الى هذهالمرتبة رغم الثغرات التي تحوطه، وكل ذلك لالتفاف الناس حوله بدافع من العقيدة وطلب الاجر. وهذه الامور الثلاثة التي اجملتها فيها تفاصيل كثيرة وشعب دار حولها كثير من النقاش، وخصوصا من ناحية ان ما هوقائم بالفعل يمكن تهذيبه، او ما هو مؤمل وممكن في حدود الامكانات المتاحة، لا ارى ضرورة لذكره هنا وانما اردتمجرد الاشارة اليه. الخطيب ذلك ما له صلة بالمضمون الثقافي للمنبر، اما الجانب المتحرك في افق المنبر، وهو الخطيب، فانه، وان كان ليس بعيداعن الذهن عند بحث المضمون، كان السيد يرى انه العنصر المؤثر فيه والروح الحقيقية له. ولهذا استاثر بحصة لاتقل عن حصة مضمون المنبر في الحديث مع السيد الصدر(رض)، من حيث ما يجب ان يحمله من مؤهلات وما يتصف به من صفات. وكان اهم ما انتهت اليه الاراء ما ياتي: 1- ان يكون رعيل الخطباء قسما من الحوزة لا قسيما لها، بمعنى ان يسير على ما يسير عليه طلاب الحوزة من خطوات في المنهج والمضمون، وفي سلوكه وهديه والتزامه باجواء الحوزة. واذا قدر له ان يتصف بذلك، فستحصل له اموراهمها: الثقة بنفسه وانه بمستوى اداء الرسالة علميا وستتغير النظرة اليه عند الجمهور، من كونه مجرد ذاكر يمارس موضوعا يتصل بالعواطف عند محبي آل البيت (ع) الى كونه من اهل العلم الذين يقومون بما يقوم به ممثلو العلماء فيالبلدان. غاية ما في الامر ان الممثلين ثابتون في مكان محدد وهؤلاء متجولون، وبذلك سيكون الخطباء مشمولين بكل ما للحوزة من حقوق ورعاية وغطاء مادي من الحقوق الشرعية حتى لا يتعرضوا للضياع في ايام العجز والشيخوخة،الىغير ذلك من مكاسب. 2- يتعين على الخطيب، اضافة الى تمرسه المنهج الحوزوي،ان يحقق اتقان الاليات ذات العلاقة بفن الخطابةالحسينية، لان ذلك من اول شروط المنبر الناجح، على ان تكون هذه الامور مسايرة للتطور اداء ومضمونا، ومنسجمةمع ضوابطنا الشرعية والاخلاقية، وحاملة لسمات عقيدتنا في خطوطها العامة، ومتصفة بالبعد عن المبالغاتوالتهويلات، الامر الذي يجعلها مستساغة، وبالاختصار ان تكون وفق المواصفات السليمة. ان هذه الاليات المذكورة هي العنصر الفاعل في جذب الجمهور الى المنبر، ومن ثم مخاطبته وفق المستويات التييخضع لها، من حيث الزمان والمكان والهوية وغير ذلك مما يحدد آفاق المستمعين. وينبغي الا يحرص الخطيب علىمجرد ارضاء المستمعين بالنزول الى مستواهم وما يتوقون اليه، خصوصا اذا كان يؤدي الى الهبوط بمستوياتهم، لا بد منمحاولة الارتقاء بهم تدريجا وبهدوء. ان بعض تلك الممارسات حتى لو كانت سائغة شرعا، لكنها اذا كانت تودي الى مايهبط بجمهورنا، ينبغي الابتعاد عنها، ان عملية الانتقاء هنا ضرورية ينبغي ان ترضي مزاجنا الديني، وان كانت لا ترضيالخطيب او الجمهور، ذلك ان الخطيب حامل رسالة، والرسالة تبني وان كانت عملية البناء متعبة تكلف جهداومعاناة. 3- انطلاقا من ذلك اصبح لا بد من عملية انتقاء لمن يمارس الخطابة، بمعنى انه ينبغي الا يكون الباب مفتوحا امام من يريد سلوك هذا الطريق ما لم يحمل المؤهلات، ولو بالحد الادنى، وليس من المحتم دخوله هذا السلك، بل يمكنتيسير السبيل امامه الى اداء رسالة عن طريق الحوزة الت