وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : بینات
الثلاثاء

١٦ فبراير ٢٠١٠

٨:٣٠:٠٠ م
174087

في ذکری استشهاده

الشهید الثاني (العاملي)

ولد الشهيد الثاني في 13 شوال 911هـ، من أسرة علمية عريقة فأبوه كان من كبار أفاضل عصره، وكان ستة من آبائه من الفضلاء المرموقين، وامتدت هذه الصفات في أبنائه فعرفت بسلسلة الذهب. كان الشهيد يتمتع بمخايل النجابة والذكاء وحب العلم والمعرفة، وقد ساهمت الظروف في تأمين البيئة الصالحة له، فكان ختمه للقرآن في سنة 920هـ، وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره، وشكل ذلك انطلاقة لقراءة الفنون الأدبية والفقه يرعاه والده ويدرسه، فقرأ عليه مختصر الشرائع واللمعة الدمشقية وفي الروضات حتى وفاته سنة 925هـ. نشأته: نشأ هذا العالم في أُسرة علميّة فاضلة، يكفي أنّ ستّة من آبائه وأجداده كانوا من العلماء الفضلاء. وكان قد اجتمع لديه عاملان مهمّان نهضا به إلى تسلّق سَنام المجد وهما: الأوّل: الجوّ العلميّ الذي تأثّر به فبَلوَر ذهنيّته، ونمّى فيه مواهب الفقاهة والمعرفة. الثاني: الحالة الروحيّة التي كان يتمتّع بها الشهيد الثاني منذ صباه، فقد بكّر بختم القرآن والتوجّه العباديّ. وإلى جانب هذين العاملين كانت الهجرة من وطنه طلباً للعلم سبباً آخر في ارتقائه مدارجَ المعرفة. فسافر إلى (ميس) إحدى قرى جبل عامِل في جنوب لبنان ولم يكن تجاوز سنَّ المراهقة، فأكمل دراسته المعمّقة مشفوعةً بالبحث الجادّ والمراجعة المركّزة.. فقطع مراحلَ عديدة في مدّة قصيرة وهو في شوق إلى العلم وحُسن استماعٍ لحديث الأكابر، وكان شجاعاً في ساحات الحوار والمباحثة، يُفيد ويستفيد.

 رحلته العلمية والإيمانية: بعد وفاة والده قصد ميس الجبل لطلب العلم فتتلمذ على يد الشيخ علي عبد العالي، وكان له من العمر أربعة عشر عاماً، وبقي فيها إلى أواخر سنة 933هـ، فقرأ عليه "شرائع الإسلام" و"الإرشاد" وأكثر القواعد، وكانت المدة التي قضاها في ميس ثماني سنوات وثلاثة أشهر، وحصلت فيها بينه وبين الشيخ مودة. ارتحل بعدها إلى كرك نوح حيث يقيم الشيخ علي الميسي زوج خالته الذي زوجه ابنته، وقرأ بها على المرحوم السيد حسن ابن السيد جعفر صاحب كتاب المحجة البيضاء جملة من الفنون منها "قواعد ميثم البحراني" في الكلام و"التهذيب" في أصول الفقه و"العمدة الجلية" في الأصول الفقهي و"الكافية" في النحو.

بعد سبعة أشهر راوده الحنين إلى بلده، فعاد إلى جبع، فاستقبله أهلها بالحفاوة والترحاب، وبقي فيها من عام 934إلى عام 937هـ، استغلها في المذاكرة والمطالعة والتوجيه، فكان مثالاً للرجل الرسالي المشفق على أبناء بلده والحريص عليهم، غير أن ذلك لم يمنعه من متابعة تحصيله العلمي فانتقل إلى دمشق، واستُقبل بها على بعض أعلامها لا سيما الشيخ الفاضل المحقق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي وقرأ عليه بعض مؤلفاته في الطب والهيئة، وبعض "حكمة الإشراق" للسهروردي، ودرس "علم القراءة" على الشيخ أحمد بن جابر عاد بعدها إلى جبع عام 938هـ.

دفعه الفضول العلمي للعودة في سنة 941هـ إلى دمشق ثانية، واجتمع بجماعة من الأفاضل في مقدمتهم الشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي وقرأ عليه جملة من الصحيحين وأجازه في الرواية.

لم يتوقف الشغف العلمي للشهيد على بلاد الشام، بل آثر الاطلاع على المناهج والمدارس الفكرية لدى المذاهب الإسلامية بمختلف تفرعاتها، فرحل إلى مصر سنة 943هـ، ولما وصل إلى غزة اجتمع بالشيخ محيي الدين عبد القادر بن أبي الخير الغزي وجرت بينهما بعض المناقشات وأجازه إجازة عامة، وتوطدت العلاقات بينهما وصلت إلى درجة أدخله معها الشيخ الغزّي إلى خزانة كتبه فجال فيها وقلب كتبها ولما هم بالخروج طلب إليه أن يختار منها كتاباً.

ومكث في غزة مدة تابع بعدها السير إلى مصر التي كانت في تلك الأيام حاضرة مهمة في عالم الفكر والثقافة والعلوم فحضر فيها كثيراً من حلقات المساجد والمدارس وقرأ على كثير من شيوخ الفقه والحديث والتفسير كالشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي، والملاّ حسين الجرجاني، والملا محمد الاسترابادي، وغيرهم، دارساً الفقه والفنون العربية والعقلية (المعاني والبيان وأصول الفقه والنحو والهندسة والهيئة والمنطق والعروض والحديث والتفسير القراءة والحساب).

كان يرفض أن يقف كل جماعة على مذهب واتباعه دون الاطلاع على معارف المذاهب الأخرى وعلومها. وكان يدعو إلى الحوار والمناقشة، وأن يكون الأخذ بالآراء مبني على الوضوح والبيان، ولا أدل على ذلك ما كان من مناقشته للشيخ أبو الحسن البكري حيث يرفض أن يجمد "كل فريق منهم على مذهب من المذاهب" ولم يدر ما قيل فيما عدا المذهب الذي اختاره مع قدرته على الاطلاع والفحص وإدراك المطالب.

وبعد أن ألم بجملة وافية من العلوم والمعارف الإسلامية، واطلع على مناهج الدراسة وتعرف على المذاهب والمدارس الفكرية المتنوعة، غادر في عام 943هـ لأداء فريضة الحج والعمرة، وعاد في عام 944 هـ إلى بلده فابتهج أهل العلم بعودته وتزاحمت على داره أفواج طلبة العلوم فشرع بالتدريس والتوجيه، ولم يكتف بذلك فبنى مسجداً وغيره من المشاريع.

ومما يجدر ذكره أن الشهيد كان قد التمس في نفسه ابتداء من عام 933هـ ملامح الاجتهاد، وبانت قدرته على الاستنباط وأظهر ذلك عودة الناس إليه في التقليد وكان عمره 33 سنة.

كان مولعاً بحب السفر وشغوفاً في ركوبه ومجاهدة نفسه، خاصة إذا كان المقصد الأئمة (ع)، فترك مهوى قلبه وفؤاده، وغادر إلى العراق، وكان ذلك في عام 946هـ، ومما يروى أن رفقاءه في السفر كانوا متعددي الأوطان والانتماءات الدينية، ومنهم من كان يعادي الشيعة، ولكن الشهيد استطاع أن يستميله بحكمته وتعاطيه الرصين، أضحت بينهما إلفة ومودة وصلت إلى ملازمته والصلاة معه، محولاً بذلك العدو إلى صديق حميم.

ونظراً لما كان بيت المقدس يختزنه من حب في قلبه وفي وجدانه لما يشكله من مخزون قيمي وتراثي، وحيث كان أولى القبلتين وثاني الحرمين، آثر زيارته في منتصف ذي الحجة عام 948هـ، والتقى بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسي، وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازة عامة، ثم رجع إلى جبع، وأقام بها إلى سنة 951هـ مستقلاً بالمطالعة والمذاكرة متفرغاً وسعه في ذلك.

سفره إلى القسطنطينية:

سافر بعدها إلى القسطنطينية ليلتقي فيها بعض كبار المسؤولين، وكان في العادة يتوجب على من يريد لقاء المسؤولين في الآستانة أن يأخذ تعريفاً من حاكم منطقته، وكان القاضي المعروف بالشامي هو قاض صيدا آنذاك، فامتنع الشهيد أن يأخذ منه تعريفاً مؤثراً الاكتفاء بتعريف نفسه هناك بتأليف رسالة من عشرة مباحث كل منها في فن من الفنون العقلية والفقهية والتفسير وغير ذلك فقبلها قاضي العسكر دون أن يطالب بتعريف قاضي صيدا، وهذا ما يدل على أن الشهيد الثاني كان يحظى باحترام القادة والحكام في الآستانة وما يزيد في إيضاح علو مكانته أنه ترك له الحرية في اختيار ما يشاء من الوظائف والمدارس فاختار التدريس في المدرسة النورية في بعلبك على مختلف المذاهب بما فيها المذهب الشيعي، ويعد ذلك بمثابة فتح أدى إلى اعتراف السلطان العثماني رسمياً بالمذهب الشيعي من جهة، والإطلالة للشهيد على المذاهب الإسلامية الأخرى تدريساً وبحثاً من جهة أخرى، ما أكسبه وداً واحتراماً زائدين، وأصبح مجال حركته في دائرة أوسع تشمل الساحة الإسلامية كلها، ما جعله في مكانة يحسده عليها الخصوم والمتربصون.

وقبل أن يعود إلى المدرسة النورية أبى عليه حبه للاستطلاع والسفر الذي يعتبر مدرسة حيّة ومتنقلة يزيد فيها من معارفه ويكسب تجربته قوة ومناعة، ويعمق فيها من منهجه ومراسه في ميداني الكتابة والمجتمع، وتجلى ذلك حركة إبداعية فكتب بقلم الباحث المتزن والواثقِ، فاتسمت كتابته بالدقة والموضوعية، فوصف المدن والبلاد التي زارها واتصل بعلمائها من غير أن يفوته ذكر مناخها وثمارها وبعض عادات أهلها، واستمرت جولته هذه تسعة أشهر.

ينتقل بعدها إلى العراق وتسبقه إليها شهرته، فيتدفق عليه الناس من مختلف الطبقات، فيزور سامراء في عام 952ه، و