وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ يروي ناحوم غولدمان، أحد الرؤساء السابقين للمنظمة الصهيونية العالمية، في كتابه "المفارقة اليهودية"، تفاصيل لقاء جمعه مع ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني في صيف عام 1956، حدثه فيه الأخير قائلا: "لقد أصبحت على مشارف السبعين من عمري، فلو سألتني عما إذا كان سيتمّ دفني في دولة إسرائيل لقلت نعم، فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة ستبقى هنالك دولة يهودية. ولكن إذا سألتني عما إذا كان ابني عاموس سيكون محظوظا بأن يُدفن بعد موته في دولة يهودية فسوف أجيبك ربما بنسبة 50٪". قاطعه غولدمان قائلا: "كيف لك أن تنام مع هذا التوقّع؟". فأجابه: "من قال لك إنني أذوق النوم يا ناحوم؟!".
تسلط هذه الحكاية الضوء على أزمة عميقة الجذور لدى الإسرائيليين، وهي فقدان الإحساس بالثقة في أمن دولتهم، بل وفي بقائها أصلًا على المدى الطويل، وهي أزمة تضرب المجتمع الإسرائيلي طوليا من أرفع قياداته إلى أدنى قواعده.
ويتفاقم هذا الشعور بانعدام الأمن في الأوقات التي تتعرض فيها دولة الاحتلال الصهيونية لضربات من خصومها حتى لو ألحقت بهم عمليا من الأذى أضعاف ما أصابوها به، وهو ما ينطبق تماما على الأوضاع بعد طوفان الأقصى.
فخلال عام كامل من الحرب على غزة، ارتكبت دولة الاحتلال الصهيونية زهاء 5000 مجزرة بحق المدنيين، خلفت أكثر من 42 ألف شهيد، وأكثر من 98 ألف مصاب، فضلا عن 10 آلاف مفقود حتى اللحظة.
كما شنت حملة تهجير أرغمت فيها مليوني فلسطيني، بنسبة قاربت 90% من المجموع الكلي لسكان قطاع غزة، على ترك منازلهم.
ومع ذلك، تظهر استطلاعات الرأي المتواترة أن السواد الأكبر من المستوطنين الصهيونيين يشعرون بأنهم خسروا الحرب، أو فشلوا في تحقيق النصر خلالها على أقل تقدير.
يظهر ذلك مثلا في الاستطلاع الذي أجرته قناة كان العبرية بالتعاون مع معهد "كنتر" ونُشر عشية الذكرى الأولى لطوفان الأقصى في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وأكد خلاله 38٪ من المستوطنين الصهيونيين المشاركين أنهم يعتقدون أنهم خسروا الحرب، في حين قال 27٪ فقط إنهم يثقون في أن دولة الاحتلال الصهيونية انتصرت، وقالت النسبة الباقية إنها لا تعرف على وجه التحديد من المنتصر.
خلال نفس الاستطلاع؛ قال 41٪ من المشاركين إن ثقتهم في جيشهم تراجعت، كما أجمعت أغلبية ساحقة، بنسبة 86%، على رفض فكرة العودة للسكن في مستوطنات "غلاف غزة" مرة أخرى.
بيد أن نتائج أكثر بؤسا أظهرها استطلاع رأى آخر أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في سبتمبر/أيلول 2024 ونشر في غرة أكتوبر/تشرين الأول 2024، حيث عبر ثلثا المشاركين عن تدهور إحساسهم بالأمن الشخصي منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى وقت إجراء الاستطلاع.
وليست استطلاعات الرأي وحدها في ذلك، بل إن محللين وباحثين بارزين في دولة الاحتلال الصهيونية تبنوا نفس الاستنتاجات، ومنهم المحلل العسكري عاموس هرئيل، في مقال له في صحيفة هآرتس، جاء فيه: "الفشل الذريع الذي حدث في 7 أكتوبر سوف يستمر في مصاحبة دولة الاحتلال الصهيونية، وكذلك الحرب التي قد تستمر لسنوات طويلة".
وجاء كذلك في تقدير موقف بعنوان "عن حلم الشرق الأوسط الجديد وانهياره"، أعده ميخائيل ميلشتاين رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب، بمناسبة الذكرى الأولى للحرب، أن "السابع من أكتوبر كان اليوم الأكثر دموية في تاريخ الصراع، وهو مفاجأة صادمة وعلى جبهة لم يُنظر إليها على أنها تهديد مباشر؛ مما يقوض الشعور بالتفوق الإستراتيجي، وهو صدمة ستبقى تعيشها الذاكرة الجماعية اليهودية".
وفي مقال نشرته صحيفة "زو هدريخ" العبرية، قال الكاتب البارز أفيشاي إرليخ "إن السنة الماضية كانت أسوأ سنة في تاريخ دولة الاحتلال الصهيونية، معتبرا أن مستقبل البلاد يبدو غامضًا وسط ضباب حرب طويلة دون هدف واضح، ودون موعد نهائي، ودون تكلفة محددة".
وفي مقال في جريدة هآرتس للكاتب حاييم ليفنسون تحت عنوان: "قول ما لا يمكن قوله.. لقد هزمت "دولة الاحتلال الصهيونية" هزيمة كاملة" علق الكاتب قائلا: "لن يتمكن أي وزير في الحكومة من استعادة شعورنا بالأمن الشخصي".
هذه المفارقة بين حجم الدمار والخسائر التي تسبب فيها العدوان الإسرائيلي على غزة وشعور الإسرائيليين أنفسهم بالهزيمة وفقدان الأمن، تفتح الباب لتساؤلات مهمة حول أسباب هذا الشعور المتأصل، التي تنقسم إلى أسباب بنيوية عميقة تسكن الوجدان الإسرائيلي وتجعله دائم الشعور بالقلق والتهديد، وترفع حساسيته للشعور بالخطر أكثر من غيره، وأسباب أخرى أكثر حداثة نتجت عن عملية "طوفان الأقصى" التي أدمت دولة الاحتلال الصهيونية، دولة ومجتمعا، بشكل ربما لا تبرأ منه أبدا.
هكذا صرح ديفيد بن غوريون بُعيد إعلان قيام دولة الاحتلال الصهيونية عام 1948، معبرا ليس فقط عن آمال عقائدية بشأن حدود دولة اليهود التاريخية كما يتخيّلها أتباع الحركة الصهيونية المجرمة، وإنما عن ضرورة جيوسياسية لتأمين دولة الاحتلال الصهيونية الوليدة التي فُرضت قسرا فوق أرض طُرد منها أهلها، ووسط محيط يعادي وجودها بصورة جذرية.
لدى دولة الاحتلال الصهيونية العديد من المعضلات، لكن الجغرافيا هي أهم هذه المعضلات وأعقدها على الإطلاق. بادئ ذي بدء، تعاني الجغرافيا للكيان المحتل الغاصب من قِصر المسافة المِتْرية بين حدود الأراضي التي يسيطر عليها وبين عاصمته المفترضة في القدس التي تواجه انكشافا واضحا أمام الخصوم، كما تعاني دولة الاحتلال الصهيونية من هشاشة خطوط اتصالها البحرية والبرية، وسط جيران لا تشعر بينهم بالأمان الكافي بالرغم من تحييد جبهتي مصر والأردن رسميا عقب اتفاقات السلام في كامب ديفيد 1979 ووادي عربة 1994.
هذه المعضلة، كما تهدد الجغرافيا، فإنها تهدد نفسية المستوطن الصهيوني وترفع لديه متطلبات الشعور بالأمن مقارنة بالمواطن في أي دولة أخرى "طبيعية".
ولذا يعتقد كثير من المستوطنين الصهيونيين أن حدود مستعمراتهم الحالية غير كافية، وأن أمان الشعب اليهودي لن يتحقق إلا بمخطط الدولة المترامية الأطراف الذي وضعه "الآباء المؤسسون"، بما يعطي لدولة الاحتلال الصهيونية أمانا طوبوغرافيا طبيعيا ويوفر للمجتمع الإسرائيلي في قلبها حزاما آمنا.
فالوضع الحالي لدولة الاحتلال الصهيونية وغياب العمق الدفاعي يجعلها غير مستعدة لمواجهة عمليات الغزو والاجتياح ولا لإدارة العمليات البرية داخل أراضيها؛ ولذا تعتمد إستراتيجيتها الدفاعية بشكل رئيس على مبدأ "الإنذار المبكر" الذي يمنحها أفضلية قتالية وقدرة على المواجهة الاستباقية.
ومن ثم فإن ثقة المستوطنين الصهيونيين في قدرة الدولة على استشعار الهجوم قبل حدوثه بوقت كافٍ، والاطمئنان للتفوق الاستخباري والتقني؛ ليسا أمرين هيّنين وإذا ضُربا مرة -كما حدث يوم الطوفان- فلن تستعيد دولة الاحتلال الصهيونية عافيتها بسهولة، بل ربما لن تستعيدها أبدا.
ومثل الجغرافيا، يأتي التاريخ الذي لا يلعب كذلك لصالح الوعي الصهيوني، الذي يعاني من عقدة موروثة تتعلق بالخوف من العودة إلى الشتات، ويختزن ذاكرة الاضطهاد الأوروبي التي تضغط بها ماكينة الدعاية الصهيونية على الوعي الصهيوني نفسه بالقدر ذاته الذي تضغط به على الغرب، وهو ما يظهر في همسات القادة الصهيونيين وتصريحاتهم، من بن غوريون إلى نتنياهو.
ففي 2017، وقبل 6 سنوات من الطوفان؛ صرح رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني الحالي بنيامين نتنياهو، قائلا: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة".
هذا المجتمع القلق والمضطرب والخائف من الزوال لا يستطيع تحمل تهديدات وجودية كالتي سببها طوفان الأقصى، ولا يقدر على الخروج من تبعاتها سريعا.
وبشكل أكثر تفصيلا قال رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك في مقال بجريدة يديعوت أحرونوت في مايو/أيار 2022: "التاريخ اليهودي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككهما في العقد الثامن، وتجربة الدولة الحالية على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته".
ثمة شعور دفين في العقلية الصهيونية بأن وجود دولتهم، إسرائيل، طارئ ومؤقت، وأنها استثناء تاريخي لا يملك مقومات الاستدامة، وليست حقيقة جغرافية ولا واقعا جيوسياسيا راسخا.
وهذا الشعور ليس وليد قراءات تلمودية وتراكمات تاريخية فحسب، وإنما يستند إلى وقائع سياسية وتهديدات داخلية وخارجية مرشحة للانفجار دوما، وقد انفجر بعضها بالفعل ولا تزال تداعياته آخذة في الاتساع شهرا بعد شهر.
وإلى جانب الشعور بالتهديد، ثمة شعور آخر عميق في الوعي الصهيوني يتجلى في احتقار المجتمعات العربية عموما والشعب الفلسطيني خصوصا، وهذا الشعور بقدر ما يطلق قدرا هائلا من الاستعداد للعنف الدموي في العقيدة القتالية الإسرائيلية، بوصفها لا تقاتل بشرا وإنما "حيوانات بشرية" كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بعد ثلاثة أيام من انطلاق الطوفان، فإن هذه النزعة الاستعلائية تولد كذلك شعورا بالحرج وبالهزيمة إذا أثبتت هذه الحيوانات البشرية -كما يرونها- مقدرة عالية على المقاومة، بل وتوجيه الضربات الاستباقية الموجعة التي جرحت الاستعلاء الإسرائيلي وتركت فيه ندوبا ليس من السهل أبدا محوُها.
هذه العوامل المركبة والمتشابكة والضاربة في عمق الوعي الصهيوني، شعبا وقادة، تجعلهم أكثر حساسية للأخطار مقارنة بالدول والشعوب الأخرى.
وتصبح الأمور أسوأ في ظل حرب ممتدة ولا تزال مرشحة للتوسع، وتعد أطول حرب في تاريخ دولة الاحتلال الصهيونية منذ تأسيسها.
لم يعد مستغربا إذن أن المستوطنين الصهيونيين وداعميهم صاروا في أدنى درجات تفاؤلهم بشأن مستقبل مستعمراتهم منذ لحظة تأسيسها، وأنه مهما ارتكب جيشهم من الجرائم في غزة ولبنان وفي غيرهما، فما من سبيل لتغيير هذه الحقيقة.
تأثير الطوفان
يقودنا ذلك إلى التساؤل: ما الذي حدث في دولة الاحتلال الصهيوني خلال عام من الحرب ليتعزّز هذا الشعور المتأصل بالهزيمة والفشل؟
هناك 3 تحولات رئيسية يمكن رصدها في هذا الصدد، أولها انهيار الثقة التاريخية في جيش الاحتلال الصهيوني وقدرته على حماية "المستعمرات" وتوفير الأمن للمستوطنين فيها، وثانيها الاستنزاف الاقتصادي المتواصل الناتج عن حالة الحرب المستمرة، الذي يضغط على مستوى الرفاهية الذي يأمله المستوطنون الصهيونيون من حكومتهم المحتلة، وأخيرا هناك التحول في الرأي العام الغربي الذي صار أكثر استبصارا بحقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حتى وإن لم تنعكس تداعيات هذا الاستبصار على المواقف الرسمية للحكومات الغربية حتى الآن.
انهيار الثقة: جيش الاحتلال الصهيوني في مأزق تاريخي
يصف حاييم ليفنسون "دولة الاحتلال" في مقاله المنشور في أبريل/نيسان 2024 الوضع في دولة الاحتلال قائلا: "لسنا دولة كبيرة، نحن بلد صغير يمتلك قدرات جوية عالية شرط أن تنتبه في الوقت المناسب"، هكذا يمكن لدولة الاحتلال فقط أن تكون آمنة، لكن في السابع من أكتوبر فقدت دولة الاحتلال المبادرة وظهرت قدراتها التقنية والدفاعية محل شك أمام مستوطنيها والعالم كله.
ثمة تقارير عديدة تؤكد أن الاستخبارات الإسرائيلية -إذا صحت تلك التقارير- كانت قد التقطت عدة مؤشرات تفيد بأن قادة المقاومة يفكرون في عملية لاقتحام مستوطنات غلاف غزة، لكن الثقة المفرطة في تأمين الحدود الجنوبية جعلت التقييم النهائي يرى أن هذه المعلومات مجرد أمانٍ، ولا يمكن أن تتحول إلى خطط عملية فضلا عن واقع ملموس.
فشلت دولة الاحتلال الصهيونية في تقدير قوة المقاومة، وفشلت في تحديد ساعة الصفر، كما فشلت في المواجهة، وفقدت التوازن ساعات عديدة بعد بدء العملية دون أي رد صهيوني.
وطوال شهور الحرب، لم يلتئم الجرح الرئيسي الذي أحدثه الطوفان، ففشلت دولة الاحتلال مرة أخرى في إظهار مقدرة استخبارية داخل غزة، فلم تستطع هدم البنية التحتية للمقاومة حتى في أقرب النقاط الملاصقة لمستوطنات الغلاف، ولا يزال قادة المقاومة الرئيسيون أحياء، ولا يزال الأسرى في مكان غير معلوم رغم اجتياح القطاع.
الحرب إذن زادت من شعور الصهيوني بالعجز ولم تشف جروحه الأولى. وبعد اغتيال الأمين العالم لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله، وتفجيرات منظومة الاتصال في لبنان، كادت دولة الاحتلال للحظة أن تستعيد الشعور بالسيطرة والمبادرة -ولو على جبهة واحدة- لكن الأحداث لم تترك هذا الشعور طويلا ليستقر.
فسرعان ما ضربت صواريخ إيران قواعد دولة الاحتلال الصهيونية الجوية وأصابتها بدقة، بل ضربت تمركزاتها العسكرية داخل قطاع غزة نفسه، في محور نتساريم الذي لا يتعدى عرضه كيلومترا واحدا، وأصابت أهدافها بدقة وثقة عالية في تحدٍّ واستعراض لقدرات صواريخها على إصابة أهدافها دون انحراف كان من الممكن لو حدث أن يؤدي إلى مجزرة في القطاع المكتظ بالسكان.
أمام هذا الواقع تتعرض العقيدة الأمنية لجيش الاحتلال لتحدٍّ بالغ، وتآكل في الثقة يصعب ترميمه. كما يشعر الصهيونيون ليس بالفشل فقط، بل بعدم الثقة في المستقبل كله، حيث عبر 48٪ من المستوطنين الصهيونيين، في الاستطلاع الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، عن تشاؤمهم بشأن مستقبل دولة الاحتلال، كما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية بمناسبة عام على الحرب أن 61٪ من المستوطنيين أصبحوا لا يشعرون بالأمان في مستعمراتهم.
إدماء اقتصادي واستنزاف طويل المدى
ولنعد إلى التاريخ مجددا، ففي أعقاب حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 دخل الاقتصاد الإسرائيلي في موجة طويلة من الركود، بسبب ارتفاع الإنفاق العسكري، مع تراجع النمو الاقتصادي وتعثر المداخيل القومية للاقتصاد. وبعد دورة من الزمن، ها هو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش -الذي يُعدّ من أكثر القيادات الإسرائيلية رغبة في توسيع الحرب واستمرارها- يقر بالضغط الهائل الذي تمثله الحرب الحالية على الاقتصاد الإسرائيلي، واصفا إياها بأنها "الحرب الأعلى تكلفة في تاريخ دولة الاحتلال".
ويقدر خبراء إسرائيليون تكلفة الحرب حتى الآن بحوالي 250 مليار شيكل (67 مليار دولار) وهو ما يمثل 12٪ من الناتج المحلي القومي الإجمالي، ويتوقعون أن تحتاج وزارة الدفاع إلى زيادة سنوية تقدر بنحو 20 مليار شيكل لمواجهة التحديات الجديدة. أدت هذه المستجدات إلى عجز تراكمي في الميزانية العامة زاد على 8٪؛ مما أدى إلى تصاعد الاعتماد على الديون التي زادت خلال عام واحد بمقدار ضعفين.
وتحت وطأة الحرب، تراجعت العملة المحلية، الشيكل، بنسبة تتجاوز 5٪ خلال عام، وبلغت خسائر قطاع السياحة رقما قياسيا وصل إلى 18.7 مليار شيكل (4.9 مليارات دولار)، كما قُدرت خسائر البورصة الإسرائيلية بنحو 20 مليار دولار.
بيد أن الآثار الأكثر استدامة تكمن في تراجع الثقة في الاقتصاد الإسرائيلي؛ فقد خفضت العديد من الوكالات المختصة تصنيفها الائتماني لدولة الاحتلال، مثل وكالة "ستاندرد آند بورز" التي خفضت تصنيف دولة الاحتلال من "A+" إلى "A" وذلك للمرة الثانية خلال العام، وأبقت على نظرتها المستقبلية السلبية، وكذلك فعلت وكالتا "فيتش" و"موديز". وتزامن ذلك مع خروج 60٪ من المستثمرين الأجانب من السوق الإسرائيلية.
وثمة عوامل أخرى ستظهر آثارها تباعا، مثل إغلاق آلاف الشركات نتيجة تدهور الوضع الأمني أو تهجير عمالها وإغلاق مقراتها في مستوطنات الشمال وغلاف غزة، فضلا عن استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط؛ مما يلقي أعباء مزدوجة على ميزانية الدولة وعلى سوق العمل في الوقت نفسه.
وتقدر شركة معلومات الأعمال الإسرائيلية "كوفاس بي دي آي" (Koface BDI) أن 60 ألف شركة إسرائيلية ستغلق أبوابها هذا العام، وغالبية تلك الشركات من فئة الشركات الصغيرة والصغرى.
ما لم تعتده دولة الاحتلال: تحولات في الرأي العام الغربي
بالتزامن مع ذلك كله، تضررت صورة دولة الاحتلال الصهيونية في الغرب بشكل غير مسبوق، وأصبحت الأصوات أكثر جرأة على انتقادها، خاصة وسط صفوف اليساريين والتقدميين، والشباب الصغار عموما.
ومثالا لذلك، أظهر استطلاع رأي أجراه معهد هارفارد للسياسة في الولايات المتحدة، فيما بين 14 و21 مارس/آذار الماضي، على عينة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما، أظهر أن 5 من كل 6 أشخاص يؤيدون الوقف الدائم للحرب على غزة.
هذا التدهور في صورة دولة الاحتلال في الغرب يضع الكثير من الأمور على المحك، فقد اقتاتت الدولة العبرية منذ ولادتها على المساعدات الغربية، خاصة بعد إعلان أيزنهاور 1957 الذي مثل بداية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، وفتح أبواب الدعم الغربي أمام دولة الاحتلال التي أصبحت المتلقي الأكبر للمساعدات الأميركية منذ الأربعينيات فضلا عن أطنان أخرى من المساعدات الغربية دُفعت جراء الاهتمامات الجيوسياسية والضريبة الباهظة التي فُرضت على أوروبا نتيجة اضطهاد اليهود خلال الحقبة النازية.
لكن الحرب الحالية، والتغيرات المصاحبة لها، تعيد مساءلة هذا الدعم المفتوح وترفع حدة النقاش حوله بشكل غير مسبوق، متحدية السردية الإسرائيلية التي ظلت سائدة ومهيمنة لعقود طويلة. وتحت وطأة الضغوط الحقوقية المحلية؛ قررت العديد من الدول حظر، أو تخفيض، الصادرات العسكرية لدولة الاحتلال، ومن بينها كندا، وإيطاليا، واليابان، وبريطانيا.
كما قطعت عدة دول علاقتها بشكل كامل مع دولة الاحتلال مثل بوليفيا وكولومبيا، وانضمت 7 دول إلى دعوى جنوب أفريقيا لمقاضاة دولة الاحتلال بعد قيامها بالإبادة الجماعية بينها كولومبيا والمكسيك وتركيا ونيكاراغوا، إضافة إلى دولة أوروبية مهمة هي إسبانيا.
واعترفت الأمم المتحدة في مايو/أيار 2024 بدولة فلسطين "كاملة العضوية" بغالبية فاقت الثلثين من أعضائها (147 دولة من الدول الأعضاء). وخلال عام من الحرب أعلنت 40 جامعة، بعضها من كبريات الجامعات الغربية، المقاطعة الأكاديمية والمؤسسية لجامعات دولة الاحتلال.
على المستوى الإقليمي، كانت دولة الاحتلال قبل اندلاع طوفان الأقصى متجهة في تقدير الكثيرين إلى سنوات "ربيع إقليمي" بفضل اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية. لكن دراسة نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي في أبريل/نيسان 2024 اعتبرت أن أسوأ ما قد يحدث بسبب الحرب هو أنها ستفوت على دولة الاحتلال منافع التطبيع وتعطل وصول قطاره إلى محطات جديدة.
وطبقا للدراسة؛ رفعت الحرب أثمان التطبيع على نحو مذهل، ليس فقط لأن الدول التي تفكر في التطبيع ستتعين عليها المطالبة بخطوات عملية من دولة الاحتلال في طريق الدولة الفلسطينية، بل لأن الدول المطبعة أصلًا سوف تكون أكثر ترددا في أخذ علاقاتها مع دولة الاحتلال إلى مستويات جديدة.
بداية الانهيار
هذا المزيج المعقد من التعقيدات الجغرافية والتراكمات التاريخية والهشاشة النفسية، الممتزج بالوقائع المعقدة الجديدة التي فرضها طوفان الأقصى وفشلت المذابح الإسرائيلية في تغييرها، بدأ في دفع المجتمع الصهيوني بأسره إلى التصرف كـ"جيش منهزم". بداية، فجّرت الحرب أعمق أزمات المجتمع الصهيوني ووسعت الشرخ الديني العلماني إلى هوة غير مسبوقة، سيتصاعد ظهورها في قضايا عديدة لن تقف عند مسألة تجنيد الحريديم وحدها، كما أظهرت مدى التباعد بين التيارات السياسية، وإذا كان مناخ الحرب والشعور بالتهديد الوجودي يحجم ظهور تداعيات ذلك فإن شهور الحساب فيما بعد الحرب ستكون أشد وأعنف على المجتمع الصهيوني.
أبعد من ذلك، بدأ الكثير من المستوطنين الصهيونيين يفكرون في النجاة بأنفسهم والفرار ما دام ذلك ممكنا. وقد كشف استطلاع رأى أجرته قناة كان التابعة لهيئة البث الرسمية أن حوالي ربع المستوطنين الصهيونيين فكروا خلال العام الماضي في الهجرة من فلسطين المحتلة دون عودة، بسبب الأوضاع الأمنية التي خلفتها الحرب. وعلى الرغم من أن هذا التوجه كان مرصودا منذ عدة أعوام قبل الحرب، فإنه ازداد بشكل ملحوظ خلال عام الحرب.
وقد نشرت صحيفة "ذا ماركر" (The Marker) الاقتصادية البارزة تقريرا اتهمت فيه الدائرة بإخفاء الأعداد الحقيقية، وقدرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن نصف مليون مستوطن صهيوني غادروا بالفعل دولة الاحتلال ولم يعودوا في الأشهر الستة الأولى من الحرب، ولا يُعلَم ما إذا ما كان ذلك قرارا مؤقتا أم أنه سيتحول إلى هجرة دائمة.
أما البيانات الرسمية لدائرة الإحصاء فتظهر أن 55 ألفا غادروا دولة الاحتلال في 2023 مقابل 38 ألفا في 2022، وتصاعد هذا العدد ليصل إلى 40 ألفا خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024.
يخبرنا ذلك أن مكاسب الحرب وخسائرها لا تحددها فقط أعداد القتلى والمباني المهدمة، فالحرب سلوك شامل متعدد الأوجه وخسائرها أيضا شاملة متعددة الأوجه.
ويظل ذلك التاريخ بمثابة لحظة الحقيقة التي تضغط على الوعي الصهيوني الجمعي وتطارد مستقبلها ووجودها، تماما كما تنبأ قادة الاحتلال عبر العصور.
..................
انتهى / 232
تسلط هذه الحكاية الضوء على أزمة عميقة الجذور لدى الإسرائيليين، وهي فقدان الإحساس بالثقة في أمن دولتهم، بل وفي بقائها أصلًا على المدى الطويل، وهي أزمة تضرب المجتمع الإسرائيلي طوليا من أرفع قياداته إلى أدنى قواعده.
ويتفاقم هذا الشعور بانعدام الأمن في الأوقات التي تتعرض فيها دولة الاحتلال الصهيونية لضربات من خصومها حتى لو ألحقت بهم عمليا من الأذى أضعاف ما أصابوها به، وهو ما ينطبق تماما على الأوضاع بعد طوفان الأقصى.
فخلال عام كامل من الحرب على غزة، ارتكبت دولة الاحتلال الصهيونية زهاء 5000 مجزرة بحق المدنيين، خلفت أكثر من 42 ألف شهيد، وأكثر من 98 ألف مصاب، فضلا عن 10 آلاف مفقود حتى اللحظة.
كما شنت حملة تهجير أرغمت فيها مليوني فلسطيني، بنسبة قاربت 90% من المجموع الكلي لسكان قطاع غزة، على ترك منازلهم.
ومع ذلك، تظهر استطلاعات الرأي المتواترة أن السواد الأكبر من المستوطنين الصهيونيين يشعرون بأنهم خسروا الحرب، أو فشلوا في تحقيق النصر خلالها على أقل تقدير.
يظهر ذلك مثلا في الاستطلاع الذي أجرته قناة كان العبرية بالتعاون مع معهد "كنتر" ونُشر عشية الذكرى الأولى لطوفان الأقصى في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وأكد خلاله 38٪ من المستوطنين الصهيونيين المشاركين أنهم يعتقدون أنهم خسروا الحرب، في حين قال 27٪ فقط إنهم يثقون في أن دولة الاحتلال الصهيونية انتصرت، وقالت النسبة الباقية إنها لا تعرف على وجه التحديد من المنتصر.
خلال نفس الاستطلاع؛ قال 41٪ من المشاركين إن ثقتهم في جيشهم تراجعت، كما أجمعت أغلبية ساحقة، بنسبة 86%، على رفض فكرة العودة للسكن في مستوطنات "غلاف غزة" مرة أخرى.
بيد أن نتائج أكثر بؤسا أظهرها استطلاع رأى آخر أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في سبتمبر/أيلول 2024 ونشر في غرة أكتوبر/تشرين الأول 2024، حيث عبر ثلثا المشاركين عن تدهور إحساسهم بالأمن الشخصي منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى وقت إجراء الاستطلاع.
وليست استطلاعات الرأي وحدها في ذلك، بل إن محللين وباحثين بارزين في دولة الاحتلال الصهيونية تبنوا نفس الاستنتاجات، ومنهم المحلل العسكري عاموس هرئيل، في مقال له في صحيفة هآرتس، جاء فيه: "الفشل الذريع الذي حدث في 7 أكتوبر سوف يستمر في مصاحبة دولة الاحتلال الصهيونية، وكذلك الحرب التي قد تستمر لسنوات طويلة".
وجاء كذلك في تقدير موقف بعنوان "عن حلم الشرق الأوسط الجديد وانهياره"، أعده ميخائيل ميلشتاين رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب، بمناسبة الذكرى الأولى للحرب، أن "السابع من أكتوبر كان اليوم الأكثر دموية في تاريخ الصراع، وهو مفاجأة صادمة وعلى جبهة لم يُنظر إليها على أنها تهديد مباشر؛ مما يقوض الشعور بالتفوق الإستراتيجي، وهو صدمة ستبقى تعيشها الذاكرة الجماعية اليهودية".
وفي مقال نشرته صحيفة "زو هدريخ" العبرية، قال الكاتب البارز أفيشاي إرليخ "إن السنة الماضية كانت أسوأ سنة في تاريخ دولة الاحتلال الصهيونية، معتبرا أن مستقبل البلاد يبدو غامضًا وسط ضباب حرب طويلة دون هدف واضح، ودون موعد نهائي، ودون تكلفة محددة".
وفي مقال في جريدة هآرتس للكاتب حاييم ليفنسون تحت عنوان: "قول ما لا يمكن قوله.. لقد هزمت "دولة الاحتلال الصهيونية" هزيمة كاملة" علق الكاتب قائلا: "لن يتمكن أي وزير في الحكومة من استعادة شعورنا بالأمن الشخصي".
هذه المفارقة بين حجم الدمار والخسائر التي تسبب فيها العدوان الإسرائيلي على غزة وشعور الإسرائيليين أنفسهم بالهزيمة وفقدان الأمن، تفتح الباب لتساؤلات مهمة حول أسباب هذا الشعور المتأصل، التي تنقسم إلى أسباب بنيوية عميقة تسكن الوجدان الإسرائيلي وتجعله دائم الشعور بالقلق والتهديد، وترفع حساسيته للشعور بالخطر أكثر من غيره، وأسباب أخرى أكثر حداثة نتجت عن عملية "طوفان الأقصى" التي أدمت دولة الاحتلال الصهيونية، دولة ومجتمعا، بشكل ربما لا تبرأ منه أبدا.
هكذا صرح ديفيد بن غوريون بُعيد إعلان قيام دولة الاحتلال الصهيونية عام 1948، معبرا ليس فقط عن آمال عقائدية بشأن حدود دولة اليهود التاريخية كما يتخيّلها أتباع الحركة الصهيونية المجرمة، وإنما عن ضرورة جيوسياسية لتأمين دولة الاحتلال الصهيونية الوليدة التي فُرضت قسرا فوق أرض طُرد منها أهلها، ووسط محيط يعادي وجودها بصورة جذرية.
لدى دولة الاحتلال الصهيونية العديد من المعضلات، لكن الجغرافيا هي أهم هذه المعضلات وأعقدها على الإطلاق. بادئ ذي بدء، تعاني الجغرافيا للكيان المحتل الغاصب من قِصر المسافة المِتْرية بين حدود الأراضي التي يسيطر عليها وبين عاصمته المفترضة في القدس التي تواجه انكشافا واضحا أمام الخصوم، كما تعاني دولة الاحتلال الصهيونية من هشاشة خطوط اتصالها البحرية والبرية، وسط جيران لا تشعر بينهم بالأمان الكافي بالرغم من تحييد جبهتي مصر والأردن رسميا عقب اتفاقات السلام في كامب ديفيد 1979 ووادي عربة 1994.
هذه المعضلة، كما تهدد الجغرافيا، فإنها تهدد نفسية المستوطن الصهيوني وترفع لديه متطلبات الشعور بالأمن مقارنة بالمواطن في أي دولة أخرى "طبيعية".
ولذا يعتقد كثير من المستوطنين الصهيونيين أن حدود مستعمراتهم الحالية غير كافية، وأن أمان الشعب اليهودي لن يتحقق إلا بمخطط الدولة المترامية الأطراف الذي وضعه "الآباء المؤسسون"، بما يعطي لدولة الاحتلال الصهيونية أمانا طوبوغرافيا طبيعيا ويوفر للمجتمع الإسرائيلي في قلبها حزاما آمنا.
فالوضع الحالي لدولة الاحتلال الصهيونية وغياب العمق الدفاعي يجعلها غير مستعدة لمواجهة عمليات الغزو والاجتياح ولا لإدارة العمليات البرية داخل أراضيها؛ ولذا تعتمد إستراتيجيتها الدفاعية بشكل رئيس على مبدأ "الإنذار المبكر" الذي يمنحها أفضلية قتالية وقدرة على المواجهة الاستباقية.
ومن ثم فإن ثقة المستوطنين الصهيونيين في قدرة الدولة على استشعار الهجوم قبل حدوثه بوقت كافٍ، والاطمئنان للتفوق الاستخباري والتقني؛ ليسا أمرين هيّنين وإذا ضُربا مرة -كما حدث يوم الطوفان- فلن تستعيد دولة الاحتلال الصهيونية عافيتها بسهولة، بل ربما لن تستعيدها أبدا.
ومثل الجغرافيا، يأتي التاريخ الذي لا يلعب كذلك لصالح الوعي الصهيوني، الذي يعاني من عقدة موروثة تتعلق بالخوف من العودة إلى الشتات، ويختزن ذاكرة الاضطهاد الأوروبي التي تضغط بها ماكينة الدعاية الصهيونية على الوعي الصهيوني نفسه بالقدر ذاته الذي تضغط به على الغرب، وهو ما يظهر في همسات القادة الصهيونيين وتصريحاتهم، من بن غوريون إلى نتنياهو.
ففي 2017، وقبل 6 سنوات من الطوفان؛ صرح رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني الحالي بنيامين نتنياهو، قائلا: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة".
هذا المجتمع القلق والمضطرب والخائف من الزوال لا يستطيع تحمل تهديدات وجودية كالتي سببها طوفان الأقصى، ولا يقدر على الخروج من تبعاتها سريعا.
وبشكل أكثر تفصيلا قال رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك في مقال بجريدة يديعوت أحرونوت في مايو/أيار 2022: "التاريخ اليهودي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككهما في العقد الثامن، وتجربة الدولة الحالية على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته".
ثمة شعور دفين في العقلية الصهيونية بأن وجود دولتهم، إسرائيل، طارئ ومؤقت، وأنها استثناء تاريخي لا يملك مقومات الاستدامة، وليست حقيقة جغرافية ولا واقعا جيوسياسيا راسخا.
وهذا الشعور ليس وليد قراءات تلمودية وتراكمات تاريخية فحسب، وإنما يستند إلى وقائع سياسية وتهديدات داخلية وخارجية مرشحة للانفجار دوما، وقد انفجر بعضها بالفعل ولا تزال تداعياته آخذة في الاتساع شهرا بعد شهر.
وإلى جانب الشعور بالتهديد، ثمة شعور آخر عميق في الوعي الصهيوني يتجلى في احتقار المجتمعات العربية عموما والشعب الفلسطيني خصوصا، وهذا الشعور بقدر ما يطلق قدرا هائلا من الاستعداد للعنف الدموي في العقيدة القتالية الإسرائيلية، بوصفها لا تقاتل بشرا وإنما "حيوانات بشرية" كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بعد ثلاثة أيام من انطلاق الطوفان، فإن هذه النزعة الاستعلائية تولد كذلك شعورا بالحرج وبالهزيمة إذا أثبتت هذه الحيوانات البشرية -كما يرونها- مقدرة عالية على المقاومة، بل وتوجيه الضربات الاستباقية الموجعة التي جرحت الاستعلاء الإسرائيلي وتركت فيه ندوبا ليس من السهل أبدا محوُها.
هذه العوامل المركبة والمتشابكة والضاربة في عمق الوعي الصهيوني، شعبا وقادة، تجعلهم أكثر حساسية للأخطار مقارنة بالدول والشعوب الأخرى.
وتصبح الأمور أسوأ في ظل حرب ممتدة ولا تزال مرشحة للتوسع، وتعد أطول حرب في تاريخ دولة الاحتلال الصهيونية منذ تأسيسها.
لم يعد مستغربا إذن أن المستوطنين الصهيونيين وداعميهم صاروا في أدنى درجات تفاؤلهم بشأن مستقبل مستعمراتهم منذ لحظة تأسيسها، وأنه مهما ارتكب جيشهم من الجرائم في غزة ولبنان وفي غيرهما، فما من سبيل لتغيير هذه الحقيقة.
تأثير الطوفان
يقودنا ذلك إلى التساؤل: ما الذي حدث في دولة الاحتلال الصهيوني خلال عام من الحرب ليتعزّز هذا الشعور المتأصل بالهزيمة والفشل؟
هناك 3 تحولات رئيسية يمكن رصدها في هذا الصدد، أولها انهيار الثقة التاريخية في جيش الاحتلال الصهيوني وقدرته على حماية "المستعمرات" وتوفير الأمن للمستوطنين فيها، وثانيها الاستنزاف الاقتصادي المتواصل الناتج عن حالة الحرب المستمرة، الذي يضغط على مستوى الرفاهية الذي يأمله المستوطنون الصهيونيون من حكومتهم المحتلة، وأخيرا هناك التحول في الرأي العام الغربي الذي صار أكثر استبصارا بحقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حتى وإن لم تنعكس تداعيات هذا الاستبصار على المواقف الرسمية للحكومات الغربية حتى الآن.
انهيار الثقة: جيش الاحتلال الصهيوني في مأزق تاريخي
يصف حاييم ليفنسون "دولة الاحتلال" في مقاله المنشور في أبريل/نيسان 2024 الوضع في دولة الاحتلال قائلا: "لسنا دولة كبيرة، نحن بلد صغير يمتلك قدرات جوية عالية شرط أن تنتبه في الوقت المناسب"، هكذا يمكن لدولة الاحتلال فقط أن تكون آمنة، لكن في السابع من أكتوبر فقدت دولة الاحتلال المبادرة وظهرت قدراتها التقنية والدفاعية محل شك أمام مستوطنيها والعالم كله.
ثمة تقارير عديدة تؤكد أن الاستخبارات الإسرائيلية -إذا صحت تلك التقارير- كانت قد التقطت عدة مؤشرات تفيد بأن قادة المقاومة يفكرون في عملية لاقتحام مستوطنات غلاف غزة، لكن الثقة المفرطة في تأمين الحدود الجنوبية جعلت التقييم النهائي يرى أن هذه المعلومات مجرد أمانٍ، ولا يمكن أن تتحول إلى خطط عملية فضلا عن واقع ملموس.
فشلت دولة الاحتلال الصهيونية في تقدير قوة المقاومة، وفشلت في تحديد ساعة الصفر، كما فشلت في المواجهة، وفقدت التوازن ساعات عديدة بعد بدء العملية دون أي رد صهيوني.
وطوال شهور الحرب، لم يلتئم الجرح الرئيسي الذي أحدثه الطوفان، ففشلت دولة الاحتلال مرة أخرى في إظهار مقدرة استخبارية داخل غزة، فلم تستطع هدم البنية التحتية للمقاومة حتى في أقرب النقاط الملاصقة لمستوطنات الغلاف، ولا يزال قادة المقاومة الرئيسيون أحياء، ولا يزال الأسرى في مكان غير معلوم رغم اجتياح القطاع.
الحرب إذن زادت من شعور الصهيوني بالعجز ولم تشف جروحه الأولى. وبعد اغتيال الأمين العالم لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله، وتفجيرات منظومة الاتصال في لبنان، كادت دولة الاحتلال للحظة أن تستعيد الشعور بالسيطرة والمبادرة -ولو على جبهة واحدة- لكن الأحداث لم تترك هذا الشعور طويلا ليستقر.
فسرعان ما ضربت صواريخ إيران قواعد دولة الاحتلال الصهيونية الجوية وأصابتها بدقة، بل ضربت تمركزاتها العسكرية داخل قطاع غزة نفسه، في محور نتساريم الذي لا يتعدى عرضه كيلومترا واحدا، وأصابت أهدافها بدقة وثقة عالية في تحدٍّ واستعراض لقدرات صواريخها على إصابة أهدافها دون انحراف كان من الممكن لو حدث أن يؤدي إلى مجزرة في القطاع المكتظ بالسكان.
أمام هذا الواقع تتعرض العقيدة الأمنية لجيش الاحتلال لتحدٍّ بالغ، وتآكل في الثقة يصعب ترميمه. كما يشعر الصهيونيون ليس بالفشل فقط، بل بعدم الثقة في المستقبل كله، حيث عبر 48٪ من المستوطنين الصهيونيين، في الاستطلاع الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، عن تشاؤمهم بشأن مستقبل دولة الاحتلال، كما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية بمناسبة عام على الحرب أن 61٪ من المستوطنيين أصبحوا لا يشعرون بالأمان في مستعمراتهم.
إدماء اقتصادي واستنزاف طويل المدى
ولنعد إلى التاريخ مجددا، ففي أعقاب حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 دخل الاقتصاد الإسرائيلي في موجة طويلة من الركود، بسبب ارتفاع الإنفاق العسكري، مع تراجع النمو الاقتصادي وتعثر المداخيل القومية للاقتصاد. وبعد دورة من الزمن، ها هو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش -الذي يُعدّ من أكثر القيادات الإسرائيلية رغبة في توسيع الحرب واستمرارها- يقر بالضغط الهائل الذي تمثله الحرب الحالية على الاقتصاد الإسرائيلي، واصفا إياها بأنها "الحرب الأعلى تكلفة في تاريخ دولة الاحتلال".
ويقدر خبراء إسرائيليون تكلفة الحرب حتى الآن بحوالي 250 مليار شيكل (67 مليار دولار) وهو ما يمثل 12٪ من الناتج المحلي القومي الإجمالي، ويتوقعون أن تحتاج وزارة الدفاع إلى زيادة سنوية تقدر بنحو 20 مليار شيكل لمواجهة التحديات الجديدة. أدت هذه المستجدات إلى عجز تراكمي في الميزانية العامة زاد على 8٪؛ مما أدى إلى تصاعد الاعتماد على الديون التي زادت خلال عام واحد بمقدار ضعفين.
وتحت وطأة الحرب، تراجعت العملة المحلية، الشيكل، بنسبة تتجاوز 5٪ خلال عام، وبلغت خسائر قطاع السياحة رقما قياسيا وصل إلى 18.7 مليار شيكل (4.9 مليارات دولار)، كما قُدرت خسائر البورصة الإسرائيلية بنحو 20 مليار دولار.
بيد أن الآثار الأكثر استدامة تكمن في تراجع الثقة في الاقتصاد الإسرائيلي؛ فقد خفضت العديد من الوكالات المختصة تصنيفها الائتماني لدولة الاحتلال، مثل وكالة "ستاندرد آند بورز" التي خفضت تصنيف دولة الاحتلال من "A+" إلى "A" وذلك للمرة الثانية خلال العام، وأبقت على نظرتها المستقبلية السلبية، وكذلك فعلت وكالتا "فيتش" و"موديز". وتزامن ذلك مع خروج 60٪ من المستثمرين الأجانب من السوق الإسرائيلية.
وثمة عوامل أخرى ستظهر آثارها تباعا، مثل إغلاق آلاف الشركات نتيجة تدهور الوضع الأمني أو تهجير عمالها وإغلاق مقراتها في مستوطنات الشمال وغلاف غزة، فضلا عن استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط؛ مما يلقي أعباء مزدوجة على ميزانية الدولة وعلى سوق العمل في الوقت نفسه.
وتقدر شركة معلومات الأعمال الإسرائيلية "كوفاس بي دي آي" (Koface BDI) أن 60 ألف شركة إسرائيلية ستغلق أبوابها هذا العام، وغالبية تلك الشركات من فئة الشركات الصغيرة والصغرى.
ما لم تعتده دولة الاحتلال: تحولات في الرأي العام الغربي
بالتزامن مع ذلك كله، تضررت صورة دولة الاحتلال الصهيونية في الغرب بشكل غير مسبوق، وأصبحت الأصوات أكثر جرأة على انتقادها، خاصة وسط صفوف اليساريين والتقدميين، والشباب الصغار عموما.
ومثالا لذلك، أظهر استطلاع رأي أجراه معهد هارفارد للسياسة في الولايات المتحدة، فيما بين 14 و21 مارس/آذار الماضي، على عينة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما، أظهر أن 5 من كل 6 أشخاص يؤيدون الوقف الدائم للحرب على غزة.
هذا التدهور في صورة دولة الاحتلال في الغرب يضع الكثير من الأمور على المحك، فقد اقتاتت الدولة العبرية منذ ولادتها على المساعدات الغربية، خاصة بعد إعلان أيزنهاور 1957 الذي مثل بداية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، وفتح أبواب الدعم الغربي أمام دولة الاحتلال التي أصبحت المتلقي الأكبر للمساعدات الأميركية منذ الأربعينيات فضلا عن أطنان أخرى من المساعدات الغربية دُفعت جراء الاهتمامات الجيوسياسية والضريبة الباهظة التي فُرضت على أوروبا نتيجة اضطهاد اليهود خلال الحقبة النازية.
لكن الحرب الحالية، والتغيرات المصاحبة لها، تعيد مساءلة هذا الدعم المفتوح وترفع حدة النقاش حوله بشكل غير مسبوق، متحدية السردية الإسرائيلية التي ظلت سائدة ومهيمنة لعقود طويلة. وتحت وطأة الضغوط الحقوقية المحلية؛ قررت العديد من الدول حظر، أو تخفيض، الصادرات العسكرية لدولة الاحتلال، ومن بينها كندا، وإيطاليا، واليابان، وبريطانيا.
كما قطعت عدة دول علاقتها بشكل كامل مع دولة الاحتلال مثل بوليفيا وكولومبيا، وانضمت 7 دول إلى دعوى جنوب أفريقيا لمقاضاة دولة الاحتلال بعد قيامها بالإبادة الجماعية بينها كولومبيا والمكسيك وتركيا ونيكاراغوا، إضافة إلى دولة أوروبية مهمة هي إسبانيا.
واعترفت الأمم المتحدة في مايو/أيار 2024 بدولة فلسطين "كاملة العضوية" بغالبية فاقت الثلثين من أعضائها (147 دولة من الدول الأعضاء). وخلال عام من الحرب أعلنت 40 جامعة، بعضها من كبريات الجامعات الغربية، المقاطعة الأكاديمية والمؤسسية لجامعات دولة الاحتلال.
على المستوى الإقليمي، كانت دولة الاحتلال قبل اندلاع طوفان الأقصى متجهة في تقدير الكثيرين إلى سنوات "ربيع إقليمي" بفضل اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية. لكن دراسة نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي في أبريل/نيسان 2024 اعتبرت أن أسوأ ما قد يحدث بسبب الحرب هو أنها ستفوت على دولة الاحتلال منافع التطبيع وتعطل وصول قطاره إلى محطات جديدة.
وطبقا للدراسة؛ رفعت الحرب أثمان التطبيع على نحو مذهل، ليس فقط لأن الدول التي تفكر في التطبيع ستتعين عليها المطالبة بخطوات عملية من دولة الاحتلال في طريق الدولة الفلسطينية، بل لأن الدول المطبعة أصلًا سوف تكون أكثر ترددا في أخذ علاقاتها مع دولة الاحتلال إلى مستويات جديدة.
بداية الانهيار
هذا المزيج المعقد من التعقيدات الجغرافية والتراكمات التاريخية والهشاشة النفسية، الممتزج بالوقائع المعقدة الجديدة التي فرضها طوفان الأقصى وفشلت المذابح الإسرائيلية في تغييرها، بدأ في دفع المجتمع الصهيوني بأسره إلى التصرف كـ"جيش منهزم". بداية، فجّرت الحرب أعمق أزمات المجتمع الصهيوني ووسعت الشرخ الديني العلماني إلى هوة غير مسبوقة، سيتصاعد ظهورها في قضايا عديدة لن تقف عند مسألة تجنيد الحريديم وحدها، كما أظهرت مدى التباعد بين التيارات السياسية، وإذا كان مناخ الحرب والشعور بالتهديد الوجودي يحجم ظهور تداعيات ذلك فإن شهور الحساب فيما بعد الحرب ستكون أشد وأعنف على المجتمع الصهيوني.
أبعد من ذلك، بدأ الكثير من المستوطنين الصهيونيين يفكرون في النجاة بأنفسهم والفرار ما دام ذلك ممكنا. وقد كشف استطلاع رأى أجرته قناة كان التابعة لهيئة البث الرسمية أن حوالي ربع المستوطنين الصهيونيين فكروا خلال العام الماضي في الهجرة من فلسطين المحتلة دون عودة، بسبب الأوضاع الأمنية التي خلفتها الحرب. وعلى الرغم من أن هذا التوجه كان مرصودا منذ عدة أعوام قبل الحرب، فإنه ازداد بشكل ملحوظ خلال عام الحرب.
وقد نشرت صحيفة "ذا ماركر" (The Marker) الاقتصادية البارزة تقريرا اتهمت فيه الدائرة بإخفاء الأعداد الحقيقية، وقدرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن نصف مليون مستوطن صهيوني غادروا بالفعل دولة الاحتلال ولم يعودوا في الأشهر الستة الأولى من الحرب، ولا يُعلَم ما إذا ما كان ذلك قرارا مؤقتا أم أنه سيتحول إلى هجرة دائمة.
أما البيانات الرسمية لدائرة الإحصاء فتظهر أن 55 ألفا غادروا دولة الاحتلال في 2023 مقابل 38 ألفا في 2022، وتصاعد هذا العدد ليصل إلى 40 ألفا خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024.
يخبرنا ذلك أن مكاسب الحرب وخسائرها لا تحددها فقط أعداد القتلى والمباني المهدمة، فالحرب سلوك شامل متعدد الأوجه وخسائرها أيضا شاملة متعددة الأوجه.
ويظل ذلك التاريخ بمثابة لحظة الحقيقة التي تضغط على الوعي الصهيوني الجمعي وتطارد مستقبلها ووجودها، تماما كما تنبأ قادة الاحتلال عبر العصور.
..................
انتهى / 232