وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ في تلك الجمعة، كانت يداه الحانيتان تلتفان حول صغاره، فتهِبان لهم كل ما حمل أبوهم من دفء وحب في قلبه المتعلق بالسماء.
أما صغاره الخمسة (حليمة أكبرهم، ثم التوائم خالد وبهاء وخديجة، ثم عمر الأصغر)، فيرون أن يد أبيهم ليست تفيض حنانا فحسب، بل كانت يدا تشد أزرهم وتتابع أدق تفاصيل رحلة دراستهم، لكن أحدا منهم لم يعلم أن هذه اليد التي لطالما خطت لهم على لوح أبيض الدروسَ في العلوم والرياضيات، كانت قبل لقاء الجمعة ذاك خطت قرارا سيقلب موازين العالم، الذي أقفل على أهل غزة في سجن كبير منذ قرابة 20 عاما.
وهكذا غابت شمس السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على بيت ذي شأن عظيم، لتشرق في اليوم التالي خارج حدود الزمن ويذهل عند طلوعها العالم بأسره من صنيع الضيف وجنده، غير أن هذه لم تكن البداية.
النظر أول الخبر
في أحد أيام أغسطس/آب 1965، بدا البحر والسماء لـ"حليمة" واسعين عميقين على نحو غير الذي ألفته طوال سنوات سكنها في مخيم خان يونس للاجئين (جنوب قطاع غزة)، وكان قلبها يحدثها -وهي في آخر أيام حملها- بأنهما التحما ليكونا واحدا، حتى كأنها بذلك أبصرت أن طفلها القادم سيكون شبيها بهما، إلى أن جاءتها بشراه حين تناهى إلى سمعها بعد المخاض صوت زوجها دياب المصري يردد كلمات الأذان على سمع وليدهما الجديد.
ملتمسين بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- سمى الوالدان نجلهما "محمدا"، وأتت بعد ذلك اليوم أيامٌ تجلت فيها معاني ذلك الاسم في سيرة صاحبه.
في مخيم خان يونس للاجئين، كان بيت عائلة المصري بسيطا، يكافح فيه الأب وأبناؤه -كما هي حال كل أهل المخيم- لينالوا قوت يومهم، لكن ما تميز به هذا البيت كانت حليمة، امرأة بعينين صافيتين تفضيان حنانا يرتوي منه أبناؤها، فكان أثره جليا على تماسك عائلتها وتراحمها، وستكون هذه السمة أبرز ما ورثه محمد عن أمه، يلمسها كل من يخالطه في مختلف محطات حياته.
كان ضيق المخيم وتلاصق بيوته يستحثان بصر الفتى محمد نحو السماء والبحر فيثريان خياله، وهو ما جعله في سن مبكرة يهتدي للاغتناء بخياله وسعته الجوانية، وهو اغتناء انعتقت به روحه باكرًا من سجن القهر، الذي أرادته إسرائيل للفلسطينيين بتهجيرهم وتعقيد حياتهم وبطشها بهم، خصوصا بعدما احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، حيث تفتح وعي الفتى محمد على تفاصيل المواجهة اليومية مع الاحتلال تحديًا لمحاولات المحو. سيكون هذا الاغتناء أحد الخيوط الناظمة لنهج حياة محمد وإستراتيجيته في بناء مشروعه وتأثيره في من حوله.
باكرا، سيكون محمد مع أبيه كتفا بكتف في عمله بتنجيد المفروشات، للمساعدة في إعالة الأسرة، وستقوده خطاه إلى مسجد الشافعي أحد أكبر مساجد خان يونس. على قدرٍ سِيق الفتى -غض القلب متقد الذكاء- إلى ذلك المسجد، حيث التقى أهم رفاق دربه: حسن سلامة، ويحيى السنوار، وجميل وادي، الذين سيرافقونه في مشواره الطويل مؤسسين أحد أقوى وأشجع ظواهر مقاومة الاستعمار في العصر الحديث. اجتمعت في الضيف ورفاقه ملكة القيادة، وسعة الخيال وحدة البصيرة، التي استطاعوا بها أن يصقلوا رؤيتهم لمشروعهم النضالي بعقلية الندّية.
في بواكير التحاقه بالجامعة الإسلامية في غزة دارسا الأحياء، وقع الفتى في حب الفنون والمسرح، وعلى خشبة المسرح ستلتصق به كنية سيشتهر بها، إذ أصبح الفتى "أبا خالد" بعد تمثيله شخصية تحمل هذه الكنية في إحدى مسرحيات محمد الماغوط.
أسس محمد مع زملائه "فرقة العائدون للفن الإسلامي" في خان يونس، التي نشطت في تقديم فنون المسرح والإنشاد، إلى جانب نشاطه في صفوف الكتلة الإسلامية في الجامعة، التي كان كوادرها من أوائل المنخرطين في المقاومة، تزامنا مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987.
في مسجد الشافعي، بين المصلين أومأ جميل وادي -الشاب ذو السمرة الحنطية والعينين الناطقتين إيمانا وجسارة- إلى محمد بإشارة عنت بدء عملهم في المجموعة ذاتها في العمل العسكري التابع لحركة حماس تزامنا مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، التي ستحمل منذ عام 1991 اسم "كتائب الشهيد عز الدين القسام".
عام 1989، ستعتقل إسرائيل محمد دياب المصري لأول وآخر مرة، على إثر نشاطه العسكري، وبعد 16 شهرا من الاعتقال الإداري، سيفتح جندي الباب لمحمد من دون أن يدري أنه يطلق سراح المارد الذي سيحطم قبضة إسرائيل الحديدية أمنيا وعسكريا.
نهاية عام 1993، عاد الضيف إلى قطاع غزة مستأنفا العمل من هناك، وبالتزامن مع عودته، استلمت السلطة الفلسطينية ومؤسساتها الأمنية زمام الأمور في القطاع، لتزداد بذلك تعقيدات وأعباء رحلة المطاردة.
كان فجر 25 فبراير/شباط 1994 في فلسطين داميا إثر مجزرة المسجد الإبراهيمي في الخليل، التي ارتكبها المستوطن المتطرف باروخ غولدشتاين بحق المصلين خلال شهر رمضان المبارك.
لم يمض وقت طويل، حتى استيقظ الفلسطينيون على وعد موقَّع باسم "غرفة عمليات القسام" ينص على تعهد الكتائب بالرد على تلك المجزرة.
كان يحيى عياش ومحمد الضيف قد تقاسما التخطيط لـ5 عمليات، انتقاما للدماء التي سالت في محراب الفجر. ضمن سلسلة العمليات تلك، خطط الضيف وعياش لأسر جندي إسرائيلي، وكان ذلك الجندي نخشون مردخاي الذي أُسر يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 1994، وعلى إثر تلك العملية، سيظهر الضيف للمرة الأولى من أصل 3 مرات أمام الكاميرا، مضللا بذلك عمليات البحث عن الجندي، إذ أوهم ظهوره أجهزة الأمن الإسرائيلية أن الجندي المأسور في قطاع غزة، في حين كان مقاتلو القسام يحتفظون به في بيت في بلدة بيرنبالا شمال غربي القدس.
ضاق الخناق على مقاتلي القسام في قطاع غزة، فخطط الضيف وعياش لنقل العمل العسكري بأدوات أكثر تطورا إلى الضفة الغربية، محاولين تحدي خطط أجهزة الأمن الفلسطينية لخنق العمل المقاوم.
يشير تاريخ كتائب القسام إلى أن الضيف وعياش كانا أبرز مقاتلي الكتائب في مجال التصنيع العسكري الذي دشناه عام 1993، والذي استمر في التطور حتى يومنا هذا.
أتم الرفيقان خطط نقل العمل إلى الضفة الغربية، وقبيل تنفيذها، فُجع الضيف -أسوة بالفلسطينيين- بخبر اغتيال عياش مطلع عام 1996.
حول الجثمان المسجى، تحلق مطاردو القسام في وداع رفيقهم، في حزن عميق، وصمت مطبق، وحول النعش، عقد رجلان منهم العزم أن يرثيا صاحبهما بطريقة مختلفة.
قبيل بدء التشييع، توارى الضيف وحسن سلامة عن الأنظار تماما، وباشرا العمل على مخطط عمليات الثأر المقدس، انتقاما لاغتيال عياش. أسفرت هذه العمليات عن مقتل 46 إسرائيليا وإصابة العشرات، واعتقل على إثرها حسن سلامة وحكم بالسجن المؤبد 48 مرة.
السجّان تحت لواء السجين
في الربع الأول من العام نفسه، وجهت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية ضربات عنيفة لحركة حماس في الضفة الغربية وقطاع غزة، وزجت بأكثر من 2000 فلسطيني من كوادر الحركة في سجونها. كانت تلك أحلك السنوات في تاريخ كتائب القسام، وبدا فيها الضيف طريدا غريبا، لقي كل واحد من صحبه مصيره: بين شهيد وأسير وتارك للسلاح باختياره أو تحت وطأة الظروف.
كلما ضاقت الجغرافيا، اتسعت القلوب المؤمنة ملهمة أصحابها الثبات. كان ذلك حال الضيف في مواجهة كل المحاولات والعروض لتسليم سلاحه، رغم كل الضغط الذي وقع عليه في سبيل هذا، واستمر ملاحَقا إلى أن حاصره جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني في بيت من بيوت قطاع غزة واعتُقل عام 2000.
في سجون الأمن الوقائي في غزة، كان اعتقال الضيف كدرا ثقيلا، لكنه لم يغيِّب ثنائية السماء والبحر التي حملها الضيف منذ نعومة أظفاره، حيث كانت تنعكس في كل مرة يحتك فيها سجانه معه.
فبالنسبة إلى يحيى أبو بكرة، أحد السجانين الثلاثة الذين كانوا مكلفين بحراسة الضيف في سجنه، كان ثمة ما يشده إلى الرجل؛ شيء أشبه بنبوءة تحمل قدره مع السجين الذي سيصبح قائده!
كان الضيف يعامل أبو بكرة بصفاء طوية وحنو متصل بالمدينة التي تربيا فيها: خان يونس، كأنهما ابنان لأم واحدة. وكلما وقف السجان والسجين وبينهما باب الزنزانة، راحت ذكريات المدينة وناسها تتدفق في حديث الرجلين، حتى لمس الضيف بذكائه القيادي أن في أبو بكرة بذرة إيمان بنهج المقاومة، لا ينقصها إلا الري فتنبت، فصار يستحضر سِيرًا وآمالا وموازين تستحث أي منصت له نحو الرغبة في مشاركته الطريق.
كان أبو بكرة يصغي، ثم حين يختلي بنفسه يؤرقه أن يظل الرجل في السجن وأن يحمل اسم "أبو بكرة" في قادم الزمن لقب سجانه، وقد كانت تدور بينهما أحاديث طويلة يكشف له فيها الضيف -بقدر الحاجة- عما يجعله يدرك فداحة الخطأ في أن يبقى هذا المقاتل في هذا السجن، حتى جاءت اللحظة الحاسمة في انكشافها بين الرجلين.
كانت انتفاضة الأقصى قد اندلعت قبل شهر، والوضع في غليان متصاعد، والحالة في الخارج في غاية الحساسية، في ظل تخوفات كثيرة على صعيد سلامة المطاردين، فما كان من أبو بكرة إلا أن تمثل القول: "لا بد مما لا بد منه".
تعاون أبو بكرة مع سجانين آخرين، واتفقوا جميعا على أن يسهلوا للضيف هروبه.
عاد الضيف ليأخذ موقعه في صفوف القسام، تزامنا مع اشتداد الانتفاضة الثانية، في حين آل مسار يحيى أبو بكرة للاستقالة من جهاز الأمن الوقائي بعد ما لاقاه من تضييق وتنكيل على إثر مساعدته الضيف في الهرب، وقد ظل الضيف يحفظ له فضله وشجاعته ويوصي من حوله بأبو بكرة وأهله خيرا.
التحق أبو بكرة خلال الانتفاضة الثانية بصفوف كتائب القسام، وقاتل تحت قيادة الضيف إلى أن استشهد خلال اشتباك مع قوات الاحتلال في خان يونس عام 2004.
في فترة الانتفاضة الثانية، كان الشهيد صلاح شحادة، القائد العام لكتائب القسام، قد بدأ ترميم هيكلية الكتائب على إثر الضربات التي تعرضت لها على يد أجهزة أمن السلطة الفلسطينية لتفكيكها ضمن مستحقات اتفاقية أوسلو.
كان شحادة لدى خروجه من السجن في مايو/أيار 2000 -بعد ما يقارب 12 عاما في السجن- قد طور في ذهنه تصورا لبِنية جديدة للقسام، مستفيدا في ذلك من خلاصات تجارب الكتائب خلال عقد التسعينيات، وساعيا بهذه البِنية للعمل بنمط أكثر قوة وقدرة على الاستمرار من نمط الخلايا.
كانت الخلايا تعمل على نحو منفرد، ويشكل شحادة مرجعية لها، لكنه أدرك أن الوقت قد حان لمأسسة العمل العسكري، وتحويل القسام إلى جيش شعبي، وهي المرحلة التي شهد عليها الضيف كونه الذراع اليمنى لشحادة.
ويوم 22 يوليو/تموز 2002، اغتالت إسرائيل صلاح شحادة، فتولى الضيف القيادة العامة للقسام، وواصل مشوار شحادة في بناء جيش شعبي، كمؤسسة ذات قطاعات، من دون أن تهز خطواتِه تهديداتُ إسرائيل له ومحاولاتها المستمرة لاغتياله بوصفه المطلوب الأول لها.
الظل دليل الوجهة
أخفقت إسرائيل في اغتيال الضيف 7 مرات، وظل ظله واسمه ركنا شديدا يستظل به الفلسطينيون كلما عصف بهم قهر إسرائيل وجبروتها، وظلت الجماهير في القدس والضفة الغربية فضلا عن غزة تهتف دوما: "حط السيف قبال السيف.. احنا رجال محمد ضيف" لرجل لم يعرف أحد وجهه، ولم يكن يسعى إلا نحو بناء قوة ضاربة قادرة على إتمام مشروع تحرير فلسطين.
حلم الفلسطينيون كثيرا بلحظة تحرير القدس، ولطالما كان رجاؤهم أن يكون إمامهم في التحرير محمد الضيف، لكن قدر الرجل كان أن يلاقي أجله -كما تاقت نفسه- وهو يقاتل عدوه.
ويوم 30 يناير/كانون الثاني 2025، أعلن أبو عبيدة -الناطق العسكري باسم كتائب القسام- استشهاد الضيف رفقة ثلة من قادة الصف الأول في كتائب القسام، ليعرف الناس محمد الضيف بوجهه لأول مرة.
لقد كان الظل أقوى من الدرع، وسيظل خالدا بما حمل من نبل المسعى وشرف الغاية متخففا من شهوة أن يقول الفتى ها أنا ذا، في زمن يتقاتل فيه الناس لأجل أن يشار إليهم، لكنه كان متحررا من كل هذا، مبصرا بنور الله أن خلود الرجال بإخلاصها وصنيعها، لا بأي شيء آخر.
في تتبع سيرة الضيف، يتضح أن الرجل لم يترك إرثا عسكريا فحسب، بل ترك بموازاته مدرسة أخلاقية في صناعة إرادة المقاتل يستظل بها في زمن طغت فيه المادة والآلة على كل شيء.
إنها مسيرة نحتت في الصخر سيرة الظل الذي هشم الدرع، في بلاد ولّادة.
تعليقك