وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ في "تل أبيب"، لا يولد كثيرٌ من روّاد الأعمال من رحم الجامعة أو من "المرآب"، مثل ستيف جوبز أو مارك زوكربرغ، كما تحب دعاية "أمة الشركات الناشئة" أن تروي.
كثير من روّاد التكنولوجيا الإسرائيلية وُلدوا في غرف وأماكن أخرى: غرف بلا نوافذ، كي لا يراهم أحد وشاشات لا تنام، تراقب وتتجسّس على كل شيء، أين يذهب الهدف مع من يتكلم ما هي عاداته، وسماعات تلتقط الاتصالات، وخوادم تلتهم البيانات كما تلتهم النار الورق.
هناك، في "وحدة 8200"، المعنية بالتجسس الإلكتروني والمفترض أن مقرّها شمال "تل أبيب"، تتحوّل كل عملية تجسّس إلى نقطة قوة في السيرة الذاتية، وكل تحليل واختراق إلى مهارة مهنية تُترجم لاحقاً إلى أسهم واستثمارات وأموال وتطبيقات تباع بمئات ملايين الدولارات.
ما تفعله "إسرائيل" هو أنها تستفيد من المتخرجين من وحدتها التجسسية الـ"8200"، ليصبحوا رجال أعمال يؤسسون شركات تكنولوجية تتحول إلى نماذج تجعل اقتصاد "إسرائيل" قائماً على بيع "ابتكارات" قائمة على الأمن والتجسّس.
"ابتكارات" ذات طابع عسكري وأمني تتحوّل إلى السوق للاستخدام المدني. هذه الشركات، وخريجو الوحدة يتحولون مع الوقت إلى شبكة تعمل كرافعة تمويل لـ"إسرائيل" من الضرائب التي تجنيها بسبب صفقات بيع أو استحواذ على الشركات الناشئة، أو لتشبيك العلاقات مع دول لم تكن" تل أبيب" تمتلك علاقات سابقة معها لولا اضطرار هذه الدول التواصل مع "إسرائيل" لشراء التقنيات التي تبيعها هذه الشركات.
"وحدة 8200" ليست تفصيلًا في جهاز استخبارات "الجيش" الإسرائيلي؛ هي معمل إنتاج نخبة، يكُلَّف أعضاؤها بالتجسّس والتنصّت وجمع المعلومات وتحليل البيانات، ويتلقون تدريباً متقدماً في البرمجة والعمل السيبراني، ثم يتخرجون من الخدمة وفي أيديهم أدوات وخبرة تعلموها من التجسس على الفلسطينيين واللبنانيين.
نحن أمام سلسلة تجنيد مبكر للكفاءات، صقل داخل منظومة أمنية، ثم ضخّها في القطاع الخاص لتأسيس شركات أو قيادة شركات عالمية.
هذه الحياة تغري الكثير من الطلاب الإسرائيليين المهوسين بالتكنولوجيا الذين يسعون إلى الخدمة في "8200" قبل دخولهم الحياة العملية لأنهم يدركون أن العمل فيها، يفتح لهم آفاقاً كبيرة، وهم يحرصون على إضافة هذه المعلومة إلى سيرتهم الذاتية لما لها من ميزات في الشركات العالمية.
خطة عملهم واضحة، خدمة في وحدة استخبارات، ثم شركة ناشئة، ثم استحواذ من عملاق عالمي، ثم انتقال المؤسسين إلى مواقع قيادية داخل الشركات الكبرى.
خريجو الوحدة أنفسهم يقدّمون السردية المطلوبة: الخدمة في "8200" تعني ضغطاً عالياً، وسرعة ابتكار، وحلّ مشكلات تحت سقف زمني ضيق.
يقول رائد الأعمال ساناز يشار إن "ثقافة العمل تحت ضغط، وتركيز الوحدة على الابتكار وحل المشكلات بسرعة، يصنعان نجاح الخريجين في عالم الأعمال".
ويذهب مدير شركة "Sentra" يوآف ريجيف أبعد: "8200" هي أفضل مدرسة لتعلّم ريادة الأعمال. هذا الكلام يخفي حقيقة أن الضغط هنا ليس ضغط شركة ناشئة تعمل في سوق تنافسي، بل ضغطاً تعلموه في المنظومة الأمنية التي تحارب وتراقب وتراكم بيانات عن مجتمع كامل. وهؤلاء المتدربون، بعد تدرّبهم على المجتمع الفلسطيني، يتخرجون ويؤسسون شركات تُقدَّر قيمة كل منها بنصف مليار دولار.
وعندما ندقق في أرقام وتفاصيل الاستحواذات، نرى أن مايكروسوفت اشترت "Adallom" مقابل 320 مليون دولار، وفيسبوك اشترت "Onavo" مقابل 150 مليون دولار، و"PayPal" استحوذت على "CyActive" مقابل 60 مليون دولار، وهنا يجب الالتفات إلى أن مؤسسي هذه الشركات كلهم خدموا في "8200".
مؤخراً، أبرمت "Google" صفقة لشراء "Wiz" مقابل 32 مليار دولار، مع حديث عن منح حصص ضخمة للمؤسسين الأربعة، وهم ضباط سابقون في "8200". و"Wiz"، شركة تطوير مواقع، خدم أحد مؤسسيها أفيشاي أبراهامي في "وحدة 8200".
قال أبراهامي إنه يعرف أكثر من 100 زميل من جيله أسسوا شركات بيعت بمبالغ ضخمة، وروى أن أصدقاءه المقرّبين في الوحدة (10 أشخاص) أسّس كل واحدٍ منهم شركة بمتوسط قيمة نصف مليار دولار، مؤكداً أن العلاقات التي تبدأ في الخدمة لا تنقطع بعد التسريح.
وسبق استحواذ "غوغل" على "ويز"، استحواذها على "Waze"، وهو تطبيق الملاحة اشترته الشركة عام 2013 مقابل 1.3 مليار دولار.
وهذه ليست المرة الأولى التي تشتري فيها "Google" شركات أسسها خريجو الوحدة؛ إذ اشترت سابقاً شركات مثل "Siemplify" و"Alooma" و"Velostrata"، ثم استوعبت مؤسسيها في مناصب إدارية داخل الشركة. ما يعني أن خريجي الوحدة لا يبيعون الشركة فقط؛ بل يسخّرون خبرتهم في خدمة الشركة.
خريجو الـ"8200"وبعيداً عن الأمن السيبراني، أسسوا شركات تُعنى بالتجسّس، مثل مجموعة "NSO"، التي طوّرت "بيغاسوس"، وأسسها عُمري لافي وشاليف خوليو اللذان خدما في "وحدة 8200"، واستفادا من خبراتهما في تطوير الثغرات لصنع برنامج تجسّس أثار عالمياً أسئلة الخصوصية وانتهاكات الحقوق. أما "Paragon Solutions" فهي شركة تأسست عام 2019 على يد العميد السابق في "8200" إيهود شنيرسون، وتقدّم منتجات تمكّن حكومات من اختراق الهواتف الذكية.
في عالم التكنولوجيا، لا أحد يحب أن يقال إن شركة عملاقة "تستورد" خبرتها من وحدة استخبارات عسكرية. لكن الوقائع التي توردها تقارير صحفية عديدة تذهب إلى هذا المعنى بالضبط: خريجو "8200" يتقدمون إلى مواقع الإدارة والبحث والتطوير في الشركات العالمية.
وفي صفقات "Google" المتكررة يذكر أسماء مثل آموس ستيرن ("Siemplify")، وآساف بن شول وآدي ديغاني ("Velostrata")، ويار وينبرغ ("Alooma")، و"Elastifile"، الذين استحوذت عليهم "غوغل" وأبقت مؤسسيها في مواقع قرار.
أما في "مايكروسوفت"، فهناك شخصيات مثل يوسي ماتياس (مدير مركز البحث والتطوير في إسرائيل) وخبير الأمن رون زيلكا، وهما من خريجي "8200"، ويشكلان "جسراً" يربط مشاريع الشركات العملاقة بخبرات الاستخبارات الإسرائيلية.
مرة أخرى: ليست المشكلة في "الخبرة" بحد ذاتها، بل في مصدرها ووظيفتها الأولى. هذه الشركات لا تبيع برامجها من دون موافقة وزارة الأمن الإسرائيلية.
"أمة الشركات الناشئة" تجهّز قوة بشرية مدرَّبة عبر خدمة عسكرية موجّهة، ثم تدمجها في أسواق رأس المال العالمي.
قد يبني خريج "8200" شركة رائعة في نظر المستثمر، وقد تغيّر صفقة استحواذ حياته مالياً، لكن التكنولوجيا التي تنبت من غرف التجسّس لا تنسى جذورها.
وما دام الاحتلال قائماً، سيبقى "اقتصاد الأمن" هذا جزءاً من آلة أكبر: آلة تحاول إقناع العالم بأن ما يجري مجرد أعمال، فيما هو، في جوهره، استمرار للحرب بوسائل أخرى.
تعليقك