وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ـ قال القاضي وائل عبد اللطيف إنّ العراق "تفادى الضربات الأمريكية باستقطاب شركاتهم إلى الجنوب"، وأضاف أنّه "سنحاصر الشركات الأمريكية الاستثمارية في العراق إذا استهدفت الولايات المتحدة الفصائل المسلحة".
هذه الجملة لا تتعلق بعقد واحد أو حقل نفطي بعينه، بل تعكس طريقة تفكير كاملة في إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة، وفي ربط ملف السلاح بملف الشركات وبالاقتصاد، وفي استخدام الاستثمار نفسه داخل معادلة الضغط المتبادل.
هذا التصريح يأتي في لحظة يتصاعد فيها النقاش حول حصر السلاح بيد الدولة، وتزداد فيها الضغوط الأمريكية العلنية باتجاه تفكيك البنية المسلحة لفصائل المقاومة العراقية الاسلامية خارج إطار المؤسسات الرسمية. في هذا الجو، تتحول الشركات الأمريكية من موضوع اقتصادي إلى عنصر مركزي في معادلة سياسية وأمنية مفتوحة.
الشركات كوسيلة لتفادي الضربات وكأداة رد محتمل
من خلال ما طرحه القاضي وائل عبد اللطيف، يمكن فهم أنّ دخول الشركات الأمريكية إلى الجنوب لم يُنظر إليه فقط كخيار استثماري لتطوير الحقول، بل كجزء من إدارة العلاقة الحساسة مع واشنطن. الفكرة الأساسية التي يعبر عنها قوله إنّ العراق "تفادى الضربات" عبر استقطاب هذه الشركات هي أنّ وجود استثمارات أمريكية كبيرة في بيئة معينة يجعل قرار الضربة العسكرية أكثر تعقيدًا؛ لأن أي تصعيد واسع قد يصيب هذه الاستثمارات ويخلق خسائر مباشرة للجانب الأمريكي.
عندما يضيف عبد اللطيف أنّ الرد على استهداف الفصائل سيكون "محاصرة" الشركات، فهو يرفع مستوى هذا الارتباط خطوة أخرى. لم يعد وجود الشركات مجرد عنصر ردع غير مباشر، بل يمكن تقديمه كوسيلة رد فعل. المعنى الواضح أنّ من يفكر في ضرب الفصائل عليه أن يأخذ في الحساب أنّ المصالح الاقتصادية الأمريكية داخل العراق لن تبقى في وضع محايد. حتى لو لم يحدد شكل هذه "المحاصرة" عمليًا، فإنّ إدخال الفكرة إلى المجال العام يكفي لتغيير طريقة القراءة الأمريكية للمشهد: الشركات لم تعد فقط أداة نفوذ أمريكي، بل أصبحت أيضًا نقطة ضغط يمكن أن يتحرك حولها خصوم واشنطن عند الحاجة.
هذا التحول يضع الدولة العراقية أمام معادلة صعبة. من جهة، الشركات الاستراتيجية في النفط والطاقة والبنى التحتية تمثل حاجة اقتصادية، وتؤثر على صورة العراق أمام الأسواق الدولية. ومن جهة أخرى، إدخالها في معادلة الردع والرد يجعلها موضوعًا في النزاع بين واشنطن والفصائل، من دون أن تكون الدولة هي الطرف الذي يحدد شكل استخدام هذه الورقة أو توقيته.
من الهجوم على مطاعم أمريكية إلى الحديث عن محاصرة الشركات
الانتقال من الكلام عن "محاصرة الشركات" إلى تطبيقات محتملة على الأرض لا يحتاج إلى خيال طويل إذا استحضرنا ما حدث قبل نحو عامين تقريبًا، عندما تعرّضت مطاعم تحمل علامات أمريكية، مثل "كي إف سي"، لهجمات متكررة في بغداد على خلفية الغضب من الحرب في غزة. شهدت العاصمة حينها اقتحامات وتحطيمًا لواجهات بعض الفروع، واعتداءات على الممتلكات، وتداولت وسائل الإعلام مقاطع مصورة لملثمين يدخلون المطاعم ويكسرون كل ما يمكن الوصول إليه، قبل انسحابهم.
تلك الأحداث لم تكن جزءًا من قرار رسمي، لكنها قدّمت نموذجًا عمليًا لطريقة تحوّل العلامة التجارية الأمريكية إلى هدف مرتبط بموقف سياسي أو إقليمي. لم تُستهدف قواعد عسكرية أو سفارة، بل مطاعم في أحياء مدنية. ومع أنّ السلطات أعلنت اعتقال عدد من المتورطين واتخاذ إجراءات، فإنّ الرسالة وصلت إلى الشركات وإلى الرأي العام الدولي بأنّ البيئة التي تعمل فيها هذه الاستثمارات يمكن أن تتأثر مباشرة بتطورات سياسية خارجية، وبحملات تعبئة داخلية.
اليوم، عندما يُقال على الملأ إنّ "الشركات الأمريكية الاستثمارية في العراق" يمكن أن تُحاصر ردًا على أي استهداف للفصائل، فإنّ هذه التجربة تصبح جزءًا من الذاكرة العملية التي تُبنى عليها التوقعات. الفارق أنّ نطاق الحديث لم يعد يقتصر على مطاعم وسلاسل تجارية، بل يشمل شركات نفط وخدمات طاقة ومشاريع بنى تحتية ضخمة، ترتبط بعقود لسنوات طويلة، وتعمل في مناطق حساسة اقتصاديا وأمنيا.
إذا جرى الانتقال من مستوى التصريح إلى مستوى الممارسات، ولو على شكل تضييق بيئة العمل حول هذه الشركات، أو تنظيم تحركات قريبة من مواقعها، أو تعطيل غير مباشر لسلاسل الإمداد والحركة، فإنّ انعكاسات ذلك لن تقف عند حدود العلاقة مع واشنطن فقط، بل ستطال ثقة بقية المستثمرين، وستؤثر على تقييم المخاطر في السوق العراقية، وعلى قرارات شركات عالمية تفكر بالدخول أو التوسع.
السياسة الأمريكية بين الاندفاع وضبط الكلفة
في مقابل هذه الرؤية التي تربط وجود الشركات بتفادي الضربات أو بالرد عليها، يعرض النائب السابق فوزي أكرم ترزي زاوية أخرى تتعلق بطبيعة القرار الأمريكي نفسه. ترزي يصف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بأنّها تقوم على ما أسماه "مبدأ المراهقة الكبرى"، ويقول إنّ الولايات المتحدة يمكن توصيفها اليوم بالثور الهائج في تعاملها مع الملفات الدولية، خصوصًا في قضايا المنطقة، نتيجة قرارات وحروب خلفت أزمات وارتدادات مستمرة.
مع ذلك، يؤكد ترزي أنّ "احتمال تعرض العراق لضربات عسكرية محدودة يبقى واردًا نظريًا"، لكنه يشير إلى أن هذا الاحتمال يصطدم بجملة معطيات تجعل القرار العسكري أكثر تعقيدًا. أهم ما يذكره هو أنّ الشركات الأمريكية تستثمر "عشرات المليارات" في الحقول النفطية العراقية، وأنّ هذه الاستثمارات، إضافة إلى التشابك في الملفات المالية والاقتصادية، تدفع إدارة ترامب إلى التفكير مليًا قبل أي خطوة عسكرية، لأنّ خسائرها ستكون كبيرة.
ترزي يضيف أنّ لدى واشنطن أوراق ضغط قوية على بغداد، خاصة في المال والاقتصاد، وأنّ "التقديرات تشير إلى استبعاد أي خطوة عسكرية أمريكية في المرحلة المقبلة، مهما كانت المبررات، لأن كلفتها ستكون عالية، ولكل فعل رد فعل". هذا الكلام يضع خطوطًا واضحة: الولايات المتحدة قادرة على استخدام القوة، لكنها لن تجعل الضربة العسكرية خيارها الأول، طالما تستطيع أن تضغط عبر الدولار، والعقود، والعقوبات، والتقييد التدريجي للقطاع المالي والاستثماري.
وجود هذا التقييم إلى جانب تصريح عبد اللطيف يعني أنّ الشركات الأمريكية تتحرك بين اتجاهين متعاكسين. من ناحية، هناك من داخل العراق من يريد تحويلها إلى أداة ردع أو ورقة رد، ومن ناحية أخرى، هناك من يلفت النظر إلى أنّ هذه الشركات نفسها هي أحد أهم الأسباب التي تجعل واشنطن تحسب كلفة أي مغامرة عسكرية جديدة في العراق، وتفضل الضغط الاقتصادي والسياسي على الانخراط في مواجهة واسعة.
ما الذي يعنيه الحصار فعلاً؟ ومن يدفع ثمنه؟
عندما تُستخدم مفردة "الحصار" في وصف العلاقة مع الشركات الأمريكية، فإنّ السؤال الأساسي لا يكون فقط عن قدرة هذا الطرف أو ذاك على تنفيذ تهديده، بل عن شكل الحصار نفسه، وعن الأطراف التي ستتحمل نتائجه. إذا قررت قوى عراقية التأثير على عمل الشركات، سواء عبر تضييق أمني أو تحركات ميدانية، فإنّ أول الآثار المباشرة ستظهر على العمال والموظفين المحليين، وعلى المتعاقدين الفرعيين، وعلى بيئة الأعمال المحيطة. أي اضطراب في حقول النفط الكبرى لا ينعكس فقط على أرباح الشركة الأجنبية، بل على قدرة العراق على التصدير، وعلى إيرادات الموازنة، وعلى استقرار سعر الصرف، وعلى قدرة الحكومة على تمويل رواتبها وخططها.
في المقابل، إذا قررت الولايات المتحدة أنّ بيئة الاستثمار في العراق لم تعد آمنة بما يكفي، أو أنّ الشركات تتعرض لضغوط سياسية وأمنية ممنهجة، فإنّ أدواتها في الرد قد لا تكون عسكرية في المقام الأول. يمكن أن تبدأ بتشديد القيود على التحويلات بالدولار، وبفرض شروط أكثر صرامة على المصارف العراقية، وبإرسال رسائل سلبية إلى السوق العالمية عن مستوى المخاطر. هذه الإجراءات، حتى إذا لم تُقدَّم رسميًا على أنها "حصار"، ستكون لها آثار تشبه الحصار على المدى المتوسط، من حيث تضييق الخيارات الاقتصادية أمام بغداد، وتقليص مساحة المناورة أمام الحكومة، وزيادة اعتماد الاقتصاد العراقي على منافذ محدودة أقل تنوعًا وأكثر هشاشة.
في هذه المعادلة، تبدو الدولة العراقية عالقة بين ضغطين. إذا سكتت عن تحويل الشركات إلى ورقة في صراع السلاح، تخاطر بخسارة ثقة المستثمرين وبفتح الباب أمام انسحاب أو تقليص استثمارات مهمة. وإذا ذهبت بعيدًا في تقديم ضمانات للشركات والولايات المتحدة، من دون مسار متوازن لحلّ ملف السلاح داخليًا، فإنّها تضع نفسها في مواجهة قوى تمتلك السلاح والنفوذ والحضور الشعبي، وقد تُتهم بأنّها تتحرك تحت إملاءات خارجية.
نحو قرار وطني يحدد قواعد اللعبة
وجود تصريح واضح من قاضٍ وسياسي مثل وائل عبد اللطيف، يربط فيه بين تفادي الضربات الأمريكية وبين استقطاب الشركات، ويتحدث عن "محاصرة" هذه الشركات إذا استُهدفت الفصائل، إلى جانب تحليل مباشر من نائب سابق مثل فوزي أكرم ترزي يحذر من كلفة أي ضربة عسكرية أمريكية ويشير إلى قوة أدوات الضغط الاقتصادي، يبيّن أنّ النقاش في العراق لم يعد يدور حول سؤال واحد. الملف اليوم يتداخل فيه السلاح، والشركات، والمال، والعلاقة مع إيران، والعلاقة مع الولايات المتحدة، وصورة العراق في الأسواق الدولية، في ساحة واحدة.
السؤال الحاسم لم يعد: هل ستضرب أمريكا العراق أم لا؟ بل: ما الشكل الذي ستأخذه الضغوط إذا تعمق الخلاف؟ وهل ستستخدم الفصائل الشركات أداة رد، أم تستخدم أمريكا هذه الشركات مدخلًا لتشديد الضغط المالي والعقوبات؟ والأهم من ذلك: هل ستستطيع مؤسسات الدولة أن تفرض رؤية تعتبر الاستثمارات، مهما كان مصدرها، جزءًا من مصلحة عامة يجب حمايتها من الاستخدام في صراع السلاح، وفي الوقت نفسه تفتح مسارًا جديًا وشفافًا لمعالجة ملف السلاح نفسه ضمن قرار داخلي لا يكتب في عواصم أخرى؟
من دون إجابة واضحة على هذا السؤال، تبقى جملة "سنحاصر الشركات الأمريكية الاستثمارية في العراق" أكثر من تصريح إعلامي. تتحول إلى احتمال سياسي مفتوح، يحمل معه خطر أن يجد العراق نفسه أمام شكلين من الحصار في وقت واحد: تضييق اقتصادي ومالي من الخارج، وضغط ميداني وأمني في الداخل، بينما يظل المواطن الحلقة الأضعف بين هذه المسارات المتقاطعة.
.....................
انتهى / 323
تعليقك