٢٤ مارس ٢٠٢٥ - ٠٠:٤٥
لَيْلَةُ القَدْرِ فی بیان الشهيد آية الله الدكتور السيد محمد الحسيني بهشتي

تحمل المحاضرة الثانية عنوان "الأيام الأخيرة من حياة الإمام عليّ عليه السّلام"، وقد تمّ اختيارها من بين مجموعةٍ من المحاضرات التي ألقاها بعد عودته من ألمانيا.

وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ـ ابنا ـ تتألّف المجموعة التي بين يديك من ثلاثة أقسام مختلفة لكنّها مترابطة في ما بينها، حيث استُخرجت المحاضرة الأولى التي تحمل عنوان "ليلةُ القدر" من مجموعة محاضرات الدكتور بهشتي في المركز الإسلامي  في هامبورغ (ألمانيا)، التي أُلقيت عام  1344 ش، أي في السنة الأولى من إقامته التي استمرت خمس سنوات ونصف في ذلك البلد؛ وكما هو واضح من الأسلوب المعتمد في البحث فإنّ طريقة مخاطبة الحضور -الذين تتفاوت اطلاعاتهم فيما بينهم- في عين اتصافها بالسهولة والبساطة تبتني أيضاً على متانة الاستدلالات وقوّة الشواهد.

وتحمل المحاضرة الثانية عنوان "الأيام الأخيرة من حياة الإمام عليّ عليه السّلام"، وقد تمّ اختيارها من بين مجموعةٍ من المحاضرات التي ألقاها بعد عودته من ألمانيا. وتتجلّى فيها أيضاً النظرة التاريخية لتلك الأحداث التي جرت في السنوات الأخيرة من حياة الإمام عليه السلام، استناداً إلى الشواهد المتقنة، وإلى تصحيح الأفكار والاعتقادات الخاطئة والشائعة في أذهان عامّة الناس، وذلك بالطريقة التي كانت معتمدة دائماً في خطابات السيّد وكتاباته.  

أما الجزء الثالث من هذا العمل فهو نصُّ خطبة المتقين من كتاب نهج البلاغة الشريف، والذي ترجمه الدكتور بهشتي، واختير من بين مخطوطاته.

نرجو أن يكون هذا العمل زادَ رحلةِ طالبي الحقّ والمؤمنين بالله الصادقين.

ليلةُ الَقدرِ

أعوذُ بِاللهِ مِن الشَيطانِ الرَجيم، بِسم اللهِ الرحمنِ الرحيم. اَلحمدللهِ ربِ العَالمين والصَلاةُ والسَلامُ على جَميع الأنبياءِ والمرسَلين، سيَما عبده وَرَسولهِ النبي الأمين، مولانا أحمد ونَبينا أبوالقاسم محمّد؛ وعلى آله وأصحابِه وعِلى الأئمة الطاهرين، والسَلام علينا وعلى عِبادِ اللّه الصالحين.

بسمِ اللهِ الرَحمنِ الرَحيم

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ ﴿١﴾ وَمَا أَدْرَاکَ مَا لَیْلَةُ الْقَدْرِ ﴿٢﴾ لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿٣﴾ تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَالرُّوحُ فِیهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ ﴿٤﴾ سَلامٌ هِیَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴿٥﴾

يُسعدني أنّنا اجتمعنا في هذه الليلة الشريفة من شهر رمضان المبارك مع الأخوات والأخوة المسلمين؛ من أجل عبادة الله تعالى والتضرّع له، إنّها فرصةٌ نستطيع من خلالها بحثَ واحدة من القضايا الإسلامية في حدود جلسةٍ واحدة. وكلّي أملٌ في أن تزدهر محافلنا الدينية والروحية على الدوام كمّاً ونوعاً، وأن يوفقني الله وإياكم وجميع المسلمين؛كي نتمكن من اغتنام الفرص المتاحة على نحوٍ أكبر وأفضل، وبنيةٍ خالصة وخطةٍ وبرنامج مَرضيين ومقبولين عنده تعالى.

لقد وعدنا في الدعوة التي وُجهت للسادة والسيدات بالتحدث في ليلة الواحد والعشرين حول المسائل التالية: القدر، والإحياء، والدعاء؛ والتحدث أيضاً عن السنوات الأخيرة من حياة الإمام عليّ عليه السّلام. ومن ثمّ التحدث بعدها في ليلةٍ أخرى حول كيفية استفادة المسلمين من شهر رمضان المبارك.

من هنا، سنتحدثُ الليلة حول ليلة القدر، والإحياء، والدعاء، لنتعرّف أكثر على هذه الكلمات ومعانيها.

ليلة القدر:

كما نعلم، ورد تعبير (ليلةُ القدر) في القرآن الكريم في السورة المعروفة التي تسمى بسورة القدر، قال تعالى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاکَ مَا لَیْلَةُ الْقَدْرِ ﴿2﴾ لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿3﴾ تَنَزَّلُ الْمَلَائِکَةُ وَالرُّوحُ فِیهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ ﴿4﴾ سَلَامٌ هِیَ حَتَّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴿5﴾

إنّ كلّ ما تفهمونه من هذه السورة التي تلوتها عليكم هو المقدار الذي تحدث عنه القرآن الكريم حول هذه الليلة فقط. وإلى جانب ذلك، أنتم تلاحظون في هذه السورة أنّه تمّ ذكر هذه المواصفات:

  • ليلةُ القدر هي ليلةٌ أُنزل فيها القرآن: إنّا أنزلناه في ليلة القدر.
  • هي ليلةٌ أفضل من ألف شهر.
  • هي ليلة تتنزّل الملائكةُ والروح فيها (وفي آيات أخرى ينزل الروح الأمين أيضاً)، وذلك بأمر الله تعالى (بكل أمرٍ من الله).
  • هي ليلةُ سلام، وسلم، وسلامة، حتى مطلع الفجر.

إذن، هذا هو المقدار الذي نفهمه من سورة القدر حول هذه الليلة.

لكن قبل أن أواصل الموضوع أريد أن أُلفت إلى مسألة هامة، وهي أنّ إحدى المشكلات الفنيّة التي نعاني منها في الدراسات الاسلامية هي أنّ القارئ عادةً ما لا يلحظ عند معالجته لموضوعٍ معيّن إلا آية أو آيتين فقط أو حديثاً أو حديثين، ويغفل عن الآيات والروايات والمسائل الأخرى التي تتعلق بالموضوع ذاته؛ بمعنى أنّه لا يبحث حوله بشكلٍ شامل، بل يقتصر فقط على المقدار الذي ذكرناه؛ وأحياناً قد تضعف عزيمته عن البحث والتتبع؛ ولهذا تكون الملاحظات التي يُبديها غالباً ملاحظات أوًليّة غير عميقة. وبعبارةٍ أخرى، يعدّ عدمُ التتبعِ الكافي والبحثِ الكامل والعزيمةِ القوية في دراسة أدلّة أي موضوع إسلامي وفحص مصادره من المشاكل الفنيّة التي يُعاني منها العالم الإسلامي. للأسف، هؤلاء ليسوا فقط من غير علماء المسلمين، بل هم أيضاً من زمرتهم، حيث نلحظ أنّ كثيراً منهم تنفذ عزيمتهم ويقّل صبره عن مواصلة الطريق. كذلك لسوءِ الحظ، يعاني الكثير من أولئك السادة أيضاً ممن درّس وألّف حول الإسلام في القرون الأخيرة والذين يُعرفون باسم "المستشرقين" و"المتأسلمين" من هذه المشكلة.

من هنا، ينبغي الإلماع فيما يخصّ ليلة القدر في القرآن الكريم إلى أنّ الموضوع لم يُختم بهذه السورة، بل لدينا آيات عديدة أخرى في سورة الدخان ترتبط بها بشكلٍ أو بآخر. فقد جاء فيها:  

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ﴿۱ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿۲ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴿۳ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴿4﴾ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴿5﴾. (الدخان: 1-5)

نُلاحظ أنّ هذه الآيات تتحدث إلى جانب الآيات الواردة في سورة القدر عن موضوع واحد. لكن بالطبع لم ترد هنا كلمة "القدر"، حيث إنّه قال في سورة القدر: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ﴾، أما هنا فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، إلا أنّ هذه الليلة المباركة هي نفسها ليلة القدر. كما أنّه قال هناك إنّ الملائكة تأتي في هذه الليلة بكلّ أمرٍ مع الروح الأمين، أمّا هنا فيقول إنّه يتمّ في هذه الليلة تحديد كلّ أمرٍ بشكل قاطع وحاسم.

وأيضاً هناك آية في سورة النحل ليست مخصوصةً بليلة القدر لكنّها مرتبطة بالمحتوى العام لها، وهي الآية التالية: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾، حيث نجد هنا أيضاً حديثاً عن إنزال الملائكة والروح وإرسال الرسل والأنبياء عليهم السّلام إلى الناس.

هذا كلّ ما ورد في القرآن الكريم حول ليلة القدر وكّل شيء يتعلق بهذه المسألة.

 والآن أسأل: ماذا نفهم من هذا؟ هل يُفهم من آيات القرآن أنّ ليلة القدر هي ليلةٌ تُقدّر فيها شؤون الأفراد والناس؟ هل ليلة القدر تعني ليلة التقدير؟ هل هي ليلة تقدير حياة الناس ومصائرهم؟ إذا كان الأمر كذلك، فإلى متى إذن؟ إلى سنة واحدة، أم أقل؟ أم أكثر؟

يُعدّ هذا المعنى -أي تقديرُ مصائر الناس- إحدى الاحتمالات الواردة في معنى كلمة "القدر"؛ لكن يوجد احتمال آخر وهو أنّ ليلة القدر تعني أنّ الحسابات هي التي تُوضّح في هذه الليلة، وليس المقصود من ذلك  مصير الأفراد والناس بل  المقصود أنّ الحكم القاطع في كلّ مطلب يتضح في هذه الليلة؛ حيث إنّ القرآن الكريم أُنزل في ليلة القدر وبُعث النبي صلّى الله عليه وآله بالنبوة فيها وأَنزَلَ اللهُ تعالى الحلال والحرام والحسن والقبيح في القرآن الكريم بصورة قاطعة وأبدية، كما تمّ إرسال الملائكة أيضاّ مع الروح الأمين الذي حملَ إلى النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله الرسالة الإلهية والكتاب الإلهي، وهو القرآن الكريم. بناءً على ذلك، فإنّ ليلةَ القدر هي ليلةٌ يتمّ فيها توضيح حجم ومقدار كلّ أمرٍ بشكلٍ حاسم، وبهذا المعنى لا يوجد بحثٌ حول مصير الأفراد كما في المعنى الأول، سواء كان ذلك في حدود ليلة أو سنة أو تمام العمر.

كذلك يوجد احتمالٌ ثالث أيضاً في معناها، وهو أنّ القدر في الأصل يعني المكانة والمنزلة، ولا يعني التقييم. فيصير المعنى كالآتي؛ أنّنا نحن أنزلنا القرآن في ليلةٍ قيّمة، أي في ليلةٍ تستحق التقدير، وليلةٍ هي أفضل من ألف شهر؛ ويكون السبب في قيمتها ومكانتها وكونها أفضل من ألف شهر أنّها ليلة بعثة النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله.

وهنا ينبغي الالفات إلى نقطة، وهي أنّنا لا نستطيع أن نفهم من القرآن الكريم وآياته بوجه التحديد أيّ هذه المعاني هو المراد، هل هو المعنى الأول؟ أو المعنيان الآخران؟ بيد أنّه من المسلم استفادة هذا المقدار من الآيات، وهو أنّ ليلة القدر هي ليلة بعثة النبي صلّى الله عليه وآله، وليلة إنزال القرآن، وأنّها ليلة مباركة، هي ليلةٌ مليئة بالبركة، وليلةُ سلام للبشرية والإنسانية حتى وقت الفجر، إنها ليلةٌ تنزّلت فيها الملائكة مع الروح الأمين على النبي صلّى الله عليه وآله، وقرأوا عليه كلُ ما هو حتمي أو محتمل.

هذا ما يستفاد من القرآن الكريم بشكل مسلّم، لكن لا يمكن بحدود القرآن الكريم البت والجزم فيما هو أكثر من ذلك.

إلى هنا تمّ بيان ما هي "ليلةُ القدر" من منظور القرآن الكريم.

أمّا من منظور الروايات:

يوجد بحسب الروايات الشيعية والسنية، العامة والخاصة أحاديث ورواياتٌ عديدة عن النبي صلّى الله عليه وآله حول ليلة القدر. فللإمام مالك الذي يُعدّ من كبار أئمة فقه العامة وإخواننا أهل السنة، والذي عاصر تقريباً الفترة المتأخرة من حياة الإمام الصادق عليه السّلام، بابٌ تحت عنوان (القدر)، ذكره في كتابه المعروف والمعتبر والذي يحظى بقيمة عالية في نظر العامة، والذي يُعدّ أيضاً أشهر أثر علمي في الفقه والحديث، وهو كتاب "الموطّأ". ينقل مالك في هذا الباب روايات مختلفة عن النبي صلّى الله عليه وآله، سُئل فيها عن ليلة القدر. قال صلّى الله عليه وآله في واحدة منها إنّها في الأيام العشر الأخيرة من شهر رمضان، و قال في أخرى إنّها في الأيام الأخيرة منه، وهي تنطبق على ليلة العشرين والحادية والعشرين والثانية والعشرين والثالثة والعشرين والسابعة والعشرين.

لكن للأسف ،كتابُ الموطّأ ليس معي هنا؛ إذ لا تزال أكثر كتبي في إيران، إلا أنّ ما بقي في البال من المطالعة السابقة للأحاديث التي نقلها مالك في هذا الكتاب أنّها تنطبق على أربع ليالٍ من الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان. وهو يقول إنّ النبي صلّى الله عليه وآله أكدّ على أنّه يجب علينا في هذه الليالي أن نعبد الله ونتوجه إليه بالدعاء من أجل أنفسنا ومن أجل الآخرين. حتى أنّه ذكر فيه أيضاً الحديث المعروف حول ليلة الجُهمي،[1] والتي أوردها المرحوم المحدّث القمي في كتاب مفاتيح الجنان ضمن الأعمال الخاصة لليلة الثلاثة والعشرين.

 على أية حال، ذكر مالك في كتاب الموطّأ هذا الأمر في بضع روايات دون تفسير أو توضيح بالنحو الذي عرضته أنا.

كذلك ينقل الإمام الشافعي، وهو أيضاً أحدُ كبار أئمة فقه العامّة والأخوة أهل السنّة، في بابٍ صغير وبشكلٍ مختصر أكثر مما ورد في موطّأ مالك مسألةَ ليلة القدر والعبادات فيها، وذلك في كتابه الشهير "الأمّ"[2]، الذي يُعدّ من أشهر كتب فقه العامة.

أمّا ما يخصّ الحنفيّة، فلم يكن عندي شيء متاحٌ من كتب فقههم؛ كي أطلع عليه، وأيضاً لم تُتح لي الفرصة سابقاً للرجوع إليه.

أمّا علماءُ الشيعة، فقد نقلوا روايات جمّة في هذا المضمار، خاصةً في كتب الأدعية، وكذلك كتب الحديث. ومحصّل روايات وكلمات هؤلاء العلماء أنّه يُستحب في هذه الليلة ويُناسب كلّ مسلم أن يقضي وقتاً أطول في الدعاء والتوجه إلى الله، وإن أمكنه فالأفضل إحياء الليل كلّه.

الإحياء:

إنّ الإحياء كلمة عربية وتعني في اللغة الفارسية بالدقة (شب زنده دارى)[3]، فالإحياء هو إحياء الليل. وعُصارة ما جاء في كتب الشيعة وأحاديثهم، أنّه يحسنُ لكلّ مسلم أن يحيي هذه الليالي بالدعاء والتوجه إلى الله ومحاسبة النفس وتطهير القلب وتنقية الروح من الآفات والشوائب، وتهيئها لأداء المهام التي كلّفنا الله بها بشكلٍ أفضل. كما يوجد أيضاً أدعية كثيرة في هذا المجال.

 ومن جملة المسائل المتصلة بالدعاء في هذه الليلة أيضاً، ما قاله بعض المحدثين -منهم المرحوم المحدث القمي والمرحوم المجلسي وغيرهم- من أنّ هذه الليلة هي الليلة التي تُحددّ فيها مقدّرات العام، غير أنّ هذه الجهة ليست أساسية في مسألة ليلة القدر.

إلى هنا، وكما لاحظتم فقد بدأنا بالقرآن الكريم وذكرنا الروايات التي نُقلت عن النبي صلّى الله عليه وآله، ثم أشرنا إلى ما ورد في سنّة أهل البيت عليهم السّلام، وإلى غيرها من الأمور التي يُستفاد منها في هذا الإطار. والشيء الأساسي في القضية هو أنّ هذه الليلة هي ليلة مليئةٌ بالبركة، ليلةٌ ثمينة، هي ليلةُ نزول القرآن على النبي صلّى الله عليه وآله، ليلةٌ نزلت الملائكة فيها مع الروح الأمين على النبي صلّى الله عليه وآله، ليلةُ السلام، ليلةُ الوصول إلى السلام.

هذا بحدود ما عرضه القرآن الكريم. أما في الروايات، فهي ليلةُ الدعاء، أي ليلة ينبغي أن يدعو فيها كل فرد لنفسه وللآخرين، وأن يحييها بالعبادة، يعني إحياء الليل. هذا هو ما تفيده الروايات التي نقلت عن النبي صلّى الله عليه وآله، كما أنّ كثيراً من روايات الأئمة عليهم السّلام تؤيد هذا المعنى أيضاً، إضافة إلى وجود أدعية كثيرة في هذا الشأن. ثمّ، إذا تقدّمنا أكثر، سنصل إلى المعنى المرتبط بتعيين مقدرات السنة.

ولكن ينبغي الإلماع إلى أنّ هذا لا يعني بتاتاً أنّه لا ينبغي للإنسان أن يدعو بعد ليلة القدر، ولم يقل بذلك أحد من علماء المسلمين. وعليه، بما أنّ هذه الليلة هي ليلة تعيين مقدرات السنة، فينبغي إذن أن يكون لها معنى ومفهوم آخر يتوافق تماماً مع مسألة استحباب الدعاء، والتأكيد الدائم عليه في جميع الليالي والأيام، بل في كلّ ساعة من ساعات السنة. والتفسير الذي يمكننا تقديمه هنا، أنّه يحسنُ بالإنسان أن يخصص -في سنته التي يعيشها- ليلة أو ليلتين أو ثلاث، لجوانبه الروحية والمعنوية، وللاعتناء بنفسه؛ على سبيل المثال، كما يتعيّن على المؤسسة الاقتصادية خفض أعمالها التجارية في الأيام الأخيرة من العام، أو اليوم الأول من العام الجديد، والبدء بجرد حساباتها السنوية فيه، على الإنسان أيضاً، أن يقلّل من أعماله العادية في حدود ليلتين أو ثلاث ليالٍ، أو يومين أو ثلاثة أيام من السنة، وينصرف إلى محاسبة نفسه، فيرى ما فعله في الماضي، وماذا يريد أن يفعل في المستقبل. حقيقةً، من المناسب جداً لكل إنسان أن يكون لديه يوم أو يومين أو ثلاثة أيام أو بضعة أيام في حياته هكذا. لاشكّ أنّه عندما يقرر الإنسان -في يوم، أو يومين، أو ثلاثة، أو أربعة أيام، وليالٍ من السنة- الوصول أكثر إلى نفسه، فإنّ هذا الأمر سيكون له تأثيرٌ كبيرٌ في تحديد مقدراته، على الأقل لسنة أخرى. إذا قام كلّ فرد منّا بتخصيص هذه الليلة، أو الليلة الماضية، أو ليلة القادمة، أو ربما بضع ليال، بضعة أيام، أو بعض الوقت؛ لكي يصل إلى نفسه ويرى المسار الذي سلكه في الماضي، وما هي الذنوب التي ارتكبها؟ وما الذي قام به من الخير؟ ثم، سأل الله المغفرة والتوبة، عن جميع الذنوب المرتكبة، فتاب وآب إلى ربّه، ثمّ، يقرر ما إذا كان يريد أو لا يريد أن أكون أفضل للعام القادم، ولحياته المستقبلية، فلا يرتكب هذه الذنوب بعد اليوم، ولا يكررها، ويدعو عند أعتاب مولاه ويسأله التوفيق والسداد...[4] لو لم يكن أحدٌ قد قال أيّ شيء أيضاً، وكنّا نحن نحاسب أنفسنا، فإننا سنقول: نعم، سيكون لهاتين الليلتين أو الثلاثة تأثيرٌ كبير في تحديد مصير وسلوك ومقدرات عامي[5]؛ لأنّ الآثار الروحية لهذا التحقق وهذا الفحص وهذا التوجه وهذه المحاسبة وهذا الدعاء إلى الله سيترك بلا شكّ -بشكل واعٍ أوغير واعٍ- آثاراً بليغة في الروح حتى العام المقبل عندما تتكرر مثل هذه المحاسبة مرةً أخرى.

هذا هو الفهم المعقول والمتذوق حول ليلة القدر؛ ولكن لا أعلم؛ هل يقبل إخواني وأخواتي هذا الفهم المعقول ويحبونه أم لا؟

على كلّ حال، كان هذا ما وددت قوله حول ليلة القدر، ومسألة القدر، ومعنى القدر، والإحياء.

 

الدعاء:

أمّا في خصوص مسألة "الدعاء"؛ فأنا أعتذر جداً؛ إذ يتوجب عليّ أن أختصر المطالب كثيراً؛ لأنّني رأيت أنّه يتعيّن علينا التحدث عن الأمور الثلاثة التي خططنا لها كلّها؛ لأجل ذلك من الأفضل أن أختصر قليلاً في الكلام؛ حتى نتناول المواضيع الثلاثة بأجمعها. وعليه، سأقدم مطلباً قصيراً للغاية حول مسألةٍ خاصةٍ جداً وتفصيلية؛ لأنّه في برنامج هذه الليالي الثلاث، سوف يكون لدينا برنامج دعاء مدته حوالي عشر أو خمس عشرة دقيقة.

على أي حال؛ "الدعاء" كلمة عربية، والمعنى الأصلي لهذه الكلمة هو الدعوة. عندما يكلم إنسان أحداً ويدعوه إليه، فإنّه إذا دعاه بصوت منخفض وبصورة عادية يقولون:"دعاهُ"، وإذا كان صوته أعلى قليلاً يقولون:"ناداهُ". والآن أقول، إنّ لكلَّ إنسانٍ يؤمن بالله ويعتقد به حالات متباينة يدعوه بها ويناديه؛ فيقول مثلاً:"يا الله!"؛ بل حتى ذاك الذي لا يملك إيماناً قوياً بالله، هو نفسه يقول بالنهاية في أوقات الضيق والقلق والاكتواء: "يا الله". وبالتالي الدعاء يعني قول "يا الله"، ويعني طلب الشيء والحاجة من الله. لكن (يا الله) هذه التي نقولها نحن البشر متنوعة ومتباينة للغاية، حيث يوجد لا أقلّ ثلاث حالات يدعو المؤمن ربَّه فيها؛ فمثلاً، لنفترض أنّ هذا الشخص مريض، وسقيم، ويعاني من الألم، أو أنّ مرضه مزمن، وهو يائس تماماً من الشفاء، لكنّه في النهاية يقول: يا الله! إنّ هذا الشخص في الحقيقة يسأل الله من أعماق قلبه الشفاء والراحة والتخلص من براثن المرض؛ أو مثلاً لنفترض أنّ ذاك الشخص عاجز، وحياته أصبحت محطمة ومضطربة بعد أن كانت مرفهة، إنّه عالق في المصاعب والشدائد، ولم يجد حلاً في كل الأبواب التي طرقها، وقد انحنى ظهره تحت وطأة المشكلات والبلايا، لكنّه أيضاً يقول من أعماق قلبه: يا الله، وهو طبعاً من خلال قوله هذا ولأجل حلّ مشكلاته، يريد الله تعالى واقعاً، هو يريد العون من الله لأجل حلّ هذه المشكلات. كما أنّ الرجل العابد-ولا أقصد من العابد مَن يبيت على سجادته أربع وعشرين ساعة ويسبح الله- بل العابد هو الشخص الذي كرّس كلّ وجوده للتوجه إلى الله وإطاعته وعبادته، بحيث إنّه يتوجه دوماً إلى الله في الحياة؛ فهو الآن لا يتألم، وليس مريضاً، ولا يعاني من أي صعوبة، بل إنّ حياته أيضاً تسير بالنحو الصحيح، وهو راضٍ عنها، إلا أنّه أيضاً يقول: يا الله! أنا أشكرك، شكراً لك يا إلهي. ما يقوله هذا الشخص العابد هو أيضاً دعاء، إنه أيضاً يدعو الله، يدعوه لشكره وحمده، فهو ليس في وضع يسأل الله فيه شيئاً، بل في حالة الشكر لله والإمتنان له. هذا شخصٌ يملك رؤية أسمى لله والعالم، فكما ترون هو شاكرٌ وممتن، إنّه لا يعاني من أيّ ألم، وليس لديه مشكلة، وليس قلقاً، لكنّه في الوقت نفسه، يقول: يا الله!، من هو هذا الشخص؟ هو ذاك الذي عندما يقول: يا الله، فإنّ قول هذه الكلمة وترنيمها من أعماق قلبه يكون تعبيراً عن حالةِ عشقٍ للمعبود وعشقٍ لله. أي أنّه أصلاً يجد لذةً معنوية في التوجه إلى الله، ونشاطاً روحياً، وانبساطاً في القلب والنفس والروح، وانفتاحاً كذلك؛ لأنًه يلتذّ بقوله: يا الله. إذن، هذا أيضا نوعٌ من الدعاء.

بناءً على ذلك، تلاحظون أنّ الدعاء في جميع هذه المراحل والحالات يعني دعوة الله ومناداته. فنحن إمّا أنّنا ندعو الله بعنوان طلب المساعدة، مثلما نطلب من أيّ شخص مساعدتنا؛ أو يكون دعاؤنا إلى الله بعنوان الشكر؛ أو لأجل العشق والوَلَه، وهو أعلى مرتبة من الدعاء. ويجب أن أقول هنا أيضاً: إنّ معظم الأدعية الواصلة إلينا عن أئمتنا عليهم السّلام، سما ما ورد عن الإمام السجّاد عليه السّلام، وعن مولى المتقين أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، تمتاز بجنبة التحبب والتودد إلى الله تعالى. في الواقع، يتكلم الإمام السجاد عليه السّلام في معظم أدعية الصحيفة السجادية وكأنّه يخاطب حبيبه، وكأنّه في حالة حبّ وحنان. فهو يستمتع بهذا الحبّ، ويأنس بالله. إذن، هذا أيضاً دعاء.

بناءً عليه، الدعاء ليس للعاجزين والمحتاجين فقط، وليس لمن يعانون فقط؛ إذ إن أعلى درجةٍ للدعاء تعود إلى أولئك الذين طووا هذه المراحل، للذين يكون لديهم عندما يلجؤون إلى الله قلبٌ من أجله، بحيث يكون لجوؤهم هذا: إمّا لأجل الشكر؛ أو لما هو أعلى منه، أي لأجل الأُنس.

وهنا تجدر الإشارة، إلى أنّ معظم آيات الدعاء في القرآن الكريم ترتبط بالقسمين الأول والثاني، وهناك عددٌ أقلّ من الآيات مرتبطة بالقسم الثالث. وبما أنّ آيات القرآن هي على وفق حالة عموم الناس، وبما أنّ أكثر توجه هؤلاء إلى الله إنّما هو من أجل حلّ المشاكل وطلب المساعدة، أو من أجل ما هو أعلى من ذلك -أي الشكر- فإنّ معظم آيات الدعاء في القرآن جاءت في هذا الصدد بالخصوص. ولكن هناك عددٌ أقل من الآيات القرآنية التي تتعلق بصفات الصالحين والخواصّ، حيث يحتوي الدعاء معنى الأنس بالله أيضاً. وفي الغالب تَرِد هذه الآيات مع كلمة: ذكر وتذكر وذكر الله، حيث يتمّ التعبير عن الدعاء في تلك الآيات بهذه الكلمة.

هناك مسألةٌ أخرى يجب ذكرها حول الدعاء، وهي أنّه مما لا شكّ فيه أنّ الدعاء يُعدّ من الملاجئ العالية وجزءاً من السعادة في حياة أولئك الذين لم تُغلِق تربيتُهم ومعتقداتُهم وعاداتُهم طريقَ الدعاء في حياتهم، ولم ينقطع الاتصالُ القلبي بينهم وبين الموجود الذي يدعونه؛ ولهذا يملك أولئك الذين لم يفقدوا ملجأ الدعاء نعمةً عظيمة ينبغي عليهم معرفة قدرها. لكن دعونا هنا، أن لا نفكر بشكلٍ سيء وطريقة خاطئة في هذا الملجأ، فالدعاء ملجأ ثمين لأولئك الذين يفهمون ما يعنيه الدعاء، وكيف يجب أن يدعوا، وأين يجب أن يدعوا، وهو في المقابل منزلقٌ خطير للفرد والأمة التي لا تعرف ميزانه وحدّه.

 ولكن للأسف، يبدو الأمر كما لو أنّ أمتنا عانت -في مورد الدعاء- من مثل هذا المنزلق. ففي هذه الخصوص، يجب أن أوضح أمراً، وهو أنً الدعاء لا يمنع مَن يمارسه بأيّ شكلٍ من الأشكال -ولو قليلاً- من بذل جهده وسعيه؛ من أجل الوصول إلى تلك المسألة التي يدعو الله من أجلها. فلو دعى داعٍ ولم يحرك نفسه، أو تحرك ولكن لم يتحرك بالمقدار الكافي، فهو إنسانٌ جاهل. مثلاً، لنفرض أنّ هناك أمّ أو أب يعتني بطفله المريض الذي تجمعه به علاقة حبّ عميقة، والذي يرقد أمامه في الفراش ويَأُنّ باستمرار ويرزح تحت وطأة المرض؛ فيضطرب هذا الأب أو الأمّ -أي من يعتني بالطفل- ويصدح من أعماقه:"يا الله، اشفِ طفلي!". ولكن المسألة -هنا- هي أنّه في الوقت الذي يقول هو هذا، يجب عليه أن يأخذ في الاعتبار ما إذا كان قد فعل ما في وسعه لعلاج هذا الطفل المريض أم لا؟  لو أهمل هؤلاء أو قصّروا بمقدار ذرةٍ واحدة في معالجة ومداواة ذاك المريض، ولم يقوموا بأيّ شيء سوى القول: يا الله، فهم بذلك قد أخطأوا في معرفة الله وأساؤوا فهمه، وأيضاً أخطأوا في معرفة الدعاء وأساؤوا فهمه. والحل نفسه بالنسبة إلى الأمّة، فإذا كانت أمةٌ أو مجتمعٌ عالقاً في متاهةِ دوراتِ الحياة الاجتماعية المعقدة، وهو يتعرض للضغط من جميع الجهات، ثم يدعو ويسأل الله إنقاذه وتخليصه من الظروف والمشاكل هذه، فهو أمر مناسب جداً؛ لكن علينا أولاً أن نسأل هذه الأمة عمّا إذا كانت قد مرّت بكل الطُرق العقلانية في محاولة إنقاذ وإصلاح نفسها أم لا؟  فلو قصّرت في سيرها في هذا الطريق ولجأت للدعاء، فإن مثل هذا الدعاء يعدّ دعاء جاهل، وعليها أن لا تننتظر أو تتوقع الإجابة.

عموماً، لقد فسرتُ الدعاء على أنّه: محبّة الله، الاتصال بالله؛ والآن اسمحوا لي أن أبيّن ذلك مرةً أخرى.

 معنى الدعاء هو أنّه ينبغي على الفرد أو المجتمع الذي بذل كلّ الجهود الطبيعية واستنفذ جميع السبُل دون بلوغ النتيجة أن لا يخيب أمله، ولا يشعر باليأس، وأن يعلم ويؤمن بأنّ التنظيم الإلهي أوسع بكثير من مجال سعيه، وأنّه قد تكون هناك طرقٌ غير معروفة للسعي ستُفتح أمامه في المستقبل، وسيوضع أمامه مسارٌ جديد لجهده وسعيه. لذلك تلاحظون، أنّه أصلاً في مفهوم الدعاء، خصوصاً في الإسلام،... لئلا ينحدر دعاء الإسلام إلى مستوى دعاء الأديان الخرافية الأخرى، أو يتلوث بالخرافات. لكن لسوء الحظ، يجب القول إنّه قد انحدر فعلاً[6]. ولذلك كما تلاحظون، هناك في مفهوم الدعاء -عندنا في الإسلام- استعدادٌ لبذل الجهد والسعي بنحوٍ لا حدّ له. يعني أنّه لا ينبغي فقط على المرء أن يعمل إلى الحدّ الذي وصل إليه عقله، بل ينبغي أيضاً أن يملك الأمل بسُبُل جديدة للسعي وبذل الجهد بحدود ما لم يصل إليه عقله بعد. على هذا الأساس، أين هذا المعنى من ذاك المعنى الذي يدعو إلى الكسل والتوقف عن السعي والمحاولة، أملاً بكفاية الدعاء؟! حقّاً إنّه بعيد جداً!

بناءً على ذلك، فإنّ معنى الدعاء -لدينا نحن الذين ندعو- هو أنّنا -من جهة- نحافظ دوماً ولأجل أنفسنا على الاتصال مع الله اللامتناهي وقدرته اللامتناهية؛ ومن جهةٍ أخرى، أنّنا نتفادى الوقوع في اليأس وانقطاع الأمل. لذا، اسمع أيها العزيز؛ عليك أن تكون متفائلاً؛ فمن المأمول أنّك ستصل إلى هدفك ومقصودك وآمالك وأمنياتك بطرقٍ لا تخطر على بالك حتى!

عادةً ما يكون دعاء الليلة -خاصةً بين الشيعة- مصحوباً باهتمام أكبر بالثقلين العظيمين اللذين عرّفهما لنا النبي صلّى الله عليه وآله، فقد قال النبي صلّى الله عليه وآله في آخر أيام حياته: إنّي راحل، ولكن ستبقى بين يدي الأمّة وسيلتان من وسائل السعادة والهناء والهداية والإرشاد، هما الكتاب وأهل بيتي. إنّنا نولي في مراسم دعاء ليلة القدر مزيداً من الاهتمام بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السّلام. إنّنا وفي الوقت عينه الذي ندعو الله فيه، نكون بذلك متبعين لخطى القرآن وخُطى النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام. ويوجد هنا -في هذا الأمر- نُكتةٌ دقيقة يجب التنبه إليها، وهي أنّ الدعاء في الإسلام لا يقترن فقط ببذل الجهد الدؤوب لبلوغ النتيجة المرجوة التي ندعوا الله لأجلها، بل أيضاً بالجهد والسعي لأداء جميع الواجبات الإلهية، فإنّنا -نحن الذين نحمل القرآن في ليالي القدر بأيدينا، أو نضعه على رؤوسنا، ونذكر بعد اسم الله تعالى الأسماءَ المباركة للنبي صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السّلام، ونتوجه بهذه الطريقة إلى الله بقلوبنا- نتقرب إلى الله بهذا العمل؛ وبعبارة أخرى، إنّ عملنا هذا يعني أنّنا ومن خلال ما نحمله من روحية التسليم في العمل بالقرآن وإطاعة النبي صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السّلام، نتقرّب إلى الله تعالى، ونطلب منه العون، ونسأله الهداية، ونتقدم له بالشكر. وفيما لو كنّا لائقين بهذا الأمر، فإنّنا سنستأنس بالله أيضاً، ونؤنس قلوبنا به. هذه النكتة الدقيقة يجب أن تكون موضع اهتمامنا دائماً.

وأخيراً، أودّ القول إنّ المطالب التي أُلقيها في معظم محاضراتي، دائماً ما تكون عبارة عمّا بلغته بفهمي في خصوص أداء الواجبات أو اجتناب المحرمات أو العمل بالمستحبات؛ لذا فإنّني في ليالي القدر والإحياء، أفهم من خلال تلاوة القرآن الكريم ومن النبي صلّى الله عليه آله أهل بيته عليهم السّلام، أنّنا نريد تجديد العهد مع القرآن، ومع معلمي القرآن، أي النبي وآله، والتصميم على الاقتراب منهم وفهم كلماتهم بشكلٍ أفضل، والتصّرف بنحوٍ أحسن.

الأيام الأخيرة من حياة الإمام عليّ عليه السّلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمد للهِ ربِّ العالمين، والصلاة والسّلام على جميع الأنبياء والمرسلين سيّما عبده ورسوله وأمين وحيه خاتم النبيين محمّد، وعلى آله أجمعين، وعلى الأئمة الطاهرين، والسّلام علينا وعلى العباد الصالحين.

حسب الجدول الزمني الذي كان محدداً لنا في هذه الليلة، سأتحدث عن السنوات الأخيرة من حياة الإمام عليّ عليه السّلام، لكن قبل كلّ شيء أودّ تقديم تعازيَّ الحارّة إلى جميع الأخوة والأخوات بشهادة مولى المتقين عليّ عليه السّلام، نعم، أقدّم تعازيَّ إلى هؤلاء الذين يملكون في قلوبهم -منذ الطفولة- حبّاً نقيّاً للإمام عليّ وآله عليهم السّلام، وهم مخلصون في ذلك.

 تُعدّ الشخصية البارزة لعليّ عليه السّلام من الشخصيات الاستثنائية في التاريخ، التي لا نبالغ فيما لو قلنا إنّها لا مثيل لها أبداً. قليلةٌ هي الشخصيات الكبرى التي تمّ الحديث عنها وأُلّفت الكتب حولها بالمقدار الذي نجده حول عليّ؛ إذ لا يقتصر الأمر على الكُتب التي كتبها الشيعة وعلماؤهم، بل يوجد مطالب وكُتب ألّفها غير الشيعة أيضاً. وأكرر، ليس فقط الكتب والمسائل التي كتبها إخواننا المسلمون من أهل السنّة؛ إذ إنّ أغلبهم يحبّون عليّاً عليه السّلام أيضاً، بل الأغلب يودّونه أيضاً. يوجد لدى الكثير منهم قضايا مذكورة في كتاباتهم، بحيث لو أنّ الفرصة أُتيحت لنجتمع في محفلٍ خاص لمدة ساعات، وأقرأ على مسامعكم شيئاً منها، لتفاجأ بعض السادة أنّه حتى علماء أهل السنّة لديهم مثل هذه الأشياء حول عليّ عليه السّلام. نعم، أغلبهم يُكنّون مثل هذا الحبّ الخاص لعليّ، ولديهم حبّ كبير له. بل كذلك قدّم الكتّاب والعلماء غير المسلمين عليّاً في صفحة التاريخ بصورةٍ خاصةٍ، بحيث كلَّما ظهر عاشقٌ لإنسانية مَن نشأ وتربّى بشكلٍ سليم ولصفائه الملكوتي السامي، وكلَّما وُجد شخصٌ مفتونٌ وتوّاقٌ لرؤية ومشاهدة إنسانٍ متألقٍ وروحٍ مشرقةٍ، فإنّ أوّل مرآة من شأنها ضمّ مثل هذه السمات هي تلك المرآة التي يُبحث عنها تحت اسم عليّ. ويوجد من بين هؤلاء الكتّاب غير المسلمين الذين ألّفوا كتاباً حول شخصية مولى المتقين، كاتبٌ مسيحي من لبنان. لقد أمسك هذا الكاتب في هذه السنوات العشر أو الخمسة عشر الأخيرة[7] القلمَ وألّف بيراعه كتاباً حول عليّ، وبالفعل نال كتابه نجاحاً باهراً. هذا الكاتب هو جورج جورداق. لقد كتب جورداق في أول مرّة كتاباً عن عليّ في مجلدٍ واحد[8]، وقد ذاع صيته ولاقى رواجاً لدى الجميع، حتى أنّه سرعان ما أُعيد طبعه مرات متعددة. ثمّ بعد أن لاحظ جورداق هذا الإقبال الكبير على عمله، قرّر أن يوسّع هذا المجلد ويشرحه. وبالفعل كتب كتاباً مفصّلاً من خمسة مجلدات حول الإمام، يُظهر كلُّ مجلدٍ منها عليّاً في صورةٍ وهيئةٍ وشكلٍ خاص بمنتهى الإتقان. ولحسن الحظّ، تُّرجم كتابُه الأوّل إلى اللغة الفارسية وتمّ نشره، لكنّني شخصياً لم أسمع إلى الآن بترجمة الخمس مجلدات. وأنا أتمنى أن يكون الكتاب بصورته الثانية – أي المكوّن من خمسة مجلدات- قد تُرجم ونُشر باللغة الفارسية، حتى يتمكن جميع أولئك الذين يتحدثون بهذه اللغة من الاستفادة منها.

لهذا السبب، سأركّز الليلة -في بحثّ مكثّف للغاية؛ من أجل تحليل نقطة خاصة- على السنوات الأخيرة فقط من حياة الإمام عليّ عليه السّلام. كما أودّ قبلاً أن أُضيف أنّني في بداية وصولي، كنت قد خطبت في الجلسة الأولى التي عُقدت بحضور السادة بمناسبة العيد الأكبر -عيد غدير خم- وكانت هي المرّة الأولى التي التقيت بها مع الكثير من الأصدقاء، وتحدثت فيها معهم، وقد أعربتُ حينها عن مدى رغبتي في رؤية أشخاص من أصدقائي وأحبّائي، يستعدّون ويتهيأون للجلسات الدينية التي تُعقد، ويشاركون في الأبحاث والمحاضرات. ولقدّ شجّعت دائماً أصدقائنا الشباب المتعلمين بوجه الخصوص على القيام بهذا الأمر؛ إذ من الكمال والقيمة والفضيلة أن يتمكّن المرء من التعبير عن المعتقدات والقناعات والأصول الدينية والتعاليم السماوية الخاصة به، ويبيّنها في محفلٍ معين. كما ينبغي الالتفات إلى أنّ وجود أفرادٍ يمكنهم إجراء مناقشات دينية مثمرة ومفيدة، هو العامل الذي يمكّن من تنظيم هذه الجلسات في هذه الفُرص والمناسبات الدينية. ولأنّنا لا نستطيع الانتظار حتى يكون لدينا عالمٌ ديني أو خطيبٌ مفوّه في كلّ مكان؛ للقيام بذلك، فكم سيكون من الأفضل بكثير أن يتوفّر بين إخواننا وأخواتنا المسلمين من هو قادرٌ على القيام بذلك في الأوقات المناسبة. وأنا آمل أنّه لا يزال لدينا أصدقاء يستطعون إجراء الأبحاث الدينية النافعة-ولو بصورةٍ مختصرة- في المحافل.

عموماً، نستطيع القول: لقد كان هناك فتراتٌ رائعة في السنوات التي عاشها عليّ عليه السّلام، وبشكلٍ عام في جميع مراحل حياته. وتُعدّ الفترة الممتدة ما بين ولادة عليّ من جهة ونهضت الرسول صلّى الله عليه وآله وظهور الإسلام من جهة ثانية ، حيث كان عليّ في سن العاشرة تقريباً عندما بُعث نبي الإسلام، واحدةً من هذه الفترات. حيث يعتبر معظم المؤرخين أنّه عليه السلام كان قد أبصر النور سنة الثلاثين من عام الفيل، وهذا يعني أنّ عليّاً كان يصغر النبي بثلاثين سنة. وقد كان أبو طالب -والدُ عليّ وعمُّ النبي- رجلاً شريفاً، وجليلاً جداً، وموقّراً، ومحترماً للغاية أيضاً. كما يذكر تاريخ الإسلام حقّاً شخصية أبي طالب بكثيرٍ من الجلالة والتعظيم، وأنا عندما أقول "تاريخ الإسلام" أقصد التاريخ الذي كتبه كبارُ مؤرخي الإسلام، وبالطبع فإنّ أغلبهم كان من أهل السنّة. على أية حال، لم يكن أبو طالب -الذي كان بعد رحيل عبد المطلب كبيرَ عشيرة بني هاشم، بل بنحوٍ ما كان كبير قريش- ثرياً جداً من الناحية المالية، ، كما كانت عائلته كبيرة، حيث كانت لديه الكثير من الأولاد. ثم أصاب القحطُ والمجاعةُ مكّة في بعض الأعوام. فتشاور النبي والعباس -وهو عمّ النبي والأخ الأصغر لأبي طالب- فيما بينهما، وقالا: "لو أنّنا نستطيع في هذا الوضع السيء وغير المرغوب به، أن نرفع هذا العبء الثقيل عن كاهل أبي طالب". تشاورا فيما بينهما حول ما يجب فعله حيال هذا الأمر وما يمكن القيام به لمساعدته. وبالنهاية توصلا إلى هذه الفكرة، وهي أن يكفلا إثنين من أبناء أبي طالب، بحيث يأخذ العباس واحداً منهم إلى بيته، ويأخذ النبي صلّى الله عليه وآله واحداً آخر. فذهبا بالفعل وتحدثا مع أبي طالب بالأمر. فوافق على الفكرة، لكنّه طلب منهما أن يتركا عقيلاً له؛ لأنّه كان يدير شؤونه في العمل، وأن يختارا أيّ أحدٍ يريدانه من أولاده الآخرين. فاختار النبي صلّى الله عليه وآله عليّاً عليه السّلام الذي كان ما يزال طفلاً صغيراً. ثمّ انتقل عليه السّلام من منزل والده إلى منزل محمد. وبهذا، نشأ عليّ في أحضان نبي الإسلام.

 يُعتبر هذا الانتقال من أبرز الوقائع وأهمها في سنوات الطفولة التي عاشها عليّ قبل البعثة، أي السنوات العشر الأولى من حياته. ووفقاً للمؤرخين، فقد كانت خديجة أوّلَ شخص آمن بالنبي صلّى الله عليه وآله في الأيام الأولى للبعثة النبوية من النساء، لكن عليّ كان أوّل من آمن به من الرجال. وهذا أيضاً بحسب أغلب المؤرخين. وإذا التفتنا إلى أنّ عليّاً لم يكن بالغاً حينها -ولهذا سَمّى بعضُ الأشخاص أفراداً آخرين من قبيل زيد بن حارثة وأبي بكر أو غيرهما كأوّل من أسلم مع النبي من الرجال، حيث كانوا يقصدون الرجال البالغين- أمكن القول إنّ هذه المسألة وهي كون عليّ هو أوّل من أسلم بعد خديجة، من الواضحات في تاريخ الإسلام تقريباً. ثمّ إنّ للإيمان بالنبي مكانةً خاصة في حياة عليّ؛ إذ إنّ إيمانه به في سنّ العاشرة كان نقطة انعطافٍ، ونقطة تحوّل عميقٍ في حياته؛ إذ بدأ عليّ الذي تمّ العشر سنوات لتوّه، بمبارزة الشرك والجهل والظلم والاستبداد من هذا السنّ، وواصل هذا الجهاد بألوانٍ مختلفة حتى لحظة استشهاده، في حين لم يكن هذا هو الحال في حياة أيّ شخصٍ آخر من المسلمين، ولم يكن هذا هو الحال في حياة الجميع. نعم، كان المسلمون عموماً مجاهدين، فهم قد اتبعوا طريق النبيّ بشكلٍ عام، لكن جهاد عليّ المميز كان له لونٌ خاص في تاريخ الإسلام. لقدّ تواصلت مدّة نضالات عليّ في تاريخ الإسلام بشكلٍ دائم، يعني لم يخلُ يومٌ واحدٌ من الجهاد عنده منذ السنة الأولى للبعثة حتى لحظة استشهاده.

والآن، دعونا نتجاوز هذا الأمر، وننتقل إلى المرحلة الثانية.

استمرت المرحلة الثانية، من حين بعثة النبيّ إلى لحظة وفاته صلّى الله عليه وآله. وأنا سأعتبر هذه الفترة مرحلة واحدة، على الرغم من أنّه ينبغي عدُّ كلّ خطوة وكلّ جانب منها مرحلةً خاصّة بحيالها؛ إذ تتضمن كلّ خطوة شرحاً وتفصيلاً خاصاً.

أمّا المرحلة الثالثة، فهي تبدأ من وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى حين وصول عثمان إلى الحكم. لقد التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة، وظلّ أبو بكر خليفة وحاكماً للمسلمين لمدّة سنتين وأربعة أشهر تقريباً، وتولّى عُمَر أيضاً الحكومة وكان والياً وخليفة لحدود عشر سنوات وبضعة أشهر. في هذه المدة تقريباً أي الثلاثة عشر سنة ما بين رحلة النبيّ ووصول عثمان إلى الحكم، أمضى عليّ عليه السّلام فترة ًخاصّة من حياته. وفي رأيي تُعدّ هذه الفترة من أكثر فترات حياة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قابليةً للقراءة والتحليل؛ إذ فيها الكثير من النُكات التربوية، الكثير جداً، بل الكثير جداً جداً.

في هذه المرحلة، تُعدّ أبرز سمة في حياة عليّ أنّه على الرغم من شعوره بكونه يملك لياقات فريدة لإدارة شؤون المسلمين، إلا أنّه شعر في الوقت عينه أنّ السلطات المركزية تنحرف عن مسار نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله في بعض الأحيان -لا أقلّ دون أن تدرك ذلك-. لكنّه عليه السّلام أظهر من خلال الصفاء والإخلاص الكامل أولاً، والصراحة الواضحة ثانياً، وإبداء التعاون الجديّ والتعامل الصادق مع مصالح المسلمين ثالثاً، تضحيةً منقطعة النظير.

وأمّا المرحلة الرابعة من حياته عليه السّلام، فهي الفترة الواقعة في عهد عثمان. وربما يمكنني القول إنّه بصرف النظر عن بعض الاضطرابات الخاصة التي حصلت في عهد الإمام عليه السّلام وفترة توليه الخلافة، حيث وقعت بالفعل اضطرابات عميقة في عهده، غير أنّ المظالم التي عانى منها عليّ عليه السّلام في مرحلة عثمان خاصةً تُعدّ مهمة للغاية؛ لأنّ عثمان ومنذ اللحظة التي وصل فيها إلى السلطة، عَمَد إلى تمييز بني أميّة وإعلاء شأنهم، وكان هذا التمييز هو السبب الأساسي لقتله في المدينة، نسب أعداءُ عليّ -طوال هذه الفترة -كلَّ شيء إليه، وألصقوه به زوراً، وقدّموه باسمه.

على أيّ حال، بما أنّني أريد أن أتجاوز هذه المرحلة بسرعة أيضاً، فسأنتقل فقط إلى محطةٍ صغيرة منها. يُعتبر ابن الأثير من مؤرخي أهل السنّة وهو من مؤرخي التاريخ الإسلامي المعروفين، ويُعدّ إلى حدٍ ما محققاً فيه. يُوسم كتابه بـ "الكامل في التاريخ"، وهو كتابٌ مشهور وموجز إلى حدٍ ما، لكنّه يقع في ستة مجلدات كبيرة، ستة مجلدات أو اثنا عشر كتاباً.

وهو يقول في كتابه هذا:"في الأيام التي كان فيها خصوم عثمان يتوجهون إلى المدينة من جميع الأنحاء، وكان الجميع يقول إنّ عثمان في وضعٍ يمارس فيه عمّاله، وولاته، وحكّامه، وموظفوه، القمعَ والظلم في كلّ مكان، وسواء كان عثمان على علم بظلم هؤلاء أو لم يكن، فهو غير لائق بهذا المنصب؛ لأنّه إن كان يعلم، فليس للظالم حقّ في أن يجلس على كرسي الحكم، ويحكم الأمة الإسلامية، لا يحقّ له أن يعتلي كرسي خلافة النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله. وإن كان لا يعلم، فإنّ رجلاً لا يتمتع إلى هذا الحدّ بالأهلية، بحيث تُنتهك حقوق الأمة الإسلامية على مرأىً ومسمعٍ منه، لا يستحقّ هذا المقام؛ بسبب عدم أهليته وعدم كفاءته". لقد كان كلامهم منطقياً، ولهذا السبب، تحركت بالفعل الجماعات المهاجمة، والجماعات التي كانت تشتكي من الأوضاع، والجماعات الثائرة، خاصةً من الأنحاء الثلاث المعروفة: مصر، والبصرة، والكوفة، وقدموا جميعاً إلى المدينة، وقالوا:"الآن وبعد أن لم نستطع من خلال إرسال الرسائل والكُتب، إيقاظَ هذا الرجل المسن، سنتحرك بمجموعات، ونأتي إلى المدينة؛ كي نريه حراجة الوضع الذي وصلنا إليه".

نعم، لقد ترك عددٌ كبير من الناس تجاراتهم وأعمالهم ومنازلهم وبيوتهم في البصرة، وقدموا إلى المدينة. وبهذا، لا بدّ أن يتغير شيء، على الأقل، يجب أن يوقظه مجيؤنا من السبات الذي هو فيه، والذي يمكن أن يتحقق –أي هذا السبات- فقط بفعل تملّقات وتزلّفات مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وابتزازات ومداهنات بني أمية، بحيث إنّها تؤثر بسهولة برجل عجوز مثل عثمان. على هذا الأساس، جاء هؤلاء إلى المدينة، على أنّهم مجرد قافلة تريد أن تؤدي العمرة وزيارة بيت الله. قدموا بهذه الصورة؛ حتى لا يمنعهم عمّال عثمان من التحرّك. ثمّ أقاموا في ثلاث نقاط عند أطراف المدينة. وبعد ذلك، بعثوا بكتابٍ إلى عثمان، وقالوا فيه:"نعم، لقد أتينا. لقد جئنا لهذا الغرض. ما هو تكليفنا؟ هل نأتي إلى المدينة أم تُحلّ مطالبنا من هنا؟" تقريباً، لقد عاد المهاجمون -لا أقلّ- ثلاث مرات بفضلِ جهود عليّ من المدينة؛ عادوا بفضل نصيحته ووعظه، والتزام عثمان وتعهده، وقوله:"إنّني استيقظت بالفعل، إنّني لن أقوم بالتجاوز، لن أسمح لعمالي بأنّ يتعدّوا على حقوق الناس، لن أسمح لأحد انتهاك حقوق المسلمين في الأراضي والأصقاع الإسلامية البعيدة". لقد جاء عثمان ثلاث مرات وتعهد بذلك أمام الناس صراحةً. وطلب كذلك المساعدة من عليّ بما يملك من حيثيةٍ خاصة؛ إذ كان مورد احترام وقبول الجميع. وقد ذهب عليّ بالفعل ونصح الناس. ورجع المهاجمون. لكن، عندما قُتل عثمان، أشاعت الآلة الإعلامية لمعاوية، أنّ عليّاً هو من تسبّب في مقتله.

 وهنا، يجب الالتفات إلى أنّ واحدة من اللحظات الحساسة في هذه الزاوية من التاريخ الإسلامي، هي عندما تواصل فيها عثمان مع عليّ في المرّة الأخيرة والتمس منه الذهاب إليهم، وقال:"اذهب، وانصحهم بالعودة؛ حتى أصلح الأمور بنفسي"، أجابه عليّ عليه السّلام:"لقدّ تعهدتَ للناس كثيراً، لكنّك ما زلتَ تخالفهم العهد، في هذه المرّة، إذا ذهبتُ إليهم، وقلتُ لهم اذهبوا وعودوا، ثمّ لم تستطع الوقوف عند وعدك مجدداً، فلن أدوس دارك مرّة أخرى".

وافق عثمان، وقال:"أنا أعدك من هنا، أنّني بمجرد ذهاب هؤلاء وعودتهم إلى ديارهم سأُخرج مروان وسعيد بن العاص وأمثالهما من منزلي، ولن يروا بعد الآن هؤلاء الأفراد حولي وفي جنبي، وسأعزل العمّال الظلمة أينما كانوا، وسأهتم شخصياً بمطالب الناس وشكاواهم".

هكذا قال عثمان، وعلى هذا الأساس، عاد الإمام عليه السّلام ووعظ المهاجمين وردّهم. لكن في تلك الأيام لم يكن يوجد وسائل نقل للسفر كما هي اليوم. بل كانوا يتنقّلون بالصحراء والبلاد من منزلٍ إلى منزل. وبعد أن قطعوا منزلين، رأوا أنّ واحداً أو اثنين من غلمان عثمان وخواصه يركبان خيول الحكومة، ويتوجهان ناحية مدنهم وبلادهم. فمثلاً، رأى المصريون أنّ هذين الشخصين كانا متجهين إلى مصر؛ لذلك أوقفوهما، وقالوا لهما:"إلى أين تذهبان؟"، قالا:"نذهب إلى مصر"، فسألوهما:"ماذا تريدان من هناك؟"، أجابا:"لدينا عملٌ هناك، أعمال شخصية". ثم سألوهما:"هل تحملان رسالة أو أي شيء معكما؟"، قالا:"لا أبداً، نحن لا نحمل شيئاً". ثم تمّ استجوابهما إلى حدٍ ما، حتى تلعثما، وتضاربت كلماتهما، فارتابوا منهما، وقالوا:"يجب أن نفتشكما". وفعلاً، فتشوهما، وعثروا على كتابين كانا مكتوبين في دار عثمان وممهورين بمهره، وموجهين إلى اثنين من كبار المسؤولين في مصر. ووجدوا أنّه قد تمّ في الرسالتين كتابة وتقديم أسماء ومواصفات شخصيات بارزة في النهضة إلى حاكم مصر وقائد الجيش هناك، وأنّه قد ذُكر فيها، أن يضرب فلاناً كثيراً بالسوط بمجرد وصوله ، وأن يحلق رأس فلان ويدور به في المدينة، وأن يحبس فلاناً في بيته، وهكذا.

أخذوا الكتابين وأحضروهما إلى المدينة، ثمّ أخذوهما إلى عليّ، وقالوا:"تفضل يا سيدي، هذا هو العهد الذي عقده عثمان". فأرسل الإمام عليه السّلام شخصاً وراء عثمان، ثم جاء أحد أقاربه، فقال له الإمام:"انظر إلى هذين الكتابين، من الذي كتبهما؟". أجاب:"والله لا أظن أنّه عثمان، وإنّه لمن البعيد أن يكون هو مّن كتبها". قال الإمام عليه السّلام:"لا أعلم، لكنّ مهر عثمان موجود في الأسفل، خُذ الكتابين، وتحقق منهما". وبالفعل، أخذ الرجل الكتابين وتوجّه إلى عثمان. وعلى ما يبدو، لهذا السبب جاء عثمان إلى دار عليّ، وقال له:"لقد جئت أنا إلى دارك؛ لأنّك تعهدت بأن لا تأتي إلى داري". قال له الإمام عليه السّلام:"ما هذان الكتابان؟". أجاب عثمان:"والله، لا أعلم عنهما شيئاً". قال الإمام:"أنا لا أقصد تهديدك، ولكن اسمع ماذا يقول الناس، يقولون: كيف يُعقل أن تُسلّم قيادة الأمة الإسلامية لشخص تُكتب مثل هذه الأوامر الجائرة والظالمة في بيته وبمهره، وتُسلّم إلى عمّال الحكومة ورُسُلُها الذي يمتطون خيول الدولة، ويسافرون لتسليمها إلى ولاة بلادهم في الأماكن البعيدة. والآن، لو لم يكن هذين الكتابين قد وقعا بأيدي هؤلاء الأفراد، بل وصلا فعلاً إلى عمّالك؟ ماذا كانوا سيفعلون بأرواح الناس وحقوقهم؟  كفى! لن أكون وسيطاً بينك وبين الناس بعد اليوم. منذ الآن، ستواجه أنت بنفسك الناسَ، وهم أيضاً.

ولكن في الوقت عينه، عندما سمع عليّ عليه السّلام، أنّه قد تمّ محاصرة دار عثمان، وأنّهم يمنعون وصول الماء والطعام إليه، وخاصة الماء الذي يجب أن يصل من الخارج – وهذه من الوقائع المهمة والمثيرة في التاريخ الإسلامي، التي تحوي تفاصيل كثيرة جداً- عندما سمع عليّ ذلك، ورأى أنّهم لن يسمحوا بإيصال الماء إلى عثمان، وأنّ المهاجمين يمنعون ذلك، انزعج، وأرسل وراء اثنين أو ثلاثة من كبار الصحابة وأمرهم بالذهاب إليه واستكشاف الأمر، وإذا أحسّوا بأنّ بيته خالٍ من الماء، فليحضروه إليه بأنفسهم. حتى أنّه أمر ولده الموقّر الحسن بن عليّ بحراسة دار عثمان وحمايته، وأفهمه تقريباً بأنّ مسؤولية ذلك تقع عليه بالدرجة الأولى. 

لاحظوا إذن، لقد واجه عليّ في هذه الفترة مسألةً عظيمة تتعلق بالعدالة الاجتماعية في الإسلام؛ إذ من الواضح أنّ حقوق المسلمين كانت تُنتهك علناً حينها، بيد أنّ عليّاً هو أعظم حارسٍ للحقّ ومدافعٍ عن العدالة ولا يستطيع أن يجلس مكتوف الأيدي. ومن ناحية أخرى، فإنّ الوضع من شأنه أن يؤدي إلى نتائج ضارّة، فإنّ أي نوعٍ من التحركات قد يتسبب بنتائج تضرّ بوحدة الأمة الإسلامية وسلامتها. وهذه المشكلة لا يمكن أن يحلّها قائد حكيم وعظيم كعليّ عليه السّلام خلال هذه السنوات التي مرّت؛ لأنّ عليّاً لم يكن لديه في هذه السنوات سوى تجرّع الآلام والمعاناة، وأحياناً تقديم النصيحة الجليّة لعثمان، حيث نصحه كثيراً، وكتب له بلسان النُصح العديد من الرسائل الصريحة. لقد أرسل له هذه الرسائل، لكن دون جدوى.

كان عثمان رجلاً مسنّاً، كان عُمرُه عندما قُتل -حسب ما ذكرت المصادر- اثنين وثمانون عاماً على الأقل، حتى أنّ البعض ذكر أنّه كان في التسعين من عمره. لقد كان رجلاً مسنّاً، وعجوزاً، وعاجزاً وضعيف الشخصية-طبعاً، ليس كلّ كبيرٍ هكذا، لقد كان عثمان في شبابه هكذا أيضاً، كان ضعيفَ الشخصية- كان بالأصل رجلاً ليناً وعاطفياً للغاية، ولم يكن يملك أهلية إدارة شؤون الأمة. في حين أنّ منطق عليّ كان أنّه لا يمكن إدارة المجتمع بالعاطفة فقط. وأنا سأقرأ لكم لاحقاً خطبة قصيرة للإمام عليه السّلام، رسالة قصيرة له.

على أيّ حال، هذه كانت الفترة الرابعة من حياة عليّ.

المرحلة الخامسة من حياة عليّ، هي أربع سنوات وبضعة شهور، أو ما يقرب من خمس سنوات من حكمه، وهي فترة مليئة بالأحداث أيضاً، كانت فترة عجيبة ومريرة بالنسبة لعليّ عليه السّلام. لقد عانى عليّ كثيراً بعد وفاة النبي صلّى الله وآله حتى لحظة استشهاده، حتى أنّ العديد من المؤرخين يذكرون أنّه عندما سقط السيف على جبهته، قال:"فُزتُ وَرَبِّ الكَعبَةِ"، لقد أقسم بربّ الكعبة أنّه استراح.

 يجب على الإنسان أن يجسّد عليّاً بكلّ ما لديه من الكمال، والفضيلة، والعاطفة، والحقّ، والعدالة، والعلم، والشجاعة، وقوة الإرادة، الصراحة، وكلّ هذه الصفات. ويجب أن يرى حجم الآلام والمعاناة التي تجرعها، بحيث لم يتكلم طيلة هذه السنوات في سبيل مراعاة مصلحة الأمة الإسلامية وحفظ وحدتها. إنّه أمرٌ في غاية الصعوبة، لكن عليّ فعل ذلك. في هذه السنوات الأخيرة من حياته، يواجه عليّ تياراً لم يكن موجوداً في السنوات السابقة تقريباً، وهو أنّه بعد شهرٍ واحد من اختيار المسلمين في المدينة عليّاً خليفة وحاكماً للأمة، ومبايعته لذلك، بدء جواسيس معاوية العمل بكلّ قوتهم. لقد واجه عليّ تقريباً جهازاً منظماً، ومنافقاً، ومخادعاً، وغيرَ مبالٍ بأيّ قيمة أو عهد، ولا يعتقد بأيّ شيء سوى الحفاظ على نفسه. عموماً، تبدأ هذه الحادثة في الواقع، منذ السنوات الأولى من هذه المرحلة الخامسة في تاريخ حياة عليّ؛ حيث إنّ عليّاً قد واجه أبو بكر وعمر من قبل، أو عثمان الذي كان يريد لا أقل أن يراعي شخصياً الموازيين الإسلامية في عيون الناس، ولا مانع لديه من ذلك. أمّا معاوية، كان رجلاً قد أعلن العداء للإسلام بشكلٍ علني وشهر السيف في وجهه، ونحن نرى في الرسائل الثابتة، حيث يوجد في نهج البلاغة أربع عشرة رسالة تقريباً من عليّ عليه السّلام إلى معاوية، نرى في هذه الرسائل بشكلٍ جلّي كيف بدأ معاوية عمله بجسارة، ووقاحة، وفظاظة، وجرأة كاملة، ودون حياء، وإن استلزم ذلك خرق القوانين وتعدي الحدود.

تختصّ هذه القضية – أي قضية معاوية- بالسنوات الأخيرة من حياة عليّ عليه السّلام، أي المرحلة الخامسة، بحيث عكست خلالها، حالةً من الألم والمرارة في حياته عليه السّلام. ويمكننا تلمّس هذه المعاناة في كثيرٍ من خُطب الإمام، حيث إنّ أكثر هذه الخُطب ترتبط بهذه السنوات المعدودة.

برغم كلّ الظروف، وبرغم كلّ هذه المعاناة والمشاقّ، ترك مولى المتقين أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في هذه السنوات المعدودة، آثاراً خالدة ومذكرات دائمة عن نفسه، حيث تعتمد أكثر الكُتب التي تحدثت حول عليّ -فيما لو صرفنا النظر عن الكُتب التي تناولت حديث الغدير، ومسألة الخلافة، والآثار المكتوبة في سيرته- بشكلٍ أكبر على هذه السنوات. أنا سأقرأ لكم رسالة قصيرة له عليه السّلام كمثالٍ بسيط عن منطقه في إدراة الأمة والحكومة؛ كي تلاحظوا منطق أمير المؤمنين في هذا المجال:

 وَمِنْ كِتَابٍ لهُ عَليهِ السّلامُ إلى بَعضِ عُمّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ- وَاَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ- وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ- فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ- وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ- وَارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ- وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لاَ تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ- وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ- وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ- وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْإِشَارَةِ وَ التَّحِيَّةِ- حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ- وَ لاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ. وَالسّلامُ.[9]

هذا مرسومٌ كتبه عليّ عليه السّلام إلى أحد ولاته. وهو يقول فيه:"اعلم أيها الوالي أنّك واحدٌ من الأشخاص الذين أريد مساعدتهم لإجراء قوانين الإسلام وتنفيذها. أريد من خلالك أن أمرّغ أنوف المذنبين والمعتدين بالتراب. أنت الشخص الذي بمعونته سأحفظ حدود الحقّ وحدود ديار الإسلام. لذلك، عليك أيها الوالي أن تستعين بالله في هذه المسؤولية المهمة التي أٌلقيت على كاهلك، وحملتها أنت على كتفك. واعلم أيضاً، أنّه يجب في حكم الأمة وإدارة شؤونها أنّ تكون حازماً وليّناً في مكانك، فلا يمكنك أن تسوس الناس باللين فقط، ولا بالشدة والغلظة والصرامة لوحدها. بل ينبغي في كلّ موضوع ترى من الأجدى أن تكون فيه ليّناً، أن تكون كذلك، وفي كلّ موقع ترى فيه أنّه لا ينفع إلا الشدة والصرامة، فأعمل قدرتك وكن صارماً. ولكن مع هذا، احرص أن تُفرد جناحك للرعية ولأفراد الأمة وعموم الناس في البلاد. يجب أن تتواضع أمام الشعب وأن تخفض جناحك لهم، أن تبسط وجهك لهم، عليك أن تلقى الناس بصدر رحب ووجه بشوش. احرص أيها الوالي على معاملة الناس دائماً بلطفٍ ولين؛ حتى يكونوا معك دائماً، ويَقدِمُوا إليك دوماً. حاول أن تساوي بين الناس، ساوِ بينهم حتى في النظرات، وبالشكل الذي تنظر إليهم فيه. وزّع لحاظاتك ونظراتك إلى الجميع بالتساوي حين تقابلهم، كن ّكذلك حتى بطريقة إلقاء التحية والسلام، وبطريقة الترحيب، بل حتى بطريقة الإشارة؛ كي لا يطمع بك العظماء وذو الجاه والمقام الاجتماعي؛ فيحرفوك عن الحقّ اعتماداً على مقاماتهم الاجتماعية الخاصة تلك، وكذلك افعل ذلك؛ كي لا ييأس الضعفاء من عدلك. والسّلام".

إنّها وصية إليهة. هناك الكثير من هذه الوصايا في كُتب عليّ إلى وُلاته ووكلائه. لا يوجد كتابٌ واحد نفتحه ولا نرى فيه مثل هذه التوصيات. ينبغي أن يُعلم أنّ عليّاً لم يكن فقط يوجّه الكلام للآخرين، بل كان يقوم بذلك بنفسه قبل الجميع. فعليّ هو الحاكم الذي يطبّق ما يقوله على نفسه أولاً وقبل أيّ أحد. لباس عليّ، حياة عليّ، سلوكيات عليّ، كلّ شيء كان في غاية البساطة. لقد قرأت للإخوة في المنزل خلال كلمة ألقيتها في جلسة أخرى من جلسات ليالي الجمعة كلاماً لعليّ، حيث يقول في كلمة لأخ سهل بن زياد[10]:"إنّي سمعتُ أنّك تركتَ دارك وحياتك وتخليت عن الدنيا، وذهبتَ وراء عملك، ما هذا الفعل الذي تصنعه؟ هل تظن أنّ الله قد منع عنك النِعَم التي أحلّها لك، أتظن أنّ الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تستفيد منها. اذهب إلى دارك وحياتك، واستمتع بما أنعمَ الله عليك، لا معنى لترك الدنيا في الإسلام". فقال له أخُ سهل:"يا سيدي أنت نفسك مثالٌ لترك الدنيا. إنّ هذا الطعام الذي تأكله لا يقرب أفواهنا، ولا نستطيع أكله، وهذا اللباس التي تلبسها خشنة للغاية، بحيث له أردنا أن نرتديها؛ لنتظاهر بأنّنا محتاجين، لما استطعنا أيضاً لبسها". فأجابه الإمام عليه السّلام:"ويحك، لقد أخطأت. أنا لست كأنت، إننّي أمير المؤمنين، "إنّ الله فرضَ على الأئمةِ العدلَ". لقد فرض الله على الحكّام العادليين أن تكون حياتهم مثلَ حياة الناس الأشد عجزاً وعوزاً؛ وذلك كي لا يضلّ العاجزون والبؤساء من الضغوط الاقتصادية التي يرونها ويتجهوا نحو طُرق الكفر والانحراف. إنّ حسابي ليس كحسابك". إذن، لقد كان عليّ يعمل بهذه القوانين أثناء حُكمه قبل أي أحدٍ آخر.

 ثمّ إنّه قد وقعت حوادث متعددة في السنوات الأخيرة من حياة عليّ عليه السّلام، وإحدى هذه الحوادث هي معركة صفين. هنا، ينبغي أن أقول: إنّ حركة الخوارج –بحسب ما تساعد عليه ذاكرتي- مرتبطة بالفترة التي سبقت حكم عليّ. يعني أنّ فكر الخوارج كان موجوداً أصلاً قبل أن يستلم عليّ زمام الأمور، أي أنّ فكرة الخوارج وعقيدتهم والتي تُعدّ عقيدة اجتماعية خاصة، وفكرة أن يكون المرء خارجياً،كانت موجودة أصلاً، وكان لها جذور عميقة أيضاً. لكن، اسمحوا لي أيها السادة ألا أخوض كثيراً بهذه المسألة؛ لأنّنا لا نملك الوقت الكافي الآن؛ بسبب مزاحمة وقت الدعاء. على أيّة حال، لا ينبغي تصوّر أنّ حركة الخوارج كانت قد بدأت مع معركة صفين. كان الخوارج مجموعة تملك عقيدة خاصة ومعينة، إذ كانت تتواجد لها -قبل وصول عليّ إلى السلطة حتى- حركاتٌ وانتفاضات صغيرة في البقاع الإسلامية وجوارها، بل إنّ مجيء الناس إلى المدينة ومقتل عثمان، كانت لها أيضاً جذور في الفكر الخارجي إلى حدٍ ما. لكن ماذا جرى في معركة صفين؟ بعد أن كاد جيش عليّ يهزم جيش الشام ومعاوية، وينتصر عليه، أمر معاوية بمشورةٍ من عمرو بن العاص جيشَه أن يرفعوا المصاحف على الرماح، ويقولوا:"نحن مسلمون، وأنتم أيضاً مسلمون، كيف للأخ أن يقتل أخاه؟". وعلى الرغم من أنّ عليّاً أكدّ منذ البداية على أنّها مكيدة، وأنّه لا ينبغي الانخداع بها! وقال لهم لا تقعوا في هذه الخديعة! إنّها خدعة، إنّها مكر، إنّها حيلة، هذا نفاق! لكن لم يسمعوا منه، وأصرّ أولئك الذين يشغلون مواقع مهمة في جيش عليّ على أنّه يجب علينا حقّاً أن نعقد الصلح معهم. وعندما رأى عليّ أن جيشه لم يعد جاهزاً للحرب، وأنّ الطرف المقابل سيتمكن أخيراً من كسب المعركة بهذه الطريقة، قال:"حسناً، الآن ماذا تريدون أن تفعلوا؟". قالوا:"سنقوم بتعيين حَكَمَين إثنين". ثمّ عندما قَبِلَ عليّ بتعيين حَكَمَين يقومان هما بدورهما بتعيين الشخص الذي يجب أن يُدير الحكومة وتكون زمام الأمور بيده، اعترضت مجموعة منهم والتي كان بعضٌ منها من أولئك الذين عارضوا استمرار الحرب، وقالوا:"لا حُكم إلا لله، ما معنى أن يأتي شخصان ليحكما؟ مع من سيكون الحقّ؟ ماذا يعني هذا؟ ليس الحقّ إلا هذا الذي قاله الله تعالى". لقد بَدَت هذه الكلمات مُستحسنة، الحُكم هو حكم الله، لقد بدت سائغة جداً. لكن الإمام أجابهم:"إنّها مكيدة، لا تقعوا في خدعة هؤلاء". غير أنّهم كانوا جهّالاً. فمقولة "إنّ الحُكم هو حكم الله" شيءٌ، ومقولة "إنّ الحكومة هي حكومة الله"[11] شيءٌ آخر. نحن الآن لا شأن لنا بمسألة الحُكم، نحن نريد مسألة الحكومة. هؤلاء الذين يقولون الحُكم هو حُكم الله، يريدون أن يأتي الله ويترأس الحكومة بين الناس؟ نعوذ بالله! نحن لا نعتقد بمثل هذا الإله. المسألة هي مسألة الحكومة، لا الحُكم. نحن نريد أن نرى من الذي يجب أن يتسلّم حكومة الأمة. لذلك، هذه الكلمة، بحسب الظاهر هي كلمة جميلة وحقّة، ولكن بحسب الباطن هي كلمة رديئة وباطلة. لكنهم لم يستمعوا. وانسحب بعض الناس من جيش عليّ هناك. وقليلاً قليلاً ازاد عدد هؤلاء، ليظهروا تدريجياً أنّهم يشكلون خطراً على حكومة الإسلام. وقد أرسل لهم عليّ رسائل مرات عديدة ونصحهم بشكل واضح. هذه المرحلة بالتحديد وهذه النصائح التي قدمها عليّ للخوارج رائعة جداً وجديرة بالمطالعة. لم تُفلح نصائح عليّ معهم، وهم لم يتنازلوا أو يتراجعوا، حتى وصل الأمر إلى أن يأمر عليّ مجموعةً لقتالهم، وخاض معركة معهم في النهروان. وقُتل معاً في هذه المعركة حدود أربعة آلاف شخص من الخوارج. بعد هذه المعركة لم يعد يملك الخوارج جيشاً مسلحاً أو جماعة مسلحة، ولم يعد يُنظر إليهم على أنّهم تهديد علني لحكومة عليّ. لكن على الرغم من ذلك، كان بعضهم عنيداً للغاية، وكان حاقداً ومغتاظاً وغاضباً لدرجة أنّهم قرروا أن يضعوا الفكر الخوارجي موضع التنفيذ بأيّ طريقة ممكنة. لهذا تجمّع ثلاثة منهم مجدداً في المسجد الحرام في مكة. جلسوا معاً في زاوية منعزلة من زوايا المسجد حيث لا يسمعهم أحد، وتحدثوا بغاية الهدوء. قال واحد منهم:"أترون إلى أي مدى وصل الحال بالأمة الإسلامية؟ أترون كيف أصبح حال الأمة الإسلامية التي كانت موحدة؟ أترون كيف صارت اليوم مفككة بفعل هذه الحروب الداخلية؟" قالوا:"نعم بالتأكيد، نرى ذلك، ولكن ما الذي يمكن فعله؟"، وقال آخر:"حسناً، إنّ جميع هذه المصائب والحرورب المشتعلة هي بسبب هؤلاء الحُكّام والزعماء". ثم قال أحدهم:"إذن، لم يعد يوجد شيء آخر للقيام به، الحلّ سهل للغاية، علينا أن نقتل هؤلاء. عندها تنتهي القضية". قالوا:"إنّها فكرة جيدة. لكن من سيقوم بذلك؟"، ثم اتفقوا على أن يقوموا ثلاثتهم بذلك. وأضافوا أنّه:" يوجد في بلاد الإسلام حالياً ثلاثة أشخاص من الصفّ الأول، وهم عبارة عن: عليّ، ومعاوية، وعمرو بن العاص. وإذا ما استطعنا أن نتخلص من هؤلاء الثلاثة، سينجوا الناس من أتون الحروب الداخلية، ويتحقق لهم الخلاص". قالوا:"إنّها فكرة سديدة جداً. إذن، فلنقسّم العمل". وبالفعل، فقد تولّى ابن ملجم قتل عليّ، وكذلك تكفّل الآخران بمسألة قتل معاوية وعمرو بن العاص. ثم قالوا:"تعالوا، لنُقسم على أن نفعل هذا الأمر". فأقسموا فيما بينهم على أن يذهب كلّ واحد منهم وراء واحدٍ من أولئك الحكّام ويغتاله. وقرروا أن يفعلوا ذلك في وقت واحد. وبعد مشوارات اتفقوا على ينفذوا اتفاقهم في يوم التاسع عشر من شهر رمضان. ثمّ تحركوا جميعاً. قصد ابن ملجم ناحية الكوفة. وتحرّك آخر إلى دمشق والشام، والثالث إلى مصر. ذكرتُ سابقاً أن الأخيرين لم يُفلحا بمهمتهما. وسأوضح ذلك فيما بعد، أمّا ابن ملجم فقد أصبح أكثر تصميماً بعد أن وصل إلى الكوفة؛ إذ على الرغم من أنّ القرار كان أن لا يخبروا أحداً بما عَزموا عليه، إلاّ أنّ ابن ملجم كان ماراً بمكانٍ ما في الكوفة، التقى بعض الخوارج، ولاحظ أنّهم يفكرون بنفس الأمر الذي جاء من أجله. لكنّه لم يُفصح عن ذلك؛ لأنّه عاهد شركائه بأن لا يفشي هذا السرّ لأحد، إلا أنّه أحس أنّه يمكنه أن يحظى بمساعدتهم في الكوفة؛ لتنفيذ الخطة. ثمّ التقى في مرّة أخرى وهو يتمشى في أزقّة الكوفة بفتاة شابة وحسناء، وكانت هذه الفتاة الجميلة قد فقدت والدها واثنين من أقاربها في معركة الخوارج، يعني كان قد قُتل ثلاثة أفراد من عائلتها؛ فكانت تحمل نتيجة ذلك حقداً كبيراً على عليّ في قلبها. لقد فُتن ابن ملجم بهذه الفتاة الشابة بمجرد أن رآها، وهام على وجهه ضائعاً من الشوق إليها. وبدأ بإظهار حبّه وعشقه لها بشتّى الوسائل، ثم عرض الزواج عليها. أبدت هذه الفتاة موافقتها على عرض ابن ملجم، لكنّها قالت:"لا مشكلة عندي أبداً بالزواج منك، لكن يجب أن تكون على علمٍ بأنّ مهري وصداقي غالٍ جداً جداً، هل أنت مستعد لأن تدفع هذا الثمن؟"، قال ابن ملجم:"وما هو هذا الشيء؟"، أجابت:"عدٌة ألاف من الدراهم، وغلامُ واحد، وشيء آخر أيضاً". قال:"ما هو هذا الشيء؟"، قالت:"دمُ عليّ". وما إن نطقت الفتاة بهذه الجملة حتى كشف ابن ملجم سرّه لها، وقال:"إذن، اسمحي لي أن أبشّرك بأنّي ما جئت إلى الكوفة إلا لذلك. ثمّ حمّست الفتاةُ ابن ملجم كثيراً لفعل ذلك، وقالت:"أنا سأرتب لك الأمور، وسأحضر لك رجلين يعاونانك؛ لأنّ عليّاً رجلٌ غير عادي من ناحية القتال، وهو دائماً ما يراقب جميع جوانبه؛ فلا يتمكن الكثير من اغتياله". وفعلاً، عيّنت شخصين وتحدثت معهما. قال هذان الشخصان:"إنّه عمل جيد للغاية، لكنها مهمة صعبة، ولا يمكننا توليها". قالت الفتاة:"لدي فكر تبدو جيدة، وهي أن نغتال عليّاً في المسجد، فنحن إذا فاجئنا عليّاً في المسجد في عتمة السحر قُبيل الفجر، فالخطة ستكون ممكنة".

على جميع الأحوال، قرّر الرجال الثلاثة نصب كمينٍ مسلّح لعليّ في مدخل مسجد الكوفة، عند الباب الذي كان يأتي منه عليّ عادةً. جاء وقت السحر. خرج عليّ من داره، وهنا حتى مؤرخي أهل السنّة، ينقلون قضايا كثيرة، ويقولون أنّ عليّاً كان يذكر في تلك الليلة بل في ذاك الشهر الموتَ كثيراً وبشكلٍ متكرر. كما ينقلون أنّه عندما أراد عليّاً الخروج من دار أمّ كُلثوم أو زينب، اجتمعت عدّة طيور أمامه، وهذه المسألة كانت تُعتبر في ثقافة العرب نذير شؤم وفال شرّ حينها، غير أنّ عليّاً أبعدها جانباً، وذهب إلى المسجد. كان من عادة عليّ أن يأتي المسجد وحيداً. عندما دخل من باب المسجد هجم هؤلاء الثلاثة بسيوفهم على وجوده المقدّس. اصطدم سيف أحدهم بباب المدخل وسقط جانباً، لكن ابن ملجم الذي كان مشاركاً بالكمين -كما ذكرنا- واستطاع اصابة الهدف بسيفه، وضَرَبَ عليّاً على رأسه المبارك. قال عليّ هنا كلمةً أو كلمتين، ثم قال:"أمسكوا الضارب". ذهبوا وأمسكوا به. أمّا الرجلان الآخران اللذان شاركا في هذه الحادثة والواقعة، فقد قُتل أحدهما على يدي واحدٍ من أتباع عليّ في نفس الحادثة، ولاذ الآخر بالفرار، ثمّ قُتل لاحقاً.

حياة عليّ من لحظة الضربة إلى لحظة الرحيل والشهادة هي أيضاً حياة شريفة جداً. كم هو جيد لنا، نحن الذين نفتخر بكوننا من شيعة عليّ ومن أبنائه وأتباعهم، أن نتعلم من جوانب حياته هذه. اسمحوا لي أن أقرأ شيئاً من آثاره القيّمة التي قالها عليه السّلام في هذين اليومين عن نفسه. بعد أن ضُرب عليّ على رأسه وحملوه إلى المنزل، وأُحضر الطبيب، وعُلم أن السيف كان مسموماً، وأن الجرح قد سمّم وصار غير قابل للشفاء. أصبح أحباء عليّ يأتون لزيارته على شكلٍ جماعات. لقد كانوا مستائين جداً منذ تلك اللحظة، كانوا مغتمين وقليقين، كانوا محزونين ومفجوعين للغاية. لقد ضرب الكوفةَ زلزالٌ. لقد كان عليّ في هذين يومين يوصي الناس بشكلٍ متكرر. يوجد خُطبتان أو لعلّه ثلاث أو أربع خطب قصيرة وجهها لأبنائه وعائلته، وهي مجموعة في نهج البلاغة -أقول اثنتان أو ثلاث أو أربع؛ لأنّ هناك أربع خُطب على ما أذكر، لكن يُحتمل جداً أنّها كانت خُطبتان، ثمّ نُقلت بصورٍ مختلفة- كيف كان، كانت واحدة منهما عبارة عن وصية أوصى بها الحسن والحسين عليهما السّلام. نقل السيد الرضيّ في نهج البلاغة هذه الوصية على هذا النحو:

" أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ" يعني أنا أوصيكما بأن تتقوا الله، " وَأَلاَّ تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا" أي إذا أقبلت الدنيا عليكما، فلا تقبلوا عليها، إنّه لمن الشقاء أن تتطلبوا الدنيا. طبعاً، الدنيا بهذا المعنى الذي نقول. "وَلاَ تَأْسَفَا عَلَى شَيْء مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا" أي إذا رأيتم أنكما ستحرمان الدنيا في سبيل الحفاظ على التقوى، فلا تحزنا. " وَقُولاَ بِالْحَقِّ" يعني تكلموا دائماً لله. " وَاعْمَلاَ لِلأجْرِ" أي اعملا دائماً في سبيل الله ولأجل مرضاته."وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً" أي كونوا دائماً خصيماً للظالم والمعتدي، وعوناً وسنداً للمظلوم والمعتدى عليه. "أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ"، أي أنتم، جميع أبنائي، جميع عائلتي، وجيمع من يصله هذا الكتاب –يعني جميعنا- أوصيكم بطريق التقوى والورع. "وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ" نظموا أمور الدنيا والحياة، وخاصةً الحياة الاجتماعية وشؤون الإدارة والحكم. "وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ" أي حاولوا معالجة أي اختلاف ينشأ بينكم أو افتراق بسيط بين جماعتين بشكل سريع.

"فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلى الله عليه وآله وسلم)يَقُولُ: «صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ»" من المثير للعجب، يُعد اصلاح واحد أو حل واحد لأي اختلاف داخلي بين المسلمين أو جماعتين منهم، أعلى وأفضل من جميع الصلاة والصيام.

"اللهَ اللهَ فِي الاْيْتَامِ" اذكروا الله في قضية الأيتام. "فَلاَ تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ" أي لا تفعلوا أي شيءٍ يجعلهم يخافون من التكلم معكم. "وَلاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ" لا تسمحوا لأحداً أن يعتدي على يتيم في محضركم، أو أن يهملهم ويضيع حقهم.

"وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ" أوصيكم حول جيرانكم، أن تذكروا الله وتحرصوا على مراعاة أوامر الله فيهم. لقد أوصى النبي صلّى الله عليه وآله كثيراً بهم. "مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ" أوصى بهم كثراً لدرجة أنّنا ظننا أنّه سيجعل لهم سهماً من الإرث.

"وَاللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ" حول القرآن الكريم، احفظوا حقّ الله فيه، لا تدع الآخرين يسبقونكم في اتباع القرآن.

"وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ"، فيما بتعلق بالصلاة، اذكروا الله واعلموا أنّها عامود دينكم.

"وَاللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لاَ تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ" فيما بتعلق ببيت الله، الكعبة، اذكروا الله؛ فلا يخلوا أبداً ما بقيتم على قيد الحياة. "فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا" يعني إذا عُطّل الحجّ إلى بيت الله يوماً واحداً، فإنّه لن يتّم امهالكم.

"وَاللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ" عليكم مراعاة حقّ الله في الجهاد وسبيله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم. "وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ" عليكم أن تكونوا دائماً على مقربة من بعضكم بعضاً. عليكم ألا تترددوا في البذل والإنفاق على بعضكم، وأن تسامحوا بعضكم بعضاً. "وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ" أمسكوا أيدي وقبضات بعضكم بعضاً بدل أن تديروا ظهوركم لبعضكم وتتقاطعوا، وافتحوا طريق الوحدة في حياة الأمة الإسلامية.

"لاَ تَتْرُكُوا الاْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ" لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تتخلوا عن المحافظة الجماعية على شرع الله والعدالة، ولو فعلتم ذلك سيحكمكم أسوء الناس وأحقرهم. وعندها لن يُستجاب لكم مهما فعلتم أو دعيتم وناديتم.

لقد قرأت شخصياً هذا المقطع من نهج البلاغة عدّة مرات، أيضاً قرأته في هذه المناسبات مرات عديدة، وفي كلّ مرّة أقرأه يكون جديداً بالنسبة لي. لاحظوا  أيّها الإخوة كيف أنّ عليّاً وفي مثل هذه الحالة في ليلة القدر يوصي أبناءه، فيقول له:"يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي".  

يا أبناء عبد المطلب، لا تجعلوا موتي سبباً لظهور التعصبّات العائلية والتحزّبات العشائرية، تُشهرون السيف، وتقعون في دماء المسلمين، وتقتلون هذا وذاك، وتقولون:"لقد قُتل أمير المؤمنين". بل يجب بدلاً من ذلك، أن تقتلوا من قتلني. أنا أُعلِمُكُم أنّه لا يُسمح لكم إلا قتل شخصٍ واحد فقط بدلاً مني، وهو الشخص الذي قتلني. ثمّ لم يكتفِ الإمام بهذا المقدار من الوصية، بل أضاف:"انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ" لاحظوا، كيف أنّ الإمامعليه السّلام يتحدث حتى عن كيفية قتل قاتله، يقول انظروا، إذا أنا متّ على إثر هذه الضربة، فاقتلوه بنفس الطريقة التي قتلني بها، أي اضربوه ضربة واحدة كما ضربني، وإياكم أن تزيدوا.

"وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ" حذار أن تقطعوا الرجل قطعة قطعة. " َإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَ الْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُور" فإنّي سمعت النبي صلّى الله عليه وآله يقول: تجنبوا التمثيل بالجثث حتى لو كان الميتة ميتة كلب عقور.

سلامُ الله عليك يا أمير المؤمنين.

صفاتُ المتقين[12]

ومن خطبة له عليه السّلام:

 رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه ‏السلام يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ كَانَ رَجُلًا عَابِداً فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ عليه ‏السلام عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ فَـ "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى‏ الله ‏عليه‏ وآله ثُمّ قَالَ:

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ‏ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَلَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نَصْبُ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءٌ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسِبُهُمْ مَرْضَى وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَلَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ.

فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحَزْماً فِي لِينٍ وَإِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ وَعِلْماً فِي حِلْمٍ وَقَصْداً فِي غِنًى وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَصبْراً فِي شِدَّةٍ وَطَلَباً فِي حَلَالٍ وَنَشَاطاً فِي هُدًى وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ َمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَيُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حَذِرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ‏ وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أُكُلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ.

 إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَلَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَلَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَلَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَ َا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ ِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزَاهَةٌ وَدُنُوُّهُ‏ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ وَلَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ.

قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه ‏السلام)  أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ (عليه ‏السلام) وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ.

شرح الخطبة:

رُوي أنّ أحد أصحاب أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام العُبّاد، وكان اسمه "هَمَّام"، قال للإمام:

"يا أمير المؤمنين، صِف لي المتّقين، كما لو كنت أنظر إليهم أمام عيني". إلا أنّ عليّاً تردد في قبول طلبه، وقال له:"يا همّام، اتقّ الله واجعل عملك حَسَناً، فـ{إنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} أي مع الأتقياء والمحسنين". غير أنّ همّام لم يقنع بهذا القول، وأصرّ على الإمام؛ لكي يفصّل له أكثر.

عندها، حَمدَ عليّ عليه السّلام اللهَ وأثنى عليه، وصلّى على النبي صلّى الله عليه وآله، ثم قال:

لما خلق الله تعالى الناس، كان غنياً عن طاعتهم، وآمناً من معصيتهم؛ لأنّه تعالى لا تضرّه معصية الشخص الذي لا يلتزم بأوامره، كما لا تفيده طاعة من يلتزم بها.

فقسّم بين الناس مقومات الحياة، ووضع الجميع في مواضعهم التي كانت لهم من الدنيا.

فالمتقّون هم أولئك الذين يتمتعون بالصفات السامية، حيث إنّ كلامَهم صائب، ولباسَهم متوسط الحال، ونهجَهم التواضع.

لقد غضّوا أبصارهم عن الأمور التي حرّمها الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلوم التي تنفعهم.

 وإنّ نفوسهم على حالٍ سواء في السرّاء والضراء، فحالها في أيامِ مِحَنِ الرجالِ الصعبة تماماً  كحالها في أيام الراحة والرفاهية. 

ولو لم تكن ساعةُ الموت قد عُيّنت قبلاً عند الله، لما بقيت أرواحهم في أجسادهم لحظةً واحد؛ وذلك بسبب شدّة شوقهم لثواب الله وخوفهم من عقابه.

الخالق هو وحده العظيم في أعينهم؛ ولذلك فإنّ كلّ شيء –سوى الله- يكون صغيراً في أعينهم. هم مع الجنة كأنّهم قد رأوها، فهم يتنعمون بها الآن، وهم مع النار كأنّهم قد رأوها، فهم يتعذبون بها الآن.

قلوبهم مليئة بالحزن والألم. والناس في آمان من أذيتهم. أجسادهم نحيفة، وحاجاتهم ضئيلة، وأنفسهم عفيفة. لقد مرّت أيام قليلة قد صبروا فيها، فتبعها بسبب ذلك راحة مديدة وطويلة. إنّها تجارة مربحة، قدّمها لهم ربهم.

لقد كانت الدنيا تريدهم وتسعى في طلبهم دائماً، بيد أنّهم لم يكونوا يريدونها. ولقد أسرتهم كذلك، ولكنّهم دفعوا الثمن المطلوب، فحرروا أنفسهم منها. تجد الواحد منهم واقفاً على قدميه للصلاة أثناء الليل، ومشغولاً بقراءة مختلف الأجزاء من القرآن الكريم، وهو يتلوه بهدوءٍ وحذر؛ ليعالج بهذه الوسيلة آلامه. إنّهم يُهيّجون اللهب في أنفسهم؛ لأنّ ذلك هو العلاجُ لدائهم.

إنّهم عندما يصادفون آية تتحدث عن المكافأة المشوقة، يتعلق قلبهم بها، فتشتاق أرواحهم إلى تلك المكافأة الإلهية اشتياقَ من يراها أمام عينيه. لقد أحنوا أبدانهم[13]، وألقوا بجباههم، وأكفهم، ورُكبهم، وأطراف أرجلهم على الأرض[14]، يسألون الله تعالى –بهذه الحال- أن يطلق سراحهم من النار.

أما حالهم في النهار، فحلماء، وعلماء، وحكماء، وأبرار، ومتقون. وإنّ الخوفَ قد برى أجسادهم كما يبري السهمُ الخشبَ، فيجعله نحيفاً، وبسبب ذلك، يظنّ من ينظر إليهم أنّهم مرضى، أو يقول: "إنّهم مختلّون، نعم لقد خالطهم شيء خطير"، في حين أنّهم لا يشتكون من أيّ مرض. هم لا يرضون بالعمل القليل، ولا يعدّون العمل الكثير كثيراً كذلك. ودائماً ما يتهمون أنفسهم[15]، ويحذرون من أعمالهم.

إذا أثنى أحدٌ على واحدٍ منهم، فحسبه من الأنقياء، فإنّه يقلق من كلامه، ويقول:"أنا أعلم بنفسي من الآخرين، والله أعلم بي من نفسي. اللهم، لا تؤاخذني بقوله هذا، واجعلني أفضل مما يقول، واغفر لي ما لا يعلمونه". 

إنّ واحدة من علامات الإنسان التقي، هي أن ترى أنّه قوي في الدين، وترى انضباطه مصحوباً مع مرونته، وإيمانه مستقى من اليقين، وترى أنّه حريصٌ على كسب العلم، وأنّ علمه مصحوبٌ مع الحلم والتحمّل.

ترى أنّه معتدلٌ ولا يتجاوز الحدّ عند الغنى والتنعّم، وخاشعٌ في عبادته، وجميلٌ في مظهره رغم فقره، ترى أنّه يسعى بجدٍّ ونشاط كامل في طلب الرزق الحلال، وسعيدٌ، وترى أنّه يسلك طريق الهدى والاستقامة، ويتجنب الطمع والحرص. هو يقوم بالأعمال الصالحة، إلا أنّه يبقى قلقاً رغم ذلك[16].

 يختم يومه بالاجتهاد في شكر الله وتقدير نعمه، ويبدأه بالاجتهاد في ذكر الله وإيقاظ قلبه. يبيت في فراشه عند الليل حذِراً[17]، ويذهب في الصباح سعيداً نشطاً؛ لاستقبال العمل والسعي.

 يبقى حذِراً؛ خشية أن يغفل وينسى، وفرِحاً؛ بما أصابه من رحمة الله وفضله، الذيَن نالهما مع سعيه بنفسه. إذا عاندت نفسُه الشهوانية أمرَه بالقيام بالتكاليف التي لا ترغبها، فإنّه يعاقبها، فلا يمتثل لرغباتها وتمنياتها في أماكن أخرى.

 إنّ عينيه مصوبتين على العطايا الأبدية التي لا تزول، وقلبَه محجمٌ عمّا هو عابر وزائل.  

يمزج العلم بالحلم والصبر، ويعمل بما يقول. أملُه ليس بعيداً ولا طويلاً[18]. وخطأه قليل، وقلبه خاشع، ونفسه قانعة، وأكله قليل، وأمره سهل، ودينه ثابت، وشهوته ميته، وغيظه مكظوم.

يأمل الناس في خيره، ولا يقلقون من أذيته وضرره. هو وإن كان بين الغافلين، فإنّ اسمه يظل في الذاكرين اليقظين. وإن كان بين الذاكرين، فإنّه لا يُحسب من الغافلين[19]. إذا ظلمه شخصٌ، فإنّه يعفو عنه[20]. وإذا منعه أحدٌ من إحسانه، فإنّه لا يمنعه هو أيضاً منه، بل يقابله به. {وإذا قطع أحدٌ صلته، فإنّه يحاول دائماً وصله. ويتجنّب قول الألفاظ القبيحة. قوله ليّن، ولا يُرى منه عمل قبيح، وعمله الحسن ظاهر، وخيره يعمّ الجميع، ولا يرى أحدٌ شرّه}[21].      

هو في المصائب متين ووقور، وفي المصاعب رزين وصبور، وفي أوقات الرخاء مقدّرٌ للنعمة وشكور. لا يظلم أيّ أحدٍ، وإن كان يبغضه. ولا يقع بالخطأ والانحراف بسبب أيّ أحدٍ وإن كان يحبّه. يعترف بالحق ويُقّر به، قبل أن يشهد الشهود عليه به.  

إذا أُعطي شيئاً ليحفظه، فهو يحفظه. وإذا ذُكّر بشيء، فهو لا ينساه. لا يُنابذ أحداً بالألقاب، ولا يؤذي جيرانه.

إذا أصابت حادثة مريرة أحداً، لا يشمت به ولا يظهر له شيئاً. وهو لا يدخل في باطل أو لغو، ولا يخرج من دائرة الحقّ.

حيثما جلس صامتاً، فإنّ صمته لا يحزنه. وحيثما ضحك، فإنّه لا يرفع صوته. وإذا جار عليه أحدٌ، لا يفقد صبره، إلى أن ينتقم له الله.

إنّ نفسه منه في عناء، بيد أنّ الناس منه في راحة. لقد أتعب نفسه لأجل آخرته فبذل لها الجهد، وأراح الناس من شرّه.

إن نأى بنفسه عن أحد، فذلك لا يكون إلا عن زهد ونزاهة، وإذا دنى من أحد، فلا يكون إلا عن لين ورحمة. تباعده ليس عن تكبّر وعظمة، ودنوه ليس عن مكر وخديعة.   

{ويقال إنّه في ذلك الوقت صاح همام ومات، وقال أمير المؤمنين عليه السّلام:}

"والله، لقد كنت أخاف عليه من ذلك."

ثم قال:

"هكذا تفعل الموعظة بمن هو أهلٌ لها".

فقال أحد الحاضرين في المجلس:"فما بالك أنت يا أمير المؤمنين؟"

فقال عليّ عليه السّلام:

"ويحك، لكل إنسانٍ ساعة يموت فيها، وهو لا يتعدّاها، وله سببٌ للموت يموت فيه، وهو لا يتجاوزه. احذر، لا تعد لمثل هذا الكلام، لقد كان الشيطان هو من نفث على لسانك".


[1]. ورد ذكر هذه الليلة في عدد من الروايات و الأحاديث، وهي ليلة 23 من شهر رمضان المبارك؛ ويرجع سببُ تسميتها بالجُهني كما صرَّح بذلك الشيخ الصدوق إلى رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله يُسمى بعبد الله بن أُنَيْسٍ الْأَنْصَارِي الْجُهَنِي  إثرَ حديثٍ جرى بينه و بين النبي، ولها قصة معروفة في هذا الصدد. (المترجم)

[2] . وهو موسوعة فقهية إسلامية. (المترجم)

[3] . أي إحياء الليل.

[4] . الجملة غير تامة في النص الأصلي ووردت هكذا. (المترجم)

[5] . هذه الجملة مرتبطة بالمقطع المفقود. (المترجم)

[6] . يوجد نقص في العبارة الأصلية. (المترجم)

[7] . يتحدث السيد في زمانه. (المترجم)

[8] . وهو كتاب "عليّ صوت العدالة الإنسانية". (المترجم)

[9] . شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 17، ص 3، دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة الثانية (1965 م - 1387 ه‍)، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - إيران 1404 ه‍ ق. (المترجم)

[10] . وهو عاصم بن زياد. المترجم

[11] . هنا ثلاث كلمات: التحكيم، والحُكم، والحكومة. وقد كان مقصود الخوارج بداية الاعتراض على التحكيم لا الحُكم، ثم اعترضوا لاحقاً على الحُكم، بمعنى الإمرة –كما فسّرها الإمامعليّ عليه السّلام في الخطبة الأربعين من نهج البلاغة، بقوله:"نعم، إنّه لا حُكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله"- والحُكم هو نفس الحاكمية وصلاحية سنّ القوانين، أمّا الحكومة فهي الرئاسة والسلطة المنفذة. والسيد يريد هنا التمييز بين الحُكم والحكومة، فيقول إنّ الكلام ليس في الحُكم، فنحن نسلم بأنّ الحكم حكمُ الله، بل الكلام في الحكومة، أي السلطة والهئية التي ستتولى تطبيق حكم الله. (المترجم)

[12] . تُرجمت هذه الخطبة المعروفة بـ"خطبة همّام"، من قِبل الشهيد آية الله الدكتور بهشتي تحت عنوان"أهل الجنة في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام".

[13] . الركوع.

[14] . السجود.

[15] . بالتقصير في العمل.

[16] . خشية أنّ لا يكون قد قام بواجبه بعد.

[17] . حَذرَ الإنسان المتعهد المسؤول.

[18] . يعني آماله الشخصية.

[19] . يعني أنّه حالة ذكره مع الذاكرين، لا يكون غافلاً، فيُحسب منهم.

[20] . طبعاً، طالما كان هذا مرتبطاً بشخصه، ولم يكن باعثاً له للتجرأ على الظلم.

[21] . نهج البلاغة، ترجمة السيد جعفر الشهيدي.

سمات

تعليقك

You are replying to: .
captcha