العزّة أهم مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولا بدّ لكل حكم من الأحكام الإسلامية من أن ينسجم مع هذا المقصد، وإلا فلا يجوز العمل به. بعبارة أخرى، عزّة الإنسان وكرامته أصل من أصول الدين، وكل فرع يتعارض مع هذه العزّة ويؤدي إلى إذلال الإنسان يسقط وينتفي العمل به.
كل ما جاءت به الأديان السماوية ونادى به المصلحون الإلهيون على مرّ التاريخ على صعيد العقيدة والعبادة والسلوك والعلاقات إنما يستهدف تحقيق عزّة الإنسان وتكريمه على هذه الأرض.
الإمام الخميني (قده) في سلوكه الشخصي ومسيرته العلمية والتربوية والجهادية، وفي كل أقواله ومواقفه، أراد أن يحيي العزّة والكرامة في نفوس مخاطبيه، وأن يزيل كل العوامل التي من شأنها أن تذلّ الإنسان وتصادر كرامته.
العزّة وأهل البيت (ع)
في مقدمة الوصية نرى تأكيداً على أهل البيت (ع)، وعلى الالتزام بنهجهم، وعلى ما نزل بهم من ظلم في التاريخ، ولهذا التأكيد مدلوله الخاص. إنه يعني الانتماء إلى مدرسة العزّة في التاريخ. أهل بيت رسول الله (ص) كانوا دون شك على مرّ التاريخ في طليعة مقارعة الظلم والظالمين، والدفاع عن عزّة المسلمين، وكانت الدماء التي قدّموها على هذا الطريق مبعث حركة تاريخية مستمرة صانت الإسلام من الانحراف والمسلمين من الإذلال.
الإمام الراحل (قدس) بتأكيده على هذه الدراسة إنما يريد أن يوثق الارتباط بمصدر هام للعزّة، وهو المصدر التاريخي، ويريد في الوقت نفسه أن يدين كل من أذلّ المسلمين وسامهم سوء العذاب باسم الدين والإسلام.
الارتباط التاريخي بالثورات والثوار وبحركة الدفاع عن العزّة والكرامة يشكّل، دون شك، مصدراً هامّاً من مصادر إلهام الأجيال وتحديداً الوجهة الحركية في مسيرتها. بعد أن يؤكّد الإمام الراحل على حديث الثقلين باعتباره حديثاً متواتراً بين المسلمين، وباعتباره الضمان التشريعي لصيانة المسيرة من الانحراف، يذكر بعد ذلك ما حلّ بالمسلمين نتيجة إقصاء أهل البيت (ع)، ويرفع صوته بالفخر بسبب انتمائه هو والشعب الإيراني إلى مدرسة العزّة والكرامة والتحرّر والانعتاق، كأنه يريد بذلك أن يلقّن مخاطبه الاعتزاز بهذا الانتماء التاريخي والرسالي، يقول: «نحن والشعب العزيز الملتزم التزاماً لا حدّ له بالقرآن والإسلام، نفخر بأننا أتباع مذهب يستهدف أن يخلص حقائق القرآن الداعية بأجمعها إلى الوحدة بين المسلمين بل البشرية، من المقابر ليقدّمه باعتباره أعظم وصفة للبشرية من جميع ما يكبّل يدها ورجلها وقلبها وعقلها من قيود، ويدفعها نحو الفناء والإبادة والرقية والخضوع للطواغيت. نحن نفخر بأننا أتباع مذهب مؤسسة رسول الله (ص) بأمر من الله تعالى، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) هذا العبد المتحرّر من جميع القيود والمأمور بتحرير البشرية من الاستعباد وجميع الأغلال. نحن نفخر بأن كتاب نهج البلاغة الذي هو بعد القرآن أعظم نهج للحياة المادية والمعنوية وأسمى كتاب تحرّري للبشرية، وتعاليمه المعنوية والإدارية، أسمى طريق للنجاة، هو من إمامنا المعصوم». (الوصية، ص10).
ويواصل الإمام عرض مفاخر هذه المدرسة في التربية والتعليم مركّزاً على ما قدّمته من تضحيات في سبيل العدل ومقارعة الظالمين، ويربط هذه التضحيات بشكل رائع بما قدّمه الشعب الإيراني في سبيل دينه، مؤكّداً بذلك أن حركة هذا الشعب هي استمرار لمسيرة الجهاد الطويل الذي خاضته مدرسة أهل البيت (ع)، يقول: «نحن نفخر بأن يكون الأئمة المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم قد عانوا السجن والتشريد على طريق تعالي الدين الإسلامي وعلى طريق تطبيق القرآن الكريم، وإقامة حكومة العدل الإلهي باعتبارها واحداً من أبعاد (هذا التطبيق)، واستشهدوا في النهاية على طريق الإطاحة بالحكومات الجائرة والطاغوتية في زمانهم، ونحن نفخر اليوم بأننا نريد تطبيق أهداف القرآن والسنّة، وأن فئات الشعب المختلفة تبذل بولع شديد على هذا الطريق المصيري الكبير، طريق الله». (الوصية، ص11).
ويعود الإمام (قده) في نهاية مقدمة وصيته ليطلب من كل المسلمين أن يقتدوا بهذه المدرسة بما فيها من فكر عميق وروح تضحية وفداء.
العزّة والمرأة
لا يمكن أن تتحقّق العزّة في أمة تكون المرأة فيها حقيرة ذليلة مهانة، ومن أكبر عوامل الإذلال في مجتمعاتنا الإسلامية على مرّ التاريخ كان الوضع المزري الذي عاشته المرأة المسلمة. فالمرأة الأم والأخت والزوجة هي التي تبعث في نفوس الجيل روح العزّة والكرامة، وهي نفسها – إن كانت ذليلة مهانة – تغرس روح الذلّ والهوان في نفوس الأجيال.
والظاهرة الغريبة في الثورة الإسلامية حركة المرأة على طريق العزّة، وعلى طريق دفع المسيرة نحو التضحية والفداء بحيث تقدّمت كما يقول الإمام أحياناً على الرجل في هذا المضمار. والمهم في الأمر أن الفئة المتحركة من النساء على طريق الثورة لم تكن تلك الفئة التي ادّعت العصرنة والتحرّر، بل هي تلك الفئة التي فرض عليها الحرمان من المشاركة الاجتماعية نتيجة دسائس الأعداء وجهل الأصدقاء كما يقول الإمام.
يؤكّد الإمام في مقدمة وصيته على هذا الدور الذي نهضت به المرأة، ويشير بوضوح إلى أن انـزواء المرأة المسلمة كان نتيجة عقلية خرافية بثّها الأعداء وأشاعها الجهلة وبعض رجال الدين المتحجّرين.
العزّة والقيادة
عزّ الشعب يبدأ غالباً من ممارسات قيادته، وكذا ذلّها. فإذا كانت القيادة تقيم للإنسان وزناً، وتؤمن بعزّته وكرامته فإن التوجّه العام للأمة ينحو باتّجاه العزّة. وإن كانت القيادة تتّخذ من الشعب خولاً ومن ثرواته مغنماً، فذلك أساس ذلّ المجتمع.
الإمام الراحل في سلوكه مع الجماهير وفي لغة خطابه كان يعبّر عن ثقة غير متناهية بالجماهير، يرى أن كل ما تحقّق من نعم فبفضل الله وبواسطة هذه الجماهير. يتحدّث عن الناس وكأنه يعشقهم واحداً واحداً، ويتواضع أمام الناس تواضعاً لا حدّ له دون تملّق أو تزلّف.
يخاطب المسؤولين في وصيته يقول: «وأوصي المجلس والحكومة والمسؤولين أن يقدّروا هذا الشعب حقّ قدره، وأن لا يألوا جهداً في خدمته وخاصة المستضعفين والمحرومين والمظلومين منهم، فهؤلاء ضياء أعيننا وأولياء نعمتنا جميعا، والجمهورية الإسلامية عطيتهم، وتحقّقها كان بفضل تضحياتهم وبقاؤها رهين خدماتهم. اعتبروا أنفسكم من الجماهير والجماهير منكم». (الوصية، ص25).
ثم يرتفع في مقطع آخر من الوصية لينظر إلى الشعب نظرة تاريخية، فيقارنه بالجيل الإسلامي الأول الذي تشرّف بعصر النبوة أو بعصر الخلافة الراشدة، فيقول بجرأة: «أنا أزعم بجرأة أن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في العصر الراهن أفضل من أهل الحجاز في عصر رسول الله (ص)، وأفضل من أهل الكوفة في العراق على عهد أمير المؤمنين والحسين (ع). في الحجاز على عهد رسول الله (ص) منهم من أبوا أن يطيعوا الرسول ورفضوا – بذرائع مختلفة التوجّه إلى جبهات القتال حتى أنـزل الله آيات من سورة التوبة توبّخهم وتعدهم بالعذاب، ثم إنهم كذبوا على (النبي) حتى روي أنه دعا عليهم على المنبر، وأهل العراق والكوفة أساؤوا التعامل مع أمير المؤمنين (ع) وعصوه، وشكاوى الإمام منهم معروفة في المأثور وكتب التاريخ». (الوصية، ص27).
العزّة والإعلام
للإعلام دور كبير في بناء شخصية أفراد الأمة، وخاصة في عصرنا حيث التطوّر التقني الهائل في وسائل الإعلام والاتصال. التلقين المستمر الذي توحيه للأفراد يمكن أن يصنع الشخصية المتحلّية بالعزّة والكرامة، ويمكن أن يذيب هذه الشخصية ويحلّلها، ويخلق روح الهزيمة والذلّ في أعماقها. معظم وسائل الإعلام في عالمنا الإسلامي لا تتّخذ اتجاهاً رسالياً هادفاً، بل تتّجه نحو تعميق روح الضعف والتبعية والهزيمة في المستمع والمشاهد والقارئ.
الإمام في وصيته يعرض لما كانت عليه وسائل الإعلام في عهد الشاه، وما جرته من ضياع الذات والشخصية، ويحذر من انزلاق الإعلام في العهد الإسلامي إلى تلك الحالة باسم «الحرية»، يقول:
«الإذاعة والتلفزيون والصحافة والسينما والمسرح من الأدوات الفعالة في إفساد الشعوب وتخديرها خاصة جيل الشباب. ما أكثر المخططات الكبرى التي نفذت عن طريق هذه الأدوات خلال هذا القرن الأخير خاصة النصف الثاني منه، سواء ما استهدف منها معاداة الإسلام أو معاداة علماء الدين المخلصين أو ما اتجّه للدعاية إلى المستعمرين الغربيين والشرقيين!! من هذه الأدوات استفادوا لرواج الأسواق الاستهلاكية للبضائع وخاصة الكمالية وأدوات الزينة بكل أنواعها (دافعين الناس) إلى التقليد في الأبنية والديكور والمظاهر، والتقليد في نوع المشروبات والملابس على طريقتهم (الأوروبية)، حتى عاد التفاخر في تقليد الغرب سائداً في جميع شؤون الحياة، في السلوك والكلام وشكل الملبس، خاصة بين النساء المرفّهات ونصف المرفهات. و(هكذا التقليد) في آداب المعاشرة وطريقة الكلام واستعمال الألفاظ الغربية في الحديث والكتابة حتى عاد فهم كلام هؤلاء صعباً على كثير من الناس بل على نظرائهم أيضاً.
الأفلام التلفزيونية كانت من منتجات الغرب أو الشرق، وكانت تبعد الشباب، ذكوراً وأناثاً، عن المسير الصحيح للحياة، وعن العلم والصناعة والإنتاج، وتدفعهم إلى الجهل بذاتهم وبشخصيتهم، أو إلى التشاؤم وسوء الظنّ بكل شيء أصيل لديهم ولدى بلدهم، بما في ذلك الثقافة والآداب والمآثر القيمة التي انتقل الكثير منها بيد الخائنين إلى المكتبات والمتاحف الغربية والشرقية.
المجلات، بمقالاتها وصورها الفاضحة والمؤسفة، والصحف بتسابقها في كتابة مقالات معادية للأصالة الثقافية والإسلامية، كانت تفخر بأن تدفع الجماهير وخاصة فئة الشباب نحو الغرب أو الشرق، أضف إلى ذلك الدعايات الواسعة في نشر مراكز الفساد والفحشاء، ومعارض البضائع الكمالية ووسائل التجميل واللعب والمشروبات الكحولية، وخاصة ما يستورد منها من الغرب. ومقابل تصدير النفط والغاز والثروات الأخرى كانت تستورد الدمى واللعب والتحف الكمالية ومئات الأشياء الأخرى مما ليس لمثلي اطّلاع عليها. ولو قدر – لا سمح الله – أن يمتدّ عمر النظام البهلوي المأجور المخرب لأوشك شبابنا الأكّفاء من أبناء الإسلام والوطن وممن تعقد الأمة عليهم الآمال، بما يحيطهم من دسائس وخطط شيطانية يديرها النظام الفاسد ووسائل الإعلام والمثقفون المتغربون والمتشرقون، أن يعرضوا تماماً عن الأمة والإسلام، فيتلفوا شبابهم في مراكز الفساد أو ينخرطوا في خدمة القوى الطامعة، ويبيدوا بذلك البلاد».
.............
انتهى/212