لقد خلق الإنسان وزوده بعنصري (العقل) و(الإرادة)، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً ومحققاً لأغراضه و أهدافه.
وقد جعل الله العقل حجة له علی خلقه، وأعانه بما أفاض عليه معين هدايته؛ فإنّه هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلی طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلی هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.
وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة أخری. وبذلك قدم اطروحته الكاملة فیما يخص نظرية الهداية ونظامها.
معالم مبدأ الهداية الربانية
قال الله تعالی مبيّناً حقيقة الهداية ومبدئها وطريقها ورموزها ونتائجها:
1-وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ یَهدِي السَّبيلَ.
2-قُل إنّ هُدَی اللهِ هُوَ الهُدَی.
3-وَاللهُ يَهدِي مَن يَشَاءُ إلی صِرَاط مُستقيم.
4-وَمَن يَعتَصِم باللهِ فقد هُدِيَ إلی صِرَاط مُستقيم.
5- وَيَرَی الّذِينَ أوتُوا العِلمَ الّذِي أنزلَ إليك مِن رَبِّك هُوَ الحَقَّ وَيَهدِی إلی صِرَاطِ العَزيزِ الحَميدِ.
6-وَمَن أضَلُّ مِمَّن اتَّبَعَ هَوَاهُ بغَيرِ هُدیَّ مِنَ اللهِ.
7-قُل اللهُ يَهدِي لِلحَقِّ أفمَن يَهدِي إلی الحَقُّ أن يُتَّبَعَ أم مَن لا يَهدِّي إلّا أن يُهدَی فمَا لُكم كيفَ تحكمُونَ.
فالله تعالی هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلی الصراط المستقيم وإلی الحق القوِيم.
مسيرة الهداية الربانية
وقد حمل الأنبياء وأوصیاؤهم المهديون مشعل الهداية الربانية منذ فجر تاريخ الإنسان وعلی مدی العصور والأجيال.
ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي _ مؤیدةَ لدلائل العقول_ بأن الأرض لا تخلو من حجة لله علی خلقه، لئلا یكون للناس علی الله حجة بعد الرسل فالحجة «قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق»، «ولو يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة»، وقد صرح القرآن _بشكل لا يقبل الريب_ قائلاَ: (إنَّما أنتَ مُنذِرٌ وَلِكلِّ قوم هَاد).
مهام القادة الهداة
ويتولی أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهديون مهمة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخص فيما يلي:
1-تلقي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهو تعبير عن الاستعداد التام لتلقي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح الذكر الحكيم قائلاً: (اللهُ أعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالتهُ) و(اللهُ يَجتبي مِن رُسُلِهِ مَن يَشاءُ).
2- إبلاغ الرسالة الإلهية الی من أرسلوا إليه من البشرية، ويتوقف الإبلاغ علی الكفاءة التامة التي هي حصيلة «الإستيعاب والإحاطة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلباتها، و«العصمة» عن الضلال ويتمثل فی الخطأ والانحراف معاً، قال تعالی: (كانَ النَّاسُ أمّة وَاحِدةَ فَبَعثَ اللهُ النَّبيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ وَأنزَلَ مَعَهُمُ الكتابَ بالحقِّ لِيحكمَ بَينَ النّاس فِيَما الختلُفُوا فِيهِ وَمَا اختلفَ فِيهِ). وقال أيضاً: (قالَ فبعِزَّتِك لاغوِينَّهُم أجمَعِين إلا عِبَادَك مِنهُمُ المُخلصِينَ).
3- تكوين أمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمة مستخدمة عنواني التزكية والتعليم، قال تعالی: (وَيُزكيهِم وَيُعَلّمُهُمُ الكتابَ والحِكمَة) والتزكية هی التربية السليمة باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلب التربية القدوة الصالحة التي تتمتع بكل عناصر الكمال، كما قال تعالی: (لقد كانَ لكم فِي رَسُول الله أسوَةٌ حَسَنةٌ لِمَن كانَ يَرجُوا اللهَ وَاليومَ الآخِرَ وَذكرَ اللهَ كثيراً).
4- صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقررة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلب الكفاءة العلمية والنفسية. التي تتناسب مع هذه المهمة العظيمة.
5- العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس أبناء المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الأطروحة الربانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف علی المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسي يتولی إدارة شؤون الأمة علی أساس الرسالة الربانية للبشرية، ويتطلب التنفيذ قيادة حكيمة، وشجاعة فائقة، وصموداً كبيراً، ومعرفة تامة بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية و سنن الحیاة، ونلخصها في الكفاءة العلمية و العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، والعصمة التي تعبر عن الكفاءة النفسية تصون القيادة الدينية من كل سلوك منحرف أو عمل خاطی بإمكانه أن يؤثر تأثيراً سلبياً علی مسيرة القيادة وانقياد الأمة لها بحيث يتنافی مع أهداف الرسالة وأغراضها. فالعصمة ركن أركان هذه الكفاءة النفسية.
جهاد الأنبياء الدامي (صلوات الله عليهم أجمعين)
وقد سلك الأنبياء وأوصياؤهم المصطفون علی الأجيال طريق الهداية الدامي، واقتحموا العقبات في سبيل التربية المطلوبة، وتحملوا كل صعب، في سبيل أداء المهام الرسالية وقدموا كل ما يمكن أن يقدمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته في سبيل تحقیق أهداف الرسالات الإلهية، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكأوا طرفة عين.
انجازات خاتم النبيين وسيد المرسلين (صلی الله عليه وآله)
وقد توج الله جهودهم وجهادهم المستمر علی مدی برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلی الله عليه وآله) وحمله الأمانة الكبری ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد سار الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصييلة جهاده المبارك وكدحه الدائب خلال أكثر من عشرين سنة ما يلي:
1-تقديم رسالة كاملة تحتوي علی عناصر الديمومة والبقاء.
2- تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.
3- تكوين أمة مسلمة تؤمن بالله رباً وبالإسلام مبدأ، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة.
4- تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسي يحمل لواء الإسلام ويطبق شريعة السماء.
5- تقديم الوجه المشرق للقيادة الربانية الحكيمة المتمثلة في قيادته (صلی الله عليه وآله).
متطلبات الرسالة الخاتمة
ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري:
أ-أن تستمر القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربصون بها الدوائر.
ب- أن تستمر عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال؛ علی يد مرب كفوء علمياً ونفسياً حِيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول الأعظم الأعظم (صلی الله عليه وآله)، يستوعب الرسالة ويجسدها في كل حركاته وسكانته.
ومن هذا كان التخطيط الإلهي يحتم علی الرسول الخاتم (صلی الله عليه وآله) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم؛ لتسلم مقاليد الحركة النبوية العظيمة والهداية الربانية بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية _ التي كتب الله لها الخلود _ من تحريف الضالين وكيد الخائنين، وتربِية الأجيال علی قيم الله ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها للبشرية علی مر العصور، حتی يرث الله الأرض ومن عليها.
وتجلی هذا التخطيط الرباني في ما نص عليه الرسول (صلی الله عليه وآله) بقوله: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي، وإنهما لن يفترقا حتی يردا علي الحوض».
وكان أئمة أهل البيت _ صلوات الله عليهم أجمعين_ هم العترة وهم خير من عرفهم النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله) وذلك بأمر من الله تعالی ذلك بأمر من الله تعالی. وكانت سيرة الأئمة الاثني عشر من أهل من أهل البيت (عليهم السلام) تمثل بحق المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول (صلی الله عليه وآله).
وتبلورت حياة الأئمة الراشدين في الثبات علی نهج الرسول العظيم وأنفتاح الأمة عليهم بالتدريج _ برغم كل الألغام والعقبات التي زرعت في هذا الطريق_ والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح تنير الدرب للساكين طريق الحق وللمؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاء علی الله وعلی مرضاته، والمستقرين في أمر الله، والتأمين في محبته، والذائبين في الشوق إليه، والسابقين إلی تسلق قمم الكمال الإنساني المنشود.
وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر علی طاعة الله وتحمل جفاء أهل الجفاء بهم حتی ضربوا أعلی أمثلة الصمود والتضحية لتنفيذ أحكام الله تعالی، ثم اختاروا الشهادة مع العز، علی الحياة مع الذل، حتی فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.
الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أول الخلفاء المهديين
الإمام المرتضی علي بن أبي طالب: هو أمير المؤمنين وسيد الوصيين وأول الخلفاء المهديين للرسول الأعظم محمد (صلی الله عليه وآله) _بأمر من الله و