يتحدث القرآن عن دور النبي في حياة الأمة، ودور الأمة في رسالة النبي، ومدى انجذابها إلى هذه الرسالة وتعاليمها، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} في حضورك الرسالي الحركيّ المتطلع إلى مواقع الاستجابة أو الرفض لك ولرسالتك، ما يجعلك في مقام من يستطيع تأدية الشهادة أمام الله غداً في ما بلّغتهم إيّاه، وما واجهوه به من رد إيجابي أو سلبي. وهكذا يتحوّل الحضور الرسالي النبويّ إلى موقف للشهادة الحيّة المنفتحة على الواقع كله، والمسؤولة عن تقديم التقرير الكامل عنه إلى الله،{وَمُبَشّراً} المؤمنين بالجنة إذا حركوا العمل الصالح في خط الإيمان، {وَنَذِيرًا} لهم بعذاب الله، وذلك {لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ} أيها الناس في ما يقدّمه إليكم من دلائل الإيمان بالله وبيّنات الهدى {وَرَسُولِهِ} في ما يعرّفكم من مواقع الصدق في دعوته، {وَتُعَزّرُوهُ} أي تنصروه، على أساس أن التعزير يحمل معنى النصر، {وَتُوَقّرُوهُ} أي تعظّموه،{وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} لتعبّروا ـ بالتسبيح ـ عن إحساسكم الداخلي بكل مواقع عظمته، ليكون التسبيح بداية اليوم الذي تستقبلونه، وبداية الليل الذي تلتقون به.
عظمة أخلاق الرسول(ص)
لقد بعث الله الرسول ليفتح عقول الناس وقلوبهم على الحقّ، ويمهّد لهم سبيل الوصول إلى ما يقرّبهم من الصلاح ويبعدهم عن الفساد، ويدعوهم إلى إتباع سبيل الهدى ودين الحق، ليهيمن الإسلام على الواقع ويسيطر على كل طروحات الباطل ذات العناوين الدينية أو غير الدينية، بحيث يصبح في عقلانية عقيدته وواقعية شريعته وتوازن منهجه، هو الطرح الأفضل والأرقى، بحيث يكون الله شاهداً على الدين كله وعلى صدق الرسالة والرسول.
هذا الرسول الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليس أي إنسان اتفق، بل صاحب خلق عظيم، وهذا ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} في رحابة صدرك، ورأفة قلبك، ورحمة إحساسك، ولين كلامك، ورقة شعورك، وحرصك على من حولك، وحزنك عليهم لما يتعرضون له من الآلام وانفتاحك على كل الناس، من أصدقاء وأعداء، بالكلمة التي هي أحسن، والأسلوب الذي هو أفضل، والنصيحة التي هي أقوم، والبسمة التي هي أحلى، والعطيّة التي هي أغلى، والروح التي هي أصفى، والقلب الذي هو أنقى، والقوّة في غير قسوة، والرفق في غير ضعف، والصبر في غير خوف، والتواضع في غير ذل، والعزة في غير كبر.. وهكذا كان الرسولَ الذي تتحرك أخلاقه في عمق رسالته، وتنطلق إنسانيته في ساحة مسؤوليته، وتلتقي شخصيته بكل الآفاق الرحبة في أبعاد حركته.
وبهذا كان التجسيد الحي لكل أخلاقية الرسالة، حتى تحول إلى قرآنٍ يتحرك بين الناس، ليقدم الفكرة بالكلمة، ويعمق الكلمة بالقدوة، فكانت كلماته رسالةً، وكانت أفعاله شريعة، وكان سكوته عما يراه ويسمعه وتقريره له ديناً يدان به، وكانت عظمته في خُلُقه المنفتح على الناس هي نفسها عظمته في نفسه وفي خلقه الرساليِّ الروحيّ في خشوعه لربّه، في كلّ نبضةٍ من نبضات قلبه، وكلّ همسةٍ من همسات روحه، وكل دمعةٍ من دموع عينيه، وكل ابتهالٍ في سبحات الصلاة والدعاء من ابتهالات وجدانه.
الرّسول رمز حيّ للرسالة
هذا الرسول الذي يتسم بالخلق العظيم، ويحمل الرسالة التي تهدي إلى الحق تؤكد رسالته على مبدأ البشرية في شخصية الرسول، فإن اتصاله بالله وصلته بالسماء، لا يعطيه أيّة خصوصيةٍ من خصوصيات الألوهية، ليكون في ذاته سرّ الألوهة، بل يظل في موقع الإنسان الذي يتلقى الوحي من خلال ما يملكه من روحية الرسالة في ذاته، ومن آفاقها الفكرية في عقله، ومن أخلاقيتها السامية الرفيعة في أخلاقه... وتلك هي خصوصية الرسالة، فهي لا تعبر عن أسرارٍ عميقةٍ غامضةٍ في شخصية الرسول، بل تعبر عن التناسب بين شخصيته وشخصية الرسالة، ليكون التجسيد الحيّ لكل مضمونها الفكري والعملي والروحي، ولتكون هي التعبير الحي عن كل صفاته وآفاقه وتطلعاته.. لتظهر الصورة في هذه الوحدة بين الرسالة والرسول، الأمر الذي يجعل اتباع الرسول حركةً واقعيةً في الاتصال بالله واللقاء برضوانه، ما يجعل من العلاقة به علاقةً برسالته، لا لوناً من ألوان الاستغراق في شخصيته والارتباط بذاته، لأن الله لا يريد للناس أن يلتقوا بالرسول من خلال ذاته، بل من خلال أنّه يمثل الرمز الحيّ للرسالة، ليبحثوا في ذاته عن عناصر الرسالة في فكره وروحه وجهاده المتحرك في أكثر من اتجاهٍ.
وعلى هذا الأساس كان الرسول(ص) يمثل الأسوة والقدوة للذين كانوا يرجون الله واليوم الآخر، وهذا ما يتمثل في قوله تعالى:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} في ما يأخذ به أو يدعه من الأفعال والمواقف، لأنه الإنسان الذي تتمثل فيه الصفات المثلى للكمال الإنساني، فقد ربّاه الله التربية الفضلى وأدّبه الأدب العظيم، وصاغ شخصيته أفضل صياغة. وبهذا كان التجسيد الحي للإسلام في كل ملامح ذاته في الجانب الداخلي منها، في ما يحمله في فكره وقلبه وشعوره من طهر الفكرة، ونقاء القلب، وصدق الشعور، وإخلاص النيّة، وفي الجانب الخارجي منها، من الإخلاص لله والعمل بطاعته، والجهاد في سبيله، والإحسان إلى الناس، والصدق في الدعوة، والصبر على آلامها، والانفتاح على الحياة كلها من موقع الرسالة الباحثة عن الخير في كل صعيد، وعن الحق في كل أفق، وعن العدل في كل مجتمع، لتؤكد القيم الأخلاقية الإنسانية الروحية من خلال المعاناة، وليكون رضاه في ما يرضاه الله، وسخطه في ما لا يرضيه، ما جعل عمله سنّةً وشريعةً، كما كان قوله مصدراً لذلك.
وهذا هو الذي خاطب الله به المسلمين الذين كانوا معه، ليعتبروه أساساً لسلوكهم الإيماني وخطهم الإسلامي، بأن يتطلعوا إليه ليرصدوه في كل عمله، لتكون صورتهم صورته، يتأسّون به، ويقتدون به في مواقفه وسجاياه.
وتلك هي ميزة الرسل في شخصيتهم النبويّة، أنهم لا يمثلون الرسالة في الكلمة فقط، بل يجسِّدونها في الموقف، فيرى الناس صورة القيمة الإسلامية في الواقع، كما يسمعونها في الكلمة. وقد كان رسول الله إسلاماً يتحرك على الأرض، فيفهمون الدعوة في سلوكه بعد أن يسمعوها من قوله، ما يوحي لهم بأنها ليست فكراً مثالياً يعيش في عالم المثال وفي آفاق الخيال، بل هي فكر متجسّد في الواقع العملي من شخصية الداعية.
وقد رأى بعض العلماء في هذه الآية إيحاءً بعصمة الرسول(ص)، لأن الله لا يجعل إنساناً قدوةً مطلقة في كل عمله إلا إذا كان عمله صورةً للحق، ومطابقاً للصواب.
وهكذا كانت هذه الآية خطاباً للمسلمين الذين كانوا يجتمعون حول الرسول ويتصرفون بحرّية الذات المشدودة إلى مزاجها، الباحثة عن رغباتها، الغارقة في شهواتها، بعيداً عن المسؤولية في خط الرسالة، وبعيداً عن الجهاد في سبيل الله، فيهربون عندما تبدو أمامهم مواقع الخطر، ويسقطون أمام تحديات العدو.
إنها تريد أن تشدّهم إلى صورة النبي محمد(ص) في ثباته في جهاده، وإخلاصه لربه وقوته في مواجهة العدو، واستهانته بالأخطار المحدقة به، وفي موقفه الصابر في معركة الأحزاب، عندما كان يشجع المسلمين على الثبات، ويشاركهم في حفر الخندق، ويشدّ حجر المجاعة على بطنه، ويبقى في خط التقدم الأوّل، حتى لا يكون أحدٌ أقرب إلى العدوِّ منه.
إنها تريد أن تقدِّم لهم هذه الصورة؛ النموذج الأعلى للإنسان الرسالي الثابت في خط الرسالة، المتحدي في مواجهة العدو