ابنا : وقائع دالة: لكل وسط ابتلاءاته، وربما كان من أبرز ابتلاءات الوسط الديني هو إصابته بالارتخاء، بحيث يفقد العمل خاصية السعي الديني، ويسقط في التكرار، فيتحوّل إلى مجرّد نشاط رتيب لرفع الكلفة. ومن مظاهر هذا الابتلاء الاحتراف، فالكتابة قد تتحوّل إلى عادة، وكذلك الدرس والتبليغ والمنبر، وحينئذٍ يضيع الهمّ الديني أو يتراجع مراتب إلى الوراء، وبه تتضائل الغيرة الدينية ويخبو أوارها. التذكير بالأصوات المرموقة له دوره في بعث الهمّ الديني إلى واجهة العمل في الوسط الإسلامي، وإن كانت المسألة أكثر ما تتوقّف على طبيعة التربية واليقظة الدائمة للإنسان الذي يمارس العمل الديني. ولكن على أيّة حال، فإنّ للعظة دورها، وللذكرى نفعها، وغاية ما أتمناه أن يتحمّلنا القارئ في أن نطوف في حياة علمائنا على بعض مواقف تحكي غيرة الأبرار وحميتهم، ثم ننعطف إلى عالم الشهيد مطهري. نبدأ بواقعة من حياة الملاّ أحمد النراقي (1185- 1245هـ) إذ اشتد في زمانه نشاط الإنجليز التبشيري في إيران، وكان من جملته سفر أحد المسيحيين من الهند إلى شيراز، وهو يحمل اسم هنري مارتين، ويشتهر في إيران بلقب بادري. وصل مارتين إلى شيراز سنة 1811م (1226هـ) وأظهر ميله إلى الإسلام، ثم اعتنقه - ظاهرًا - وبدّل اسمه إلى يوسف. دخل مارتن - بعد إعلان إسلامه الظاهري - إلى المدارس الدينية، وانكبّ على تعلّم العربية والفارسية وثابر على ذلك، ثم درس أطرافًا من العلوم الإسلامية المعروفة في الحوزات، حتى إذا تمكّن في ذلك، شرع بوضع رسالة في نقض القرآن والردّ على نبوّة نبيّنا محمّد (ص). أثارت رسالة مارتين الذي عاد إلى بلده التبشيري، ضجّة في الوسط الإسلامي، ويبدو أنّها جاءت على شكل دراسة مقارنة استفاد فيها الرجل من نصوص أهل الكتاب في الردّ على المسلمين في القرآن والنبوّة. أراد الملاّ أحمد النراقي أن يكشف زيف مارتين من الجذور استنادًا إلى نصوص أهل الكتاب. فذهب إلى «موشه» وهو رجل دين يهودي في كاشان، وثابر بشكل عجيب على تعلّم العبرية، حتى استطاع أن يقرأ التوراة بها. ثم ردَّ على مارتين بكتاب ألّفه يحمل اسم «سيف الأمّة» عاد فيه إلى نصوص أهل الكتاب بلغاتها، وأهمّها العبرية التي تعلّمها لهذا الغرض. لم يكتفِ بذلك بل دعا عشرة من علماء اليهود في كاشان إلى جلسة حوار، وردَّ أمامهم مزاعم هنري مارتين من خلال العودة إلى النصوص العبرية[1]. شواهد كثيرة للهمّ الديني ودوره في تحفيز الطاقات تبرز في حياة الفقيه والمفكّر الشهيد محمّد باقر الصدر، نذكر منها ما يذكره بنفسه، من أنّه أنجز الحلقات الثلاث (أربعة كتب في حوالي 1500 صفحة من القطع الكبير) في تجديد منهج علم الأصول، خلال زمن لا يزيد على الشهرين[2]، في حين نجد أن الكثير من الناس يسوق لك عشرات الحجج والأدلة على ضرورة التجديد في الدرس الحوزوي، أو في وضع رسالة في منهجٍ معيّن، أو الردّ على ظاهرة خاطئة في الفكر والعقيدة، ولكنّه في العمل يتباطأ ويتكاسل، بل يختلق المعاذير، وهذا الكلام ينصرف لأصحاب الكفاءات، لا الادّعاءات، وهم كثير بيدَ أنّهم في استرخاء وتبرير. إنّ من يريد لوجدانه أن يهتزّ ولضميره الديني أن يلتهب حماسًا ويمتلئ باليقظة، له أن يعود في حياة الشهيد الصدر إلى محاضرتيه في كراسة «المحنة» وحديثه عن الألم الذي أخذ يقضّ مضجعه لِما ألمَّ بالعراق خلال المدّ الشيوعي، وكذلك إلى محاضرته الأخيرة في دروسه القرآنية[3]. شاب انفتح على الفكر الآخر المشحون بالشُبَه والإشكالات فقرأه دون قاعدة صلبة، فكانت النتيجة أنه أصيب بالانحراف في إيمانه والشكّ في اعتقاده. أرشدوه في قم إلى الإمام الخميني (قبل نفيه إلى النجف الأشرف)، فما كان من الإمام آنئذ إلاّ أن عطّل درسه ثلاثة أيام وتفرّغ للشاب حين رأى خطورة حاله، خصوصًا في مسألة الشكّ العقائدي. ترك الدرس وتفرّغ للشاب، حتى عادَ به عقائديًا إلى برّ الأمان[4]. ويقينًا إنّ الإمام كان يفكّر وهو يتخلّى عن الدروس ويعطي وقته جميعه لهذا الشاب، بما يروى من قول رسول الله (ص) لعلي بن أبي طالب (ع): "يا علي، لئن هدى الله بك شخصًا خير ممّا طلعت عليه الشمس". ومن مواقف الإمام الخميني أيضًا تصدّيه لمؤلف كتاب «أسرار هزار ساله» (أسرار عمرها ألف عام) بالردّ عليه في كتاب كامل ومستقل حمل عنوان «كشف الأسرار». يقول السيّد أحمد نجل الإمام: قلت للإمام: إنّك كنت عنيفًا في ردّك على الكتاب؟ أجاب الإمام: لم تكن موجودًا لتنظر الهجوم الشرس والإهانة الكبيرة التي كان يتعرّض لها الإسلام من خلال هذا الكتاب. ومحل الشاهد أنَّ الإمام الخميني يذكر أنّه حين عزم على الردّ، عطّل درسه - وهو مجتهد فقيه - شهرين كاملين وانقطع للكتابة[5]. أجل، فالدرس ليس صنمًا ولا يراد لنفسه، وكذا القلم والكتابة والمحاضرة والمنبر، والمجلّة والصحيفة والمذياع، إنّما هي وغيرها جميعًا وسائل لخدمة الدين والمنافحة عن كلمة الله، فحينما يكون ما هو أهم منها تُترك لينهض الإنسان بالأهم. والمسألة بعد ذلك هي مسألة الهمّ الديني والتحرّق على الإسلام. وليس هذه الوقائع سوى إشارات ثمة الكثير مثلها في حياة الأبرار من ذوي الغيرة والحمية الدينية، حيث بمقدورنا أن نرجع من المتأخرين إلى حياة محمّد جواد البلاغي وكاشف الغطاء وشرف الدين والأميني ومحمّد جواد مغنية لنتلمس في وجودهم عمق الهمّ الديني وحضوره الدائم في حياتهم حتى أضحى في الأغلب هو المسيِّر لنشاطهم الفكري والعلمي. البلاغي مثلاً لم يكتف بتعلّم العبرية - على تعقيد هذه اللغة - بل تعلّم الإنجليزية في مثل ظروف النجف قبل أكثر من سبعين عامًا، لكي يردّ على أضاليل المبشّرين وبواكير العقائد المنحرفة التي أطلّت برأسها على ديار المسلمين. وحين لم يجد المال لنشر ما يكتب، باع بيته من أجل أن يطبع الردود، ومع ذلك كان يبتعد عن الشهرة ويهرب بعنف عن الألقاب التي يتراكض وراءها بعضهم، وتخلّى عن الطريق الذي يقوده إلى الرئاسة الدينية، وبقي هكذا إلى آخر أيام حياته. وقائع من حياة مطهري: نبدأ بمثال من حياة الشهيد مطهري يذكّرنا بحمية الأبرار وغيرتهم، إذ يذكر الشهيد محمد جواد باهنر (رئيس الوزراء في رئاسة الشهيد محمد علي رجائي للجمهورية) إن كتابًا صدر - قبل انتصار الثورة - يكيد للإسلام باسم الإسلام ومن خلال التأريخ الإسلامي، فما كان من مطهري إلاّ أن ألحّ على باهنر في أن يعثر له على نسخة من الكتاب. يذكر الشهيد باهنر أنه بذل جهودًا مضنية حتى عثر على نسخة، قام بتصوير نسختين منها، أعطى واحدة لمطهري، واحتفظ بالثانية لنفسه، كي يقوم بمطالعتها وتهيئة الردود عليها. يقول باهنر: مضى على الواقعة أقل من عشرين يومًا، ثم سألني مطهري عمّا فعلت بالكتاب؟ أجبته: تركته جانبًا بانتظار أن تسنح الفرصة لمطالعته إن شاء الله. فما كان من مطهري إلا أن ذكر لباهنر أنه قرأ الكتاب كاملاً (400 صفحة) وكتب عليه (350) ملاحظة نقدية![6]. إنّ كتب الضلال والشبهات والإشكالات تأخذنا اليوم من كلّ جانب؛ بل هي تنزل علينا في عقر دارنا كما ينزل المطر من السماء، ومع ذلك ترى أصحاب الهمة والهمّ الديني قليلين. وربما بمقدور كلّ قارئ لهذه السطور أن يتذكّر واقعة أو أكثر على إهمال ذوي الشأن العلمي لمسؤوليتهم الدينية. فرسالة بعث بها أحدهم بمعية مبحث عقائدي، ظلّت سنوات تمر من يد إلى أخرى، دون أن تجد الهمّة للتعاطي الجاد المسؤول معها[7]. وثمة في هذا المجال عشرات الأمثلة إن لم يكن المئات وأكثر! عودة إلى مطهري الذي أخذ يصرخ وهو يشهد كثرة الفكر الذي تكتبه بعض الأقلام بعنوان كونه فكرًا إسلاميًا، أو تشيعه بـ (ماركة) إسلامية: «باعتباري فردًا تقع عليه مسؤولية إلهية، أحذّر قادة النهضة الإسلامية الأجلاّء، من نفوذ الأفكار الأجنبية وانتشارها تحت عنوان الفكر الإسلامي، وبماركة إسلامية. فهذه أفكار خطيرة تهدّد كيان الإسلام سواء صدرت بسوء نيّة أم بحسن نيّة. وبذلك أتمّ الحجّة بيني وبين الله»[8]. وواقعة أخرى ينقلها هذه المرّة زميله في كلية الإلهيات، الشهيد محمد مفتّح، وهو يقول: كان الوقت بعد الظهر، حيث دخلت على الشهيد مطهري في غرفته. قال وملامح القلق تسيطر عليه: علينا أن نفكّر بحلّ، فالاتجاه المادي يهيمن بشكل عجيب على أذهان شبابنا وعقولهم.. ماذا يجب أن نعمل؟ أخذ يريني بعض الكتابات ممّا كان قد وضع خطوط تحتها، وهو يقول بحزن وانفعال: انظر! هذه الجماعة تعمل لضرب التوحيد باسم التوحيد، وتواجه الدين وتشوّه معارف الإسلام باسم التوحيد. يضيف مفتّح: والله، كان يقول ذلك وهو يرتجف من شدّة التأثّر والأذى[9]. في رسالة تاريخية - هي تاريخية بمعنى الكلمة - نشرت للتوّ، كان قد بعث بها الشهيد مطهري إلى الإمام الخميني عندما كان الإمام في النجف الأشرف. نجد أن محتوياتها مملؤءة غيرة على الإسلام، وحمية على ما يؤذي المسيرة. في هذه الرسالة التي كان قد بعث بها مطهري إلى الإمام الخميني في النجف سنة 1978، تحدّث بشكل منهجي ومفصّل عن الاتجاهات التي تضرب الإسلام أو تضرّ به، وقد حصرها في أربعة اتجاهات، ثم تحدّث عن معاناته وما يتجشمه من أذىً من هؤلاء وهم يحملون عليه بتهم متعددة (رجعي، وبعضهم يصفه أنّه وهابي وسنّي!)، وهو يقول: هذه المجموعات الأربع تهاجمني بعنف وتبثّ حولي الشائعات، لكوني - وإلى حدٍّ ما - من أهل الفكر والنظر والبيان ومن حملة القلم، ويرمونني بالأكاذيب والافتراءات.. بيدَ أني بحمد الله وعناية الأئمة لن أدع للخوف مسربًا إلى نفسي. وإذا كنت أقول هذا الكلام، فإني لا أشتكي إلاّ لمثل جنابك وأنت أستاذي الجليل وبمثابة أبي. إنّ هجوم هؤلاء المكثّف يحوطني من كلّ جانب، فإذا كنت تأمرني أن أثبت وأصمد فسأفعل ذلك، وإذا أمرتني بأن أمضي جانبًا فسأمتثل أمرك»[10]. لقد دفع ثمن مواجهته لهذه الجماعات المنحرفة التي تأتي على قواعد الفكر التوحيدي باسم التوحيد، باهضًا. يقول تلميذه الشهيد مـحلاتي: قال يومًا لعدد من أصدقائه في بيته: سأبقى أواجه هؤلاء، وربما قتلوني، ولكني لن أحيد عن قولي فيهم، لأنّهم يمثلون خطرًا على الدين[11]. كان يعني جماعة «فرقان» التي يقول في وصفها نصًّا: هذه الجماعة خطرة لأنّها تعبث بالقرآن. وليس من تجاوز على الأموال، أو يتطاول على العلم، كمن يعتدي على حرمة الوحي[12]. أخيراً آل الأمر إلى ما توقّع، حين دبَّرت له «فرقان» حادث الاغتيال وأردته مضمخًا بدمه. لماذا أكتب؟ سنقتصر في هذه الفقرة على نصّين، يشير الأول إلى المثابرة التي كان يتحلّى بها الشهيد مطهري في الدراسة، وعدم الاقتصار على مقررات المنهج الحوزوي، حيث امتد اهتمامه إلى ما يشغل الساحة الإيرانية وما يهدِّد الفكر الإسلامي، فوجد أنه
المصدر : خاص ابنا
الأحد
١ مايو ٢٠١١
٧:٣٠:٠٠ م
239547