وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ـ ابنا ـ في سياق الرد على السرديات التي تحاول تجريد الثورة الإسلامية من أصالتها الفكرية وربطها بمدارس أجنبية، يقدم كاتب هذا المقال قراءة نقدية منهجية تفند ما طرحته الباحثة الدكتورة فاطمة الصمادي - في حوار نُشر مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي - حول هيمنة فكر «سيد قطب» على قادة الثورة، موضحاً بالدلائل استقلال المدرسة الثورية الشيعية وتمايزها الجذري عن أطروحات الإخوان المسلمين:
بقلم: محمد حسين الواسطي
وصلني من أحد الأحبة مقطع مرئي مستلّ من حوار أجري مع الدكتورة فاطمة الصمادي - وهي باحثة أردنية تعمل مع مركز الجزيرة للدراسات في قطر - تتحدث فيه عن «التأثير الشديد» الذي تركه المفكر المصري الإخواني سيد قطب في وجدان قادة الثورة الإسلامية في إيران، مشيرةً إلى أن الزاد الفكري الذي نهل منه رجالات الثورة كان في جوهره سنيّاً إخوانياً، وأن هذا الأثر القطبي - بنزعته الثورية وموقفه الحاد من الغرب - لا يزال حاضراً بوضوح في خطاب قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) وهو مستمر حتى يومنا هذا. ومن ضمن ما قالته حرفياً ما يلي:
١. «سيد قطب شديد التأثير ليس فقط في إيران، لكن في إيران كان تأثيره في القيادات الفكرية والسياسية أثر كثيراً».
٢. «المنتج الفكري الذي تغذى عليه مجموع رجالات الثورة الإسلامية في إيران هو منتج فكري سني. يعني منتج الإخوان الذي في مصر والدول العربية».
٣. «في مذكراته آية الله منتظري يتحدث عن حلقات فكرية كانت تُعقد لمناقشة هذه الكتب والأفكار».
٤. «بسبب البعد الثوري في طرح سيد قطب وشخصيته وموقفه من الغرب أثر جداً».
٥. «آية الله علي خامنئي إلى اليوم [يمكن أن يُلمح فيه] هذا الإعجاب بشخصية سيد قطب. حتى عندما يتحدث إلى الشباب، هو يستحضر تجربة سيد قطب في الغرب، في أمريكا مثلاً».
٦. «إذا [عدنا] إلى ملامح خطاب خامنئي تجاه الغرب [سنجد] ملامح مشتركة من موقف سيد قطب».
لقد أشارت في هذه المقابلة إلى أكثر من نقطة وادعاء فاقد للتوثيق والتدليل العلمي والأكاديمي أودت إلى ظهور إسقاطات نابعة من ذهنية خاصة بها على الواقع، ولوي لعنق الحقيقة حتى تكون في خدمة المدعى بأي قيمة ممكنة.
إنني أتساءل بدايةً: يا ترى هل كان المنتج الفكري للثورة الإسلامية في إيران «سنياً» أو متأثراً بشكل جوهري من فكر «الإخوان المسلمين السنة»؟
من الواضح لكل مطّلع على تاريخ الفكر الشيعي عموماً، وتاريخ الثورة الإسلامية في إيران خاصةً أن هذا التحليل مبالغ فيه بشكل كبير جداً، وفيه اختزال هائل لتاريخ الفكر الشيعي السياسي.
فالقول بأن المنتج الذي تغذى عليه قادة الثورة هو «منتج سني» يتجاهل قروناً من التراكم الفقهي والأصولي الشيعي الذي مهد لولاية الفقيه.
فالواقع يطلعنا بأن الثورة الإسلامية في إيران قامت أساساً على نظرية «ولاية الفقيه» التي طورها فقهاء الشيعة منذ عصر غيبة الإمام المهدي (الإمام الثاني عشر من آل بيت رسول الله) وإلى يومك هذا حتى وصلت النوبة إلى الإمام الخميني (رضوان الله عليه) في النجف الأشرف، وهي نظرية فقهية شيعية خالصة تستند إلى آيات القرآن الكريم والتراث الحديثي المنقول عن السنة النبوية وأحاديث أهل بيته وما أنتجته مصادر الفقه الجعفري والعلوم الإسلامية المحيطة به.
فكتابات الإمام الخميني (مثل: كتاب «الحكومة الإسلامية») لا تجد فيها استناداً إلى سيد قطب أو البنّا في تأسيس نظرية الحكم، بل استناداً إلى القرآن، السنة، ونهج البلاغة، وتراث العلماء الشيعة السابقين (مثل: النراقي والنائيني وغيرهم). وكذلك كتابات الشهيد المطهري - وهو المنظّر الفكري والفلسفي الأول للثورة - كان ينتقد أحياناً بعض الأطروحات «الالتقاطية» التي تحاول دمج الماركسية بالإسلام أو تأخذ من مدارس أخرى دون تمحيص.
فكره كان فلسفياً إسلامياً أصيلاً (ينبع من مدرسة الفقه الجعفري وعلم الكلام الإمامي ومدرسة الحكمة المتعالية لصدر المتألهين الشيرازي).
نعم، كان هناك اطلاع على فكر الإخوان، لكن القول بأن «المنتج الفكري الذي تغذوا عليه هو منتج سني» هو مبالغة تهدف - ربما دون وعي أو بوعي - إلى نزع الأصالة عن الفكر الثوري الشيعي وتصويره كمستورد.
النقطة الأخرى التي أثارتها الباحثة في حوارها المذكور آنفاً كانت بخصوص حجم تأثير سيد قطب (بين الإعجاب والتأثر المنهجي) حيث كانت محقة في جزئية وجود «اهتمام» بكتب سيد قطب، لكنها تخلط بين «الترجمة والإعجاب بالأدبيات الثورية» وبين «تبني المنهج العقائدي والسياسي».
نعم، سماحة الإمام الخامنئي ترجم بالفعل كتباً لسيد قطب (مثل «المستقبل لهذا الدين» و«الإسلام ومشكلات الحضارة»). لماذا؟ لأن سيد قطب في تلك الفترة كان يمثل صوتاً إسلامياً يواجه التغريب والاستعمار الثقافي، وهي نقطة التقاء مع الثوار الإيرانيين ضد الشاه.
لكن السؤال الجوهري هنا هو: هل تبنى قادة الثورة مفهوم «الحاكمية» و«الجاهلية» كما طرحها قطب (التي تكفر المجتمعات)؟ كلا. الفكر السياسي للثورة الإيرانية يختلف جذرياً عن فكر «التكفير والهجرة» أو الصدام مع المجتمع الذي تولد من رحم أفكار قطب لاحقاً. الثورة الإسلامية في إيران سعت لاستيعاب الجماهير لا تكفيرها.
سماحة الإمام الخامنئي نفسه في مقدماته للترجمات كان يثني على الروح الحركية والبيان القرآني عند قطب، وليس بالضرورة تبني كل تفاصيل عقيدته! الإعجاب كان بـ «المفكر الإسلامي المقاوم» وليس بـ «مؤسس السلفية الجهادية الحديثة»!
النقطة الأخرى التي تطرقت إليها الباحثة في حديثها كانت حول التشابه في الموقف من الغرب؛ حيث تشير إلى أن خطاب الإمام الخامنئي تجاه الغرب فيه ملامح من سيد قطب. والنقد الذي أوجهه لها أن محاولة الربط هذه سطحية. نقد الغرب (الاستكبار) في فكر الثورة الإسلامية في إيران ينبع من جوانب متعددة؛ من أبرزها:
أولاً: تجربة إيران المريرة مع الاستعمار (بريطانيا وأمريكا).
ثانياً: مفاهيم قرآنية أصيلة (الاستكبار ضد الاستضعاف).
ثالثاً: فلسفة الفكر الإسلامي الشيعي - بكل تياراته الكلامية والفلسفية والعرفانية والفقهية - التي ترى في المادية الغربية مارداً شيطانياً معادياً لله، قبل الفطرة البشرية ومبادئها.
علينا أن ننتبه بأن سيد قطب انتقد الغرب من زاوية «الجاهلية المادية». بينما انتقده الإمامان الثائران الخميني والخامنئي من زاوية «الظلم والاستكبار السياسي والهيمنة».
التشابه موجود في النتيجة (رفض الهيمنة الغربية) لكن المنطلقات مختلفة. اختزال عداء الثورة للغرب بأنه تأثر بقطب يلغي - بمنتهى التسطيح والتمييع - التجربة السياسية الإيرانية الخاصة.
يؤسفني القول بأننا إذا تفطنا إلى خلفية هذه الباحثة ومكان عملها فسوف نخلص إلى أنها جانبت الصواب في أكثر من نقطة، لعل أهمها ما يلي:
١. محاولة «أخونة» الثورة؛ فهناك ميل لدى بعض الباحثين العرب (خاصة في الدول المناوئة لإيران) لربط الثورة الإسلامية الإيرانية بجماعة الإخوان المسلمين.
الهدف السياسي من ذلك غالباً هو: (أ): ضرب عصفورين بحجر: شيطنة الإخوان بربطهم بإيران، وشيطنة إيران بالقول إنها مجرد نسخة شيعية من الإخوان (الذين ترميهم بعض الدول بالإرهاب). (ب): القول بأن الشيعة ليس لديهم فكر سياسي أصيل ومتطور في الوقت نفسه، فاضطروا للاستعارة من أهل السنة!!
٢. تضخيم الهامش وتهويل الحواشي لتكون أكبر وأضخم من النص؛ فالباحثة هذه تأخذ حقيقة صغيرة (ترجمة بعض الكتب) وتجعلها الأساس الذي قام عليه «مجموع رجالات الثورة». من المعلوم أنها خطوة غير علمية، ولا تمت إلى التحليل العلمي الاجتماعي أو السياسي المتزن بأي صلة. فإن فكر الحوزة العلمية في قم والنجف، والإرث الفقهي العظيم، إلى جانب الفلسفة الإسلامية، والعرفان، وسيرة الأئمة الأطهار (ع) - لا سيما في مدرسة عاشوراء - كلها كانت الروافد الأساسية، وكتب الإخوان كانت مجرد «قنوات مائية فرعية جداً» للاطلاع على تجارب الآخرين.
المضحك المبكي في هذا التحليل أنه يتجاهل تماماً المفكرين الإيرانيين والمنظرين الشيعة الذين كان لهم التأثير الفعلي على الجماهير الثائرة في إيران وفي خارجها ممن تابع أحداث الثورة الإسلامية وما أنتجته من أدبيات جديدة غير مألوفة في العالم الإسلامي، ويقع على رأسهم: العلامة الشهيد مرتضى المطهري، ذاك الفيلسوف والمفكر الإسلامي الذي أرسى الأسس الفكرية للثورة في إيران، وكذلك المرجع الديني العراقي الثائر السيد الشهيد محمد باقر الصدر الذي كان له تأثير عميق على الفكر السياسي الشيعي قاطبة، والدكتور علي شريعتي ذلك المفكر الاجتماعي الإيراني المسلم الذي ترك بصمات انطبعت في وجدان جيل الثورة بشبابه وشيوخه، حتى وصلت أصداء صوته إلى أقصى القرى والأرياف العربية خارج نطاق إيران. وأخيراً - وليس آخراً - الأديب والروائي المخضرم السيد جلال آل أحمد المناضل ضد الغزو الثقافي الغربي - لا سيما في كتابه الشهير «غربزدگی» (التأثر السلبي بالغرب) الذي صاغ فيه خيوط النقد الإيراني للغرب. وفكر هؤلاء بأسرهم يختلف جذرياً عن فكر سيد قطب!
واللطيف هنا: الاعتماد على مصدر واحد يُراد له أن يختزل المشهد بأسره، فينظر إليه وكأنه أوثق عرى التوثيق التاريخي للثورة بعظمتها وتشعباتها! حيث اعتمدت الباحثة على مذكرات منتظري (الذي أصبح معارضاً للنظام لاحقاً) كمصدر رئيسي يثير تساؤلات، خاصة أن هناك وثائق وخطابات الإمام الخميني الأصلية المتاحة، ومذكرات قادة الثورة الآخرين تقدم صورة مختلفة، والأرشيف الإيراني يحتوي على مواد أكثر تمثيلاً.
وأخيراً أقول: د. فاطمة الصمادي باحثة أردنية تميزت بكونها من القلائل الذين درسوا في الداخل الإيراني، حيث حصلت على الدكتوراه في العلوم السياسية من «جامعة العلامة الطباطبائي» في طهران. إلا أن المفتاح لفهم طرحها يكمن في المدرسة البحثية التي تنتمي إليها، والتي تميل غالباً إلى مقاربات «الإسلام السياسي» بشقه السني الحركي.
هذا المزج بين الخلفية الفكرية والدراسة في طهران قد يفسر المنهجية التي تلح على إثبات أن الثورة الإيرانية تدين بفضل فكري لرموز الإخوان (مثل سيد قطب)، وهو طرح يؤدي عملياً إلى تأكيد «أستاذية» الفكر السني الحركي ومركزيته حتى في قلب التجربة الشيعية.
وعلينا ألا ننسى أنها تعمل حالياً باحثة أولى في «مركز الجزيرة للدراسات» في الدوحة، وهو منبر بحثي يُعرف بتبنيه لخطاب داعم لتيارات معينة في المنطقة. وجودها في هذا الموقع يجعل تحليلاتها متناغمة مع الأجندة التي تسعى لتوحيد «الهم الإسلامي الحركي» أو إيجاد مقاربات سياسية بين إيران والحركات الإسلامية السنية. لذلك، عندما تتحدث عن تأثير سيد قطب، فهي لا تسرد تاريخاً مجرداً، بل تمارس نوعاً من «التأصيل السياسي» الذي يخدم رؤية المؤسسة التي تعمل بها، والتي تهدف غالباً إلى القول بأن الخلاف الطائفي سياسي، وأن الأصول الفكرية الثورية واحدة (وهي أصول الإخوان)، مما يسهل تسويق مشاريع سياسية مشتركة أو تبرير تحالفات معينة.
فمن المهم للقارئ العربي المنصف ألا يكتفي بهذه التحليلات الصحفية المنقوصة، وألا يتعود - في محاولاته لفهم الآخر - الأخذ عمن لا ينتمي إلى ذلك الآخر.
فكيف يُعقل أن تكون منصفاً فتأخذ مواقف زيد من عمرو الذي يخالفه في كل صغيرة وكبيرة؟! ويكفينا تجربة «الفرق بين الفرق» للبغدادي أو «مقالات الإسلاميين» للأشعري، ومدى الدقة والموضوعية التي تحليا بهما عند استعراض آراء من يخالفون، والكم الهائل من المدعيات والمتخيلات التي نسبوها لمذاهب متعددة لا تشترك معهم في الرؤية العقائدية، وهي عارية عن الصحة تماماً.
..................
انتهى / 232
تعليقك