الخاتمة
محور هذا البحث هو إثبات وجود مصحف الإمام علي(ع)، والمراد به القرآن الذي قام بجمعه أمير المؤمنين(ع) بعد وفاة رسول الإنسانية(ص)، ومصحف الإمام علي(ع) يختلف عن مصحف فاطمة(س)، والجامعة، وغيرهما من الكتب والمصاحف التي تنسب للصحابة.
وقد اتضح من خلال البحث أن الإمام علي بن أبي طالب(ع) هو أول من جمع القرآن الكريم بعد رحيل النبي(ص)، فقد قام بجمع وتدوين القرآن الكريم في مصحف واحد بعد وفاة الرسول الأعظم(ص) خلال ثلاثة أيام، وقد ورد في مصادر الإمامية اثنتا عشرة رواية على الأقل وخمس عشرة رواية على الأكثر تدل على وجود المصحف العلوي، فيها روايتان صحيحتان، كما ورد في مصادر أهل السنة أيضاً اثنتا عشرة رواية على الأقل وست عشرة على الأكثر تدل على المطلوب، فيها ثلاث روايات صحيحة على الأقل، فاتضح أن مجموع الروايات الدالة على وجود المصحف العلوي هو أربع وعشرون على الأقل وإحدى وثلاثون على الأكثر، وهذا كافٍ في تحقيق التواتر؛ وبذلك يكون مصحف الإمام علي(ع) قد ثبت بالدليل القطعي وهو الروايات المتواترة الواردة في مصادر الفريقين، وقد ذكرنا في أثناء البحث أدلة أخرى على وجود المصحف العلوي كالتسالم ودليل العقل إلا أن الروايات المتواترة تمثل أقوى الأدلة على إثبات وجوده.
وقد تطرقت بعض الروايات إلى سبب إقدام الإمام علي(ع) على جمع القرآن الكريم ألا وهو وصية النبي محمد(ص) له بجمعه بعد وفاته، كما بيّنت الروايات أموراً أخرى قد يكون لها مدخلية في الإقدام على جمع القرآن مثل خشية تحريف القرآن ووقوع الفتنة، والقسم واليمين على جمعه، وغير ذلك، إلا أن السبب الرئيسي في إقدام الإمام علي(ع) على جمع القرآن في مصحف واحد هو تنفيذ وصية النبي(ص)، وما ذكر من أسباب أخرى كالطيرة وتشاؤم الناس بعد وفاة الرسول الأعظم(ص)، وخشية فتنة الناس، فهو إنما يحكي عن الأجواء والظروف التي كانت سائدة عند كتابة المصحف العلوي.
وقد اتضح من خلال البحث أن الإمام علياً(ع) كان هو المباشر الوحيد لعملية جمع القرآن الكريم، وقد كتبه في مرحلتين؛ إذ أنه كتبه بإملاء رسول الله(ص) أول الأمر، ثم جمعه ورتبه في مصحف واحد بعد وفاة الرسول الأكرم(ص)، فكانت حقيقة مادة المصحف العلوي تتمثل في نص القرآن الكريم الذي كتبه(ع) عن فم رسول الله(ص)، وأمور أخرى قد ذكرها(ع) لتفسير القرآن الكريم، ولعل الأنسب كتابتها بالأسلوب الهامشي إلا أن الروايات ساكتة عن بيان طريقة التدوين، لكن الدليل قد قام على أنه(ع) قد دوّن القرآن على وفق نزوله.
وقد ذكرنا في طيات البحث أن الزيادات الموجودة في المصحف العلوي والتي امتاز بها عن القرآن المتداول اليوم لم تكن زيادات في نص القرآن الكريم، كما أنها بأجمعها لم تكن من سنخ الأحاديث القدسية، بل إن تلك الزيادات كانت من قبيل التفسير والتوضيح للقرآن الكريم سواء كانت من الحديث القدسي أو غيره، فهي معلومات ترتبط بالقرآن الكريم قد تعلمها علي(ع) من رسول الله(ص)، أو عايشها عند نزول القرآن على النبي(ص).
أما المدة التي كتب فيها المصحف العلوي فقد اختلفت الأقوال فيها بين ثلاثة أيام وسبعة أيام وستة أشهر، وقد رجحنا الثلاثة أيام؛ لأن أدلتها أقوى اعتباراً.
وهناك عدة خصائص للمصحف العلوي قد دلت عليها روايات الفريقين كترتيبه على حسب نزول القرآن الكريم، وهناك من شكك في ثبوت هذه الخصيصة وقد ناقشناه وأثبتناها، وسردنا الأدلة المختلفة الدالة على ذلك، ومن تلك الخصائص الاشتمال على التنزيل، والتنزيل يتصور على عدة معان قد تطرقنا إليها ورجحنا المعنى المناسب المقابل للفظة التأويل، ومن الخصائص أيضاً تقديم المنسوخ على الناسخ، وقد عبر بعض الباحثين عن هذه الخصيصة بالإشتمال على الناسخ والمنسوخ لكننا رجحنا في طيات البحث عنوان تقديم المنسوخ على الناسخ؛ نظراً لقيام الدليل على ذلك، ولأنه ينسجم مع الخصيصة الأولى وهي كتابة المصحف العلوي على حسب ترتيب النزول، ومن خصائص المصحف العلوي أيضاً أنه كان بإملاء النبي(ص)وكتابة الوصي(ع)، وأنه أول جمع للقرآن الكريم بعد وفاة النبي(ص)، كما أن هناك جملة من الخصائص قد اقتصرت مصادر الإمامية على ذكرها فقط ولم تتطرق إليها المصادر الروائية لأهل السنة من قبيل الاشتمال على التأويل، وبيان المحكم والمتشابه، أي أن الإمام علياً(ع) قد وضحهما وبينهما في مصحفه المبارك ولم يقتصر على إيرادهما فقط، ومن الخصائص التي اختصت مصادر الإمامية بذكرها أيضاً ذكر أسماء أهل الحق والباطل، والاشتمال على تفاصيل الأحكام، وأنه مصحف كامل لم يسقط منه حرف واحد.
وبعد أن اكتمل هذا المشروع العملاق وتم الجمع العلوي، قام الإمام علي(ع) بعرض المصحف على الخلافة إلا أنها أعرضت عنه، فاحتفظ به(ع)، وقد ظل المصحف العلوي ينتقل من يد أمينة إلى يد أخرى لأئمة الهدى، فانتقل من يده(ع) إلى يد الإمام الحسن(ع) ثم الإمام الحسين(ع) إلى أن وصل إلى إمام عصرنا المهدي المنتظر(عج)، فإذا ُأذِن له بالظهور، خرج وأظهر المصحف العلوي وجرت به السنة.
وهذا المعنى لا يعني أن القرآن العثماني المتداول محرف، بل اتضح من خلال البحث وجود نقاط مشتركة بين المصحف العلوي والمصحف المتداول اليوم، منها الكمال وعدم التحريف، وإمضاء الأئمة(ع) لهما، وصحة قراءتيهما، وقد بذل الإمام علي(ع) جهوداً فعّالة بالنسبة لهما، فكانت قراءة كل منهما تنتهي إليه(ع)، بل ذهب البعض إلى القول بأن علياً(ع) قد كتب نسختين، إحداهما عرضها على الخلافة وهي موضوع بحثنا، والأخرى كُتِبَ على أساسها المصحف العثماني، لكننا ذكرنا خلال البحث أن الأدلة لا تنهض بالدلالة على تعدد نسخ المصحف العلوي، وهناك نسخ متعددة للقرآن الكريم في الكثير من متاحف العالم قد كتب عليها أنها قد كتبت بخط علي بن أبي طالب(ع)، لكنها مغايرة لمصحف الإمام علي(ع) الذي هو موطن بحثنا، كما لم تثبت نسبتها إليه(ع)؛ نظراً لأن خطه المبارك لم يصلنا بطريق قطعي، فكيف نعرف أن تلك المصاحف قد كتبت بخطه المبارك. إنّ كتابته(ع) لتلك المصاحف وإن كان محتملاً، لكن لم يقم الدليل على إثبات ذلك.
وعلى العموم اتضح من خلال البحث الخسارة الكبرى التي حلت بالأمة الإسلامية من جراء غياب المصحف العلوي عنها بسبب إعراض الخلافة عنه، لكن الثمرة من كتابته تبقى على الرغم من إخفائه؛ إذ أنه يشكل مصدراً من مصادر علوم الأئمة(ع) اللذين تنهل الأمة من فيض معين علومهم الدّفاقة.
والهدف من هذا البحث إثبات هذه الحقيقة النورانية المتمثلة في قيام والد الأئمة الأطهار بأول عملية جمع للقرآن الكريم بعد رحيل الرسول الأعظم(ص)، فالبحث يثبت هذه الأسبقية، ويثبت وجود أحد أهم مصادر علوم أئمة أهل البيت(ع)، ألا وهو المصحف العلوي، ومن هنا تتضح الأهمية البالغة لهذا البحث، والثمرة الكبرى التي تترتب عليه.
والنتيجة التي توصلنا إليها ونؤكد عليها مراراً وتكراراً أن وجود هذا المصحف المبارك قد ثبت بالدليل القطعي لكلا الفريقين، فقد دلت الروايات المتواترة عند الشيعة الإمامية وأهل السنة على وجوده، وهذه الحقيقة لا تقبل الإنكار لمن فتح عين بصيرته وآثر الإنصاف.
من هنا أتوجه إلى الباحثين وطلاب الحقيقة آملاً التأمل في مطالب هذا البحث، وكلي أمل في أن يتوسع الباحثون في الحيثيات المختلفة التي تطرق إليها البحث، ويرفدوني بملاحظاتهم وآرائهم حتى يتحقق التكامل، وتحصل الغاية المنشودة، والله ولي التوفيق، وعليه توكلنا وإليه المصير، نعم المولى ونعم النصير.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للسير على خطى آل بيت محمد(ص)، والتزود بعلومهم، كما نبتهل إليه عز وجل أن يحشرنا معهم، ويرزقنا شفاعتهم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
------------
انتهی/125
خاص ابنا