أشارت الروايات إلى الكثير من خصائص مصحف الإمام علي(ع)، بعض هذه الخصائص قد ذكرتها مصادر الإمامية وأهل السنة معاً، فلذلك سنذكرها في الفصل الأول، وبعضها قد إختصت مصادر الإمامية بذكره، وسنذكرها في الفصل الثاني، ولكن قبل الشروع في كلا الفصلين، لابد من ذكر مقدمة هي أشبه بالتمهيد، وهي في بيان الطريقة والمنهج الذي سنسلكه في التعاطي مع روايات المصحف العلوي لكي ننتزع منها الخصائص وغير ذلك من المباحث التي ترتبط بالمصحف العلوي، فنقول:
إن الروايات المتواترة تثبت لنا أصل وجود مصحف الإمام علي(ع)، لكن الروايات الدالة على كل خصيصة من خصائص المصحف العلوي ليست متواترة، فلابد من ملاحظة سندها ودرجة إعتبارها، والحال إن الكثير منها ضعيف السند، فهل تسقط الرواية فيسقط مدلولها حينئذ أو لا؟ والجواب:
إن الرواية الضعيفة ليس معناها أنها موضوعة ومزيفة، وانما معناها أن الدليل لم يقم على إعتبارها، فلايصلح الإحتجاج بها بمفردها، لكن يمكن أن نضم إليها غيرها لكي نحتج بها.
إذن الرواية الضعيفة لايمكن أن تنضم لغيرها للإحتجاج إذا ثبت أنها موضوعة، كما أن الرواية الواحدة قد يثبت أن بعضها موضوع إلا أن بعضها الآخر ليس بموضوع، فوضع بعضها لايسقط قابلية الإحتجاج ببعضها الآخر غير الموضوع إذا انضم إلى غيره.
إذن المنهج المتبع في التعاطي مع روايات المصحف هو تحصيل الإطمئنان من خلال تجميع القرائن التي تدل على المطلوب، ولايضيرنا أن تكون القرائن قد وردت في رواية ضعيفة السند إلا اذا قام الدليل على وضعها، وهذه نقطة مهمة للباحثين في التاريخ وغيره، فالبحث الفقهي يختلف عن البحث التاريخي؛ إذ أن الفقه والأحكام كانت مورد عناية الأئمة والرواة؛ فلذلك وصلتنا الكثير من الروايات الصحيحة، بخلاف التاريخ فقد تصدى لكتابته الكثير من الحكام ووعاظ السلاطين، فالمنهج التاريخي يعتمد على تجميع القرائن الموجبة للإطمئنان.
ومن المعلوم أن أخبار المصحف العلوي ليست من الروايات الفقهية، بل من روايات التاريخ وعلوم القرآن فلابد من تلمس القرائن الموجبة للإطمئنان، ولانرد الرواية بمجرد ضعف سندها، أو وضع بعضها، فمثلاً أكثر روايات المصحف العلوي في مصادر أهل السنة تثبت أن الإمام علياً(ع)، قد بايع أبابكر طوعاً، وهذا مخالف لما عليه الإمامية من أنه لم يبايع، وإذا بايع فعن إكراه بعد شهادة فاطمة الزهراء(س)، مما يكشف عن أن هذا المقطع موضوع في رواياتهم، لكن نفس هذه الروايات تثبت المصحف العلوي، فهل نطرحها بمجرد وضع بعضها؟!
كلا، نظراً لأن مضمونها موافق للروايات الواردة من طرق الإمامية التي تثبت وجود المصحف العلوي، وهذا ما سنجري عليه في بحث الخصائص وغيره، فسنحاول تجميع القرائن التي لم يثبت وضعها، فإذا حصل الإطمئنان إلتزمنا بها نظراً لحجية الإطمئنان.
وإليكم الآن خصائص المصحف العلوي التي ذكرتها مصادر الإمامية وأهل السنة معاً، وهي:
1- ترتيب المصحف على وفق النزول:
من المسلم به بين الشيعة والسنة أن الإمام علياً(ع)، قد رتب القرآن الكريم في مصحفه على حسب ترتيب نزوله، لا على حسب طول حجم السورة كما هو الحال في المصحف العثماني المتداول اليوم، وإليكم بعض كلمات علماء الفريقين الدالة على ذلك:
أ- كلمات علماء الشيعة:
1- الشيخ المفيد(ت413هـ): (وقد جمع أمير المؤمنين(ع) القرآن المنزل من أوله إلى آخره، وألفه بحسب ما وجب من تأليفه، فقدم المكي على المدني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كل شيء منه في محله)(1)، فتقديم المكي على المدني وغيره يدل على ذلك.
2- الشيخ البلاغي(ت1352هـ): (من المعلوم عند الشيعة أن علياً أمير المؤمنين(ع) بعد وفاة رسول الله(ص) لم يرتدِ برداء إلا للصلاة حتى جمع القرآن على ترتيب نزوله، وتقدُّم منسوخه على ناسخه)(2).
3- السيد شرف الدين(ت1277هـ): (أول شيء دونه أمير المؤمنين كتاب الله عز وجل، فإنه (ع) بعد فراغه من تجهيز النبي(ص) ، آلى على نفسه أن لا يرتدي إلا للصلاة، أن يجمع القرآن، فجمعه مرتباً على حسب النزول)(3).
4- السيد الطباطبائي(ت1402هـ): (بعدما ارتحل النبي(ص) إلى الرفيق الأعلى جلس علي(ع)- الذي كان بنص من النبي أعلم الناس بالقرآن - في بيته حتى جمع القرآن في مصحف على ترتيب النزول) (4)، وقال في تفسير الميزان مانصه: (قد ورد عن علي انه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي(ص) أخرجه ابن أبي داود وهو من مسلمات مداليل روايات الشيعة)(5)، فلاحظ كيف أشار صاحب الميزان إلى أنه من مسلمات مداليل روايات الشيعة، وستلاحظ فيما يلي، كيف أن ابن كثير قد فهم من رواية السجستاني أن المصحف العلوي مرتب على حسب النزول، على الرغم من أنه قد شكك في سند الروايات الدالة على أصل وجود مصحف الإمام علي(ع).
ب- كلمات علماء السنة:
1- محمد بن جزي الكلبي(ت741هـ):(قعد علي بن أبي طالب(ع) في بيته فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير) (6).
2- اسماعيل ابن كثير(ت774): (وقد روي أن علياً(ع) أراد أن يجمع القرآن بعد رسول الله(ص) مرتباً بحسب نزوله أولاً فأولاً كما رواه(7) ابن ابي داود)(8)
3- ابن الخطيب(809هـ): (فمنهم من رتبه على ترتيب نزوله، كعلي(ع)، فقد كان أول مصحفه: سورة اقرأ، ثم المدثر، ثم نون، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي، فالمدني)(9).
4- ابن حجر العسقلاني(ت852هـ): (أن تأليف مصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ولم يكن على ترتيب النزول ويقال ان مصحف علي كان على ترتيب النزول أوله اقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني والله أعلم)(10).
إذن قد اتضح من هذه الكلمات لكلا الفريقين أن كون ترتيب المصحف العلوي مرتباً على حسب النزول من المسلمات بين الفريقين، بل إننا نجد تسليم هذه الخصوصية حتى ممن شكك في أحاديث المصحف العلوي كابن كثير وابن حجر، فعلى الرغم من تشكيكهم في دلالة الروايات على المصحف، لكنهم يسلمون بهذه