في هذا الفصل نريد أن نتطرق إلى الروايات التي تشير إلى تواجد المصحف العلوي عند الأئمة في مختلف العصور، فهو قد انتقل من إمام إلى إمام إلى أن وصل إلى مولانا صاحب العصر والزمان المهدي من آل محمد(ص) أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، ولا نريد التطرق إلى جميع الروايات الواردة ومناقشتها(33)؛ لأن ذلك يوجب الإطالة التي نحاول تجنبها، بل سنحاول الإقتصار على ذكر رواية أو روايتين تدلل على وجود المصحف في البين، فإليكم تاريخ المصحف العلوي عبر العصور المختلفة ولنبدأ برسول الإنسانية(ص):
1- المصحف العلوي في عهد الرسول الأعظم(ص):
تدل رواية القمي على وجود ما جمعه علي بن أبي طالب(ع) مكتوباً في زمن رسول الله (ص)، فقد خاطب النبي(ص) علياً(ع) قائلاً: (يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة فانطلق علي(ع) فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال: لا أرتدي حتى أجمعه فإنه كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه)(34)، كما دلت رواية سليم على ذلك فقد جاء فيها: (وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في الصحف والشظاظ والأسيار والرقاع)(35)، وكذلك جاء من طريق العامة ما رواه جبلة بن سحيم عن أبيه عن أمير المؤمنين(ع) قال: (لو ثنيت لي الوسادة وعرف لي حقي لاخرجت مصحفاً كتبته واملاه علي رسول الله)(36)، فإذا كان مملي المصحف رسول الله(ص)، فلاشك ولاريب أن المصحف العلوي كان موجوداً في عهده، ونريد بذلك أنه كان مكتوياً بشكل متفرق، ولم يجمع علي(ع) القرآن الكريم في مصحف واحد إلا بعد وفاة الرسول الأكرم(ص).
2- المصحف العلوي في عهد خلافة أبي بكر بن أبي قحافة:
أكثر الروايات الواردة حول المصحف العلوي في مصادر أهل السنة تتكلم عنه في أوائل بيعة أبي بكر وخلافته، وسنكتفي بذكر روايتين من مصادر أهل السنة ورواية من مصادر الإمامية ليرى القاريء الفارق في المضمون بين المصدرين، فإلى الروايات:
أ- ما رواه ابن أبي شيبة حيث قال: (لما استخلف أبو بكر قعد علي في بيته فقيل لأبي بكر، فأرسل إليه: أكرهت خلافتي؟، قال: لا، لم أكره خلافتك، ولكن كان القرآن يزاد فيه، فلما قبض رسول الله (ص) جعلت عليّ أن لا أرتدي إلا إلى الصلاة حتى أجمعه للناس، فقال أبو بكر: نعم ما رأيت)(37).
ب- ما رواه ابن الضريس حيث قال: (لما كان بعد بيعة أبي بكر، قعد علي بن أبي طالب في بيته، فقيل لأبي بكر: قد كره بيعتك. فأرسل إليه، فقال: أكرهت بيعتي؟ فقال: لا والله، قال: ما أقعدك عني؟ قال: رأيت كتاب الله يُزاد فيه، فحدّثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمعه، فقال له أبو بكر: فإنك نعم ما رأيت. قال محمد: فقلت له: ألّفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا)(38).
ج- ما رواه العياشي في تفسيره حيث قال: (فلما قبض نبي الله(ص) كان الذي كان لما قد قضى من الاختلاف وعمد عمر فبايع أبا بكر ولم يدفن رسول الله(ص) بعد، فلما رأى ذلك علي(ع) ورأي الناس قد بايعوا أبا بكر خشي أن يفتتن الناس ففرغ إلى كتاب الله و أخذ يجمعه في مصحف فأرسل أبو بكر إليه أن تعال فبايع فقال علي: لا أخرج حتى أجمع القرآن، فأرسل إليه مرة أخرى فقال: لا أخرج حتى أفرغ فأرسل إليه الثالثة ابن عم له يقال قنفذ، فقامت فاطمة بنت رسول الله(ص) عليها تحول بينه وبين علي(ع) فضربها، فانطلق قنفذ وليس معه علي(ع) فخشي أن يجمع علي الناس فأمر بحطب فجعل حوالي بيته ثم انطلق عمر بنار فأراد أن يحرق على علي بيته وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فلما رأى علي ذلك خرج فبايع كارها غير طائع)(39)
3- المصحف العلوي في عهد خلافة عمر بن الخطاب:
دلت بعض الروايات على أن عمر بن الخطاب قد طلب المصحف العلوي من أمير المؤمنين علي(ع) في أيام خلافته، إلا أن الإمام علياً(ع) رفض تسليمه مصحفه خشية تمزيقه أو إتلافه، فلذلك سلم المصحف العلوي من التلف، وإليكم بعض الروايات:
أ- ما جاء في رواية الطبرسي: (فلما استخلف عمر سأل علياً(ع) أن يدفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم، فقال: يا أبا الحسن إن جئت بالقرآن الذي كنت قد جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه، فقال(ع): هيهات ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم، ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا ما جئتنا به، إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي)(40).
ب- ما جاء في رواية سليم والطبرسي أيضاً في احتجاج الإمام الحسن(ع) على معاوية، فقد جاء فيها: (يا معاوية، إن عمر بن الخطاب أرسلني في إمارته إلى علي بن أبي طالب(ع): (إني أريد أن أكتب القرآن في مصحف، فابعث إلينا ما كتبت من القرآن). فقال(ع): تضرب والله عنقي قبل أن تصل إليه. فقلت: ولم؟ قال(ع): لأن الله يقول: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ}(41)، يعني لا يناله كله إلا المطهرون. إيانا عنى، نحن الذين أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا. وقال:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(42)، فنحن الذين اصطفانا الله من عباده ونحن صفوة الله ولنا ضربت الأمثال وعلينا نزل الوحي. قال: فغضب عمر وقال: إن ابن أبي طالب يحسب أنه ليس عند أحد علم غيره)(43).
4- المصحف العلوي في عهد خلافة عثمان بن عفان:
من المعروف والمعلوم أن عثمان بن عفان قد أتلف وأحرق مصاحف الصحابة(44) ووحدها في مصحف واحد، أطلق عليه المصحف الإمام، ثم نسخ عدة مصاحف على غراره، وبعث بها إلى الأمصار، لكن المصحف العلوي قد نجا من الحرق بلا إشكال، وهناك عدة أدلة تدلل على ذلك، لكننا سنقتصر على ذكر رواية واحدة؛ وذلك رعاية للإختصار، وهي:
ما جاء في رواية سليم الهلالي في جواب الإمام علي(ع) لطلحة عندما سأله في أيام حكومته أن يخرج للناس المصحف العلوي، حيث قال طلحة: (وقد شهدت عثمان حين أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب وحمل الناس على قراءة واحدة ومزق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار. فما هذا؟ فقال أمير المؤمنين(ع): يا طلحة، إن كل آية أنزلها الله في كتابه على محمد(ص) عندي بإملاء رسول الله(ص) وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد(ص) وكل حلال أو حرام أو حد أو حكم أو أي شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول الله وخط يدي حتى أرش الخدش - إلى أن يقول- قال طلحة: ما أراك - يا أبا الحسن - أجبتني عمّا سألتك عنه من أمر القرآن ألا تظهره للناس؟ قال(ع): يا طلحة، عمدا كففت عن جوابك. قال: فأخبرني عمّا كتب عمر وعثمان، أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال(ع): بل هو قرآن كله، إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة، فإن فيه حجتنا وبيان أمرنا وحقنا وفرض طاعتنا. فقال طلحة: حسبي، أما إذا كان قرآنا فحسبي. ثم قال طلحة: فأخبرني عمّا في يديك من القرآن وتأويله وعلم الحلال والحرام، إلى من تدفعه ومن صاحبه بعدك؟ قال(ع): إلى الذي أمرني رسول الله(ص) أن أدفعه إليه. قال: من هو؟ قال: وصيي وأولى الناس بالناس بعدي، ابني هذا الحسن)(45)، فنلاحظ في الرواية أن الإمام علياً(ع) يصرح في أيام حكومته أن المصحف عنده وسيدفعه إلى وصيه الإمام الحسن(ع)، وقد أشار إلى طلحة أن يقرأ القرآن الذي جمعه عثمان، مما يدلل على أن المصحف العلوي قد نجا من حرق عثمان.
5- المصحف العلوي في عهد حكومة الإمام علي(ع):