أسباب جمع المصحف العلوي في مصادر الإمامية
بالتأمل والتفكير يمكننا التوصل إلى العديد من الأسباب التي دعت الإمام علياً(ع) إلى المبادرة إلى جمع القرآن الكريم بعد رحيل رسول الله’ عن دار الدنيا، لكننا هنا نريد الإقتصار على خصوص الأسباب التي يمكن أن نستلهمها ونستوحيها من النصوص الواردة بشأن المصحف العلوي، وكلمات العلماء بشأنه، وسنتكلم في هذا الفصل عن الأسباب التي يمكن أن ننتزعها من ثنايا خصوص مصادر الإمامية، وسنحاول الإشارة فيما بعد إلى كل خصوصية وردت في الروايات ويحتمل أنها يمكن أن تشكل سبباً لإقدام الإمام علي(ع) على جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، فالأسباب كما يلي:
1- وصية النبي(ص):
أكثر الروايات الواردة في مصادر الإمامية، قد أكدت على هذه الحقيقة، وهي أن النبي(ص) لم يترك الأمة سدى، بل أوصاها بعدة وصايا، كما أنه قد أوصى بجمع وتدوين القرآن، وقد عهد بذلك إلى صهره وابن عمه علي بن أبي طالب(ع)، وقد تقدمت الروايات الدالة على ذلك، وإليكم بعض مايشير إلى وصيته’ لعلي(ع) بجمع القرآن:
أ- ما جاء في رواية القمي: (إن رسول الله(ص) قال لعلي: يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة فانطلق علي(ع) فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال: لا أرتدي حتى أجمعه فإنه كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه.)(1).
ب- ما جاء في رواية المسعودي: (ألّف(ع) القرآن، وخرج إلى الناس وقد حمله في إزار معه، وهو ينط من تحته، فقال لهم: هذا كتاب الله قد ألفته كما أمرني وأوصاني رسول الله(ص) كما أنزل)(2).
ج- ما جاء في رواية فرات على لسان الرسول(ص): (يا علي لا تخرج ثلاثة أيام حتى تؤلف كتاب الله كي لا يزيد فيه الشيطان شيئاً ولا ينقص منه شيئاً)(3)
د- ما جاء في رواية الصدوق على لسان الرسول(ص): (فبماذا أوصي علياً؟ أوليس كتاب ربي أفضل الأشياء بعد الله عز وجل والذي بعثني بالحق لئن لم تجمعه باتقان لم يجمع أبداً)(4).
هـ- ما جاء في رواية الطبرسي: (لما توفي رسول الله(ص) جمع علي(ع) القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول الله(ص)(5).
نلاحظ أن أكثر هذه الروايات تصرح بلفظ الوصية كرواية الطبرسي، والصدوق، والمسعودي، وبعضها ظاهر بشكل كبير في الوصية كرواية القمي، وفرات، إذ تضمنا أمراً من النبي لعلي(ع) بجمع وتدوين القرآن، بحيث أنه(ص) قد نهاه عن الخروج ثلاثة أيام- كما في رواية فرات- إلى أن يجمع القرآن، وهذا هو أكثر سبب للجمع قد تطرقت له روايات الشيعة، كما أن بعض روايات أهل السنة قد تطرقت له، وسيأتي ذلك في الفصل الثاني، ولذلك سنعتبر أن السبب الرئيسي لجمع المصحف العلوي هو وصية النبي(ص)؛ نظراً لدلالة أكثر روايات الإمامية عليه، كما أن روايات السنة والشيعة قد دلت عليه أيضاً، وأما الأسباب الأخرى كاليمين وغيره كما سيأتي، فإنما هي آثار للسبب الأساسي، فهي أشبه بالنتائج التي ترتبت على وصية النبي(ص) لعلي بجمع القرآن الكريم في مصحف واحد، ويؤيد ذلك أن بعض الروايات قد تطرقت إلى أكثر من سبب وذكرت الوصية أولاً، فبعضها ذكر الوصية وما يشبه اليمين كما يستوحى ذلك من رواية القمي المتقدمة، وبعضها ذكر الوصية وإلقاء الحجة كما في رواية الطبرسي المتقدمة، فقد جاء في ذيلها: (إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم)(6)، مما يشير إلى أن سبب الإقدام الرئيسي على جمع القرآن كان هو وصية النبي(ص)، لكن علياً(ع)، حلف أن لايخرج أو لايرتدي برداء إلا بعد جمع القرآن لكي يمتثل وصية الرسول(ص)، ثم ألقى الحجة على القوم، وهكذا ترتبت بقية الأسباب على العمل بوصية النبي(ص).
2- القسم واليمين:
أكثر روايات أهل السنة أشارت إلى هذا السبب وستأتي في الفصل الثاني، لكن القليل من روايات الإمامية قد أشار إلى هذا السبب، وإليكم بعض مايشير إلى ذلك:
أ- ما جاء في المقطع الأول من رواية سليم: (إني لمشغول وقد آليت نفسي يمينا أن لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه)(7).
ب- ما يشبه ذلك مما ورد في رواية الطبرسي: (وفي اخبار أهل البيت(ع) انه آلى ان لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه)(8)، فقد يستظهر أن سبب الجمع العلوي هو اليمين والقسم، وإن كنا نعتقد أن السبب الحقيقي هو وصية النبي(ص) وحفظ القرآن الكريم لا ما ذُكِرَ.
3- خشية فتنة الناس:
تشير بعض الروايات إلى الأحداث التي جرت بعد رحيل الرسول الأعظم(ص)، وما حصل للناس، بحيث خشي الإمام علي(ع) أن تقع الفتنة بين المسلمين، فعمد إلى جمع كتاب الله لصيانة الأمة، ومن الروايات الدالة على ذلك ما جاء في رواية العياشي:
(فلما قبض نبي الله(ص) كان الذي كان لما قد قضى من الاختلاف وعمد عمر فبايع أبا بكر ولم يدفن رسول الله(ص) بعد، فلما رأى ذلك علي(ع) ورأي الناس قد بايعوا أبا بكر خشي أن يفتتن الناس ففرغ إلى كتاب الله و أخذ يجمعه)(9)، وهذا السبب قد ورد أيضاً في روايات العامة كما سيأتي، و لكن بتعبير آخر، وهو الخشية من إنقلاب القرآن أو إنفلاته.
4- إقامة الحجة:
تفيد بعض النصوص أن أمير المؤمنين(ع) جاء بمصحفه لكي يحتج على الخلافة وعلى الناس؛ ولذلك لما طلبوا ماجمعه مرة أخرى بعد أن أعرضوا عنه، لم يظهر الإمام(ع) مصحفه لهم مرة ثانية؛ لأن الغاية من ذلك قد تمت وهي الإحتجاج على القوم، وهذا المضمون مختص براوايات الإمامية، ولم يرد في روايات أهل السنة، وإليكم بعض الروايات الدالة عليه، وهي كما يلي:
أ- ما ورد في المقطع الأول من رواية سليم: (قال لهم علي(ع): لئلا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته)(10).
ب- ما جاء في احتجاجه على عمر حينما قال له: (يا أبا الحسن إن جئت بالقرآن الذي كنت قد جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه، فقال(ع): هيهات ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم، ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)(11).
ج- ما جاء في رواية الصفار على لسان علي(ع): (أما والله لا ترونه بعد يومكم هذا أبداً إنما كان عليّ أن أخبركم به حين جمعته لتقرؤوه)(12).
د- ما جاء في رواية ابن شهرآشوب: (فحمل(ع) الكتاب وعاد بعد ان ألزمهم الحجة)(13)، وهذا التعبير وإن لم يرد هنا على لسان الإمام(ع)، بل على لسان ابن شهرآشوب، إلا أنه مستلٌ من الروايات الدالة عليه.
5- التفرغ لكتاب الله بعد خذلان الأمة:
بعض الروايات يشير إلى أن خذلان الأمة أوجب جلوس علي(ع) في بيته وتفرغه لكتابة القرآن، كما هو ظاهر رواية سليم بن قيس: (فلما رآى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه)(14)، لكننا لايمكن أن نلتزم أن التفرغ أو الخذلان هو سبب الإقدا