سنتطرق إلى روايات أهل السنة الواردة حول مصحف الإمام علي(ع)، وغير ذلك في عدة مباحث كما يلي:
المبحث الأول: الروايات التي تثبت وجود المصحف العلوي في مصادر أهل السنة:
الروايات التي تتحدث عن المصحف كثيرة، وهي على طائفتين: الأولى تتحدث عن جمع القرآن بشكل عام، ولنسمها بالروايات العامة، والثانية تتحدث عن مصحف الإمام علي(ع) بشكل خاص، ولنسمها بالروايات الخاصة؛ فالبحث عن الطائفتين سيكون في قسمين:
القسم الأول: الروايات العامة:
عمدة البحث، هو الروايات الخاصة، فلذلك لانريد الإطالة في الروايات العامة التي هي بمثابة المؤيد للروايات الخاصة، وسنذكر على سبيل المثال ثلاث روايات:
1- الرواية الاولى: مارواها ابن عبد البر(ت463هـ) في الإستيعاب، قال: (وروى ربيعة بن عثمان، عن محمد بن كعب القرضي، قال: كان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله(ص) وهو حي عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود من المهاجرين، وسالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة مولى لهم ليس من المهاجرين)(1)
لكن هذه الرواية قد يحمل الجمع فيها على الحفظ، خصوصاً أنها قد أثبتت اللفظ لعدد من الصحابة على عهد رسول الله(ص) كعثمان بن عفان، ومن المسلّم أنهم لم يدونوا القرآن في مصحف واحد في زمن الرسول(ص)، فإما أن يُراد بالجمع تدوين القرآن في صحف وكتابات متفرقة، أو الحفظ عن ظهر قلب، وهذان المعنيان لايثبتان مرادنا من المصحف العلوي.
2- الرواية الثانية: مارواها الخوارزمي(ت568هـ) في المناقب(2)، قال: (وأنبأني أبو العلاء الحسن بن أحمد هذا، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار الصيرفي - قراءة - أخبرني عبد العزيز بن علي الأزجي إجازة، أخبرنا أحمد بن محمد بن موسى المجبر، حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد، حدثني الحسن بن العباس الجمال، حدثنا إبراهيم بن عيسى، حدثنا يحيى بن يعلى، عن حبوة بن حميد بن هاني بن حميد بن هاني، عن علي بن رباح قال: جمع القرآن على عهد رسول الله(ص) علي بن أبي طالب وأبي بن كعب)(3).
وقد رواها أيضاً الحاكم الحسكاني في الشواهد، ولكن هكذا: (أخبرنا أبو سعيد المعاذي قال: أخبرنا أبو الحسين الكهيلي، قال: أخبرنا أبو جعفر الحضرمي قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى بن عبد الله التنوخي قال: حدثنا يحيى بن يعلى، عن حياة بن شريح عن حميد بن هانئ: عن علي بن رباح قال: جمع القرآن على عهد رسول الله(ص) علي، وأبي)(4)، وهذه الرواية أيضاً قد تحمل على الحفظ في الصدور أو التدوين في كتابات متفرقة من دون جمعها في مصحف واحد على الرغم من أن كلاً من علي(ع)، وأبي، كان لهما مصحف معروف، إلا أن هذين المعنيين واردان أيضاً، وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال، فلا يتم المطلوب، فهذه الرواية غير صريحة في إثبات المصحف العلوي، لكنها قد تؤيده.
3- الرواية الثالثة: وهي ما رواها الحنفي القندوزي في ينابيعه(5)حيث قال: (وقد ثبت عند علماء الطريقة ومشايخ الحقيقة بالنقل الصحيح والكشف الصريح أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) قام على المنبر بالكوفة وهو يخطب، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله بديع السماوات والأرض وفاطرها – إلى أن قال- أنا السيف المسلول، أنا الشهيد المقتول، أنا جامع القرآن، أنا بنيان البيان، أنا شقيق الرسول، أنا بعل البتول)(6)، والرواية تصرح بجمعه(ع) للقرآن الكريم، ولو حُمِل معنى الجمع هنا على الحفظ لكان المعنى مستهجناً، لأن الإمام علياً(ع) كان في مقام بيان مميزاته التي اختص بها من دون الصحابة، ككونه أخاً للرسول(ص)، وزوجاً للبتول(س)، ومن المعلوم أن الكثير من الصحابة كانوا يحفظون القرآن على عهد رسول الله(ص) كما مر علينا في الرواية الأولى (7)، فيتحتم أن يكون المراد من الجمع في الرواية هو تدوين القرآن في مصحف واحد، وهذا ما امتاز به علي(ع) على سائر الصحابة.
إذن هذه الرواية , وغيرها من رواية الجمع تدل على أن أمير المؤمنين(ع) كان قد جمع القرآن الكريم، ولنسلط الضوء الآن على روايات القسم الثاني؛ إذ أنها أوضح في المراد.
القسم الثاني: الروايات الخاصة:
ولنبدأ بالمصادر الأقدم فالأقدم وصولاً إلى المصادر المتأخرة، من دون تكرار، وإذا تكرر لفظ الرواية، وكان السند مختلفاً، فسنذكر الأسانيد المتعددة بعد ذكر الرواية بسندها الأول، نعم لو وردت روايات بمضمون واحد إلا أن متونها وأسانيدها مختلفة، فسوف نجعلها متغايرة؛ نظراً لتغاير الأسانيد والمتون معاً، وبذلك تتعدد الروايات، وإليكم روايات أهل السنة التي تطرقت لجمع علي(ع) للقرآن، أو مصحف الإمام علي(ع):
1 - الرواية الأولى: روى الصنعاني(ت211هـ) في مصنفه(8)، بهذا السند: (عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة قال: لما بويع لأبي بكر تخلف علي في بيته، فلقيه عمر، فقال: تخلفت عن بيعة أبي بكر؟ فقال: إني آليت بيمين حين قبض رسول الله (ص) ألا أرتدي برداء إلا إلى الصلاة المكتوبة، حتى أجمع القرآن، فإني خشيت أن يتفلت القرآن، ثم خرج فبايعه)(9)
شواهد التنزيل: (وحدثونا عن أبي العباس بن عقدة قال: حدثنا الحسن بن عباس قال: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن أيوب: عن عكرمة قال)، وذكر مثله(10)، لكن في ذيل الحديث(فإني خشيت أن ينقلب القرآن)(11)
ومن الملاحظ أن روايات المصحف العلوي السنية تحاول إثبات أن الإمام علياً(ع) بايع أبابكر عن محض إختياره، ماعدا الرواية الرابعة والثانية عشرة كما سيأتي، لكنها تثبت أنه(ع) قد تأخر عن بيعته، وتحاول تبرير ذلك بتشاغله(ع) بجمع القرآن، بينما روايات المصحف العلوي الشيعية، تنفي بيعته لأبي بكر طوعاً، وإذا كانت هناك بيعة، فعن إكراه بعد شهادة فاطمة الزهراء(س)، وعلى العموم، فهذه الرواية، تدل على أن الإمام علياً(ع)، قد تشاغل بجمع القرآن بمعنى تدوينه بعد رحيل الرسول(ص)، ولامعنى لحمل الجمع على الحفظ هنا، إذ أن الإمام علياً(ع) كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله(ص) كما تقدم في الروايات العامة، فكيف يتفرغ لحفظه مرة أخرى، بل إنه انكب على تدوينه وتفرغ لكتابته، بحيث أنه- بمقتضى هذه الرواية- لم يخرج لبيعة أبي بكر، فسأله عمر.
إذن الرواية الأولى تامة الدلالة على إثبات وجود المصحف العلوي، لكن الملاحظ وجود التشابه الكبير بينها وبين أغلب الروايات الآتية(12)، مما يوهم أن الجميع رواية واحدة، مع أنه يوجد إختلاف بينها في المتن أو السند، ولذلك سنشير إلى الفوارق، وهي كما يلي:
الرواية الأولى جاء فيها لفظ(الصلاة المكتوبة)، وُعِلل الجمع بالخشية من انقلاب القرآن، والراوي هو عكرمة، بينما الرواية الثانية يرويها محمد بن سيرين، وجاء فيها لفظ(الصلاة)، وذكر فيها مقولة لابن سيرين في المصحف العلوي، وأما الرواية الثالثة فيرويها محمد بن سيرين أيضاً، بلفظ(الصلاة) أيضاً، لكن فيها إمضاء أبي بكر لجمع علي(ع)، كما قد ُذكر فيها أن علة قيام الإمام علي(ع) بجمع القرآن هي خشيته أن ُيزاد فيه، بينما الرواية الخامسة التي يرويها ابن سيرين أيضاً لاتذكر لفظ الصلاة، وإنما تذكر أنه(ع) حلف أن لا يرتدي حتى يجمع القرآن، كما أن الرواية السابعة التي يرويها عكرمة و ابن سيرين وغيرهما جاء فيها لفظ (جمعة) أو (صلاة الجمعة)، وأما الرواية الثامنة فيرويها عبد خير، ويذكر أن سبب الجمع هو مارآه علي(ع) في الناس من طيرة(أي تشاؤم) بعد وفاة رسول الله(ص)، بينما الرواية العاشرة المروية عن عبد خير أيضاً، تذكر أنه(ع) أقسم أو حلف أن يجمع مابين اللوحين، من دون ذكر الطيرة، وأما الرواية الحادية عشرة، فيرويها كثير بن أفلح، ويذكر أن سبب الجمع، هو خشية علي(ع) من أن يزاد في القرآن، فهذه بعض الفوارق بين هذه الروايات على سبيل الإجمال.
ولنرجع إلى الرواية الأولى، فهي واضحة الدلالة في أن الإمام علياً(ع)، جاء بيمين(أي أقسم وحلف) حين وفاة الرسول(ص)، أن لا يرتدي برداء (وهذه كناية عن الإهتمام وسرعة العمل)، حتى يجمع القرآن خشية انقلابه(أي تحريفه عمّا هو عليه)، فالرواية واضحة في مباشرة الجمع بمعنى تدوين القرآن، لكن قد يقال: إنها غير واضحة في إنتهاء الجمع، لكن هذا الإحتمال غير وارد؛ إذ أن الإمام علياً(ع) قد أقسم على تدوين القرآن لكي لاتناله يد العابثين، وقد عاش فترة طويلة بعد وفاة الرسول(ص)، وكان شديد الحرص على متابعة العمل وسرعته بحيث أنه لم يرتدِ، أي لم يخرج، لأن العرب كانت تلبس العمائم، وترتدي الرداء، فنفهم من ظاهر الرواية، أنه(ع) قد أتم جمع القرآن، وبذلك تكون الرواية واضحة الدلالة على إثبات وجود المصحف العلوي. هذا من ناحية الدلالة، وأما من ناحية السند، فبعد ملاحظة رجال السند الواردين في مصنف الصنعاني، نجد أن الرواية صحيحة السند عند أهل السنة، لأنهم يوثقون رواتها(13).
إذن الرواية الأولى تامة السند والدلالة، فيثبت المطلوب، وهو إثبات جمع الإمام علي(ع) للقرآن الكريم في مصحف؛ ولذلك لاحاجة إلى مناقشة أسانيد باقي الروايات بمقتضى الصناعة العلمية؛ لأن الروايات الواردة من طرق أهل السنة متواترة بشأن المصحف، خصوصاً إذا ضممنا إليها الروايات الواردة من طرق الشيعة، ولو تنزلنا وأنكرنا التواتر، فالرواية الأولى صحيحة السند عند أهل السنة فضلاً عن غيرها كالرواية ال