المبحث الثالث: الحلقة الثانیة؛صفات الإنسان و قصوره
مر أن التأكید علی ضعف الإنسان و قصوره من النقاط الأساسیة التي تتكرر في نص الدعاء ،سیما قبل الطلب من الله ،قبال صفات الله و أفعاله التي تشیر إلی جلاله و عظمته و تفضله علی العباد .و نبحث في باب صفات الإنسان و قصوره في المحاور التالیة علی أساس نص الدعاء:
عجز الإنسان في شكر نعم الله وإحصاءها
هناك عبارات عدة في دعاء عرفة تثبت أن الإنسان عاجز عن شكر نعم الله و إحصاءها ففي عبارة « فأيّ نعمك یا إلهي أحصي عددا و ذكرا أم أي عطایاك أقوم بها شكرا و هي یا رب أكثر من أن یحصیها العادّون أو یبلغ علما بها الحافظون».
إن الإستفهام في هذه العبارة إستفهام إنكاري ،ویقصد الإمام (ع) من ذلك أن نعمك و عطایاك خارجة من دائرة العدّ و الإحصاء و لا یمكن لأحد أن یحصیها ویشكرها مهما كان حتی اذا كان نبیا او وصیا أعرف من كافة البشر بعجزهم في أحصاء نعم الله و شكرها ،وهم یرون أنفسهم في حالة العجز و الفقر إلی الله أكثر من الآخرین ،فكلما كثرت المعرفة بالله زاد مدی الشّعور بفقره و حاجته إلی الله(48)
و ذكر نعم الله و عجز الإنسان عن شكر هذه النعم مكرر في هذا الدعاء ،وقد یكون ذلك تمثیلا و إطاعة لأمر الله في الآیة القرآنیة المباركة: « و أما بنعمة ربك فحدث »(49)،لذلك یشیر الإمام (ع) الی نعم الله المادیة و المعنویة في أرجاء الدعاء ،وهو معترف بأن نعم الله غیر قابلة للإحصاء بسبب وفرتها ومن یتأمل العالم یجد أن إحصاء نعم الله متعذر علی البشر ،فعلی سبیل المثال یتكون جسم الإنسان من 10 ملایین خلیة حیة لكل واحدة منها دور معین و هذا جزء صغیر من مجموعة لا متناهیة من نعم الله . فإذا كان إحصاء النعم غیر ممكن فكیف یمكن كعبد ضعیف ،شكر كل هذه النعم. لذلك یأتي الإمام (ع) بهذه العبارة من دعاء عرفة « و لو رفدني علی قدر ذكر نعمتك جمیع العالمین من الأولین و الآخرین ما قدرت ولا هم علی ذلك ،لا تحصی الآؤك ،ولا یبلغ ثناؤك ،ولا تكافیء نعماؤك»
و بعد أن أكد الإمام (ع) في فقرات عدة علی أن نعم الله لم و لن تحصی، استشهد علی كلامه بالآیة القرآنیة: « و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» و ردّ الإمام إحصاء النّعم بالكامل بعد أن قال إذا اجتمع الأولون و الآخرون من العالمین لا یستطیعون أن یعدوا نعم الله وهذا تحدّ وتاكید علی إمتناع هذا الأمر علی كل حال.
و الأمر الآخر الذي یدل علی إمتناع شكر نعم الله و ما یشیر إلیه الإمام (ع) بالعبارة التالیة: « أن لو حاولت و اجتهدت مدی الأعصار و الأحقاب لو عمرتها أن أودي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك ،إلّا بمنك الموجب عليّ به شكرك أبدا جدیدا ،و ثناء طارفا عتیدا »
إن التوفیق شكر نعم الله نعمة أخری و علی كلّ نعمة شكر واجب عقلا إذن كل شكر یوجب شكراً آخر علی توفیق الشكر ،ومع هذا فكیف یمكن أن نشكر النعم التي لا تحصی و شكر هذا الشكر و هذا محال..؟
ویستشهد الإمام (ع) علی العجز عن شكر نعم الله في كل حال من الأحوال بــ 41 مورداً و أغلب هذه الشهادات هي بأعضاءه و جوارحه كـ « اساریر صفحة جبیني و خرق مسارب نفسي وخذاریف مارن عرنیني و مسارب سماخ سمعي، وما ضمت واطبقت علیه شفتاي » و هو بالتالي یقرّ بأنه لو أراد و اجتهد علی أن یؤدي شكر نعمة واحدة من أنعمه ،لعجز عن ذلك .ومن اللطیف أن ما یستشهد به الإمام (ع) أي أعضاءه و جوارحه وغیرها هي نعم الله ،وهو یرید أن یشكر نعمه أیضا بنعمه ،ولذلك یؤكد في نص الدعاء أن هذا الشكر أیضا بحاجة إلی شكر جدید ،وثناء طارف عتید بإعتبار أن هذا الشكر رحمة من الله علی عبده .
و مما یستشهد به الإمام (ع) "حقیقة ایماني و عقد عزمات یقیني و خالص صریح توحیدي " و یظهر هذا الإستشهاد بالحقیقة مقابل المجاز و الإیمان مقابل الإسلام و العزم الراسخ مقابل العزم المتزعزع والتوحید الخالص مقابل الریاء و الشرك .إن الأمور المذكورة مفتاح الإبتهال و الإبتهاج و الدعاء ،ولایمكن استجابة الدعاء بمعناه الكامل إلا مع توفر الشروط المذكورة"(50)
و یشیر الإمام (ع) إلی هذا المفهوم و هو أن الإنسان مهما عمّر مدی الأعصار و الأحقاب ،لا یمكن له أن یؤدي شكر نعمة واحدة من هذه النعم و "الأحقاب حسب ما روي عن الإمام الصادق (ع) تعادل ثماني حقب و الحقبة الواحدة تعادل ألف سنة . إذن تصل كمیة الأحقاب إلی 000/040/23 یوم"(51)
و السؤال الذي یطرح نفسه حول الضرورة التي تستوجب علی الإمام (ع) أن یذكر هذه النعم بالتفصیل من خلال الدعاء و الجواب هو أن " معرفة نعم الله سلم لمعرفة خالقه ،ولذلك نری في سورة الرحمن أن الله یذكر النعم" ثم یأتي بعبارة « فبأي آلاء ربكما تكذبان» [و الله بهذا الإستفهام یطلب إعتراف العبد و إقراره علی النعم التي وهبها لعباده ،وعلی عظمته عزوجل ومن وراء ذلك إطاعة الله وعبادته لنعمه ،ستكون فرضا علی العبد] و یقبح كفران النعمة مع المعرفة بها و الإتكال علی الله و انكار نعمه أقبح(52)
أفعال الإنسان و تقصیره
و یقع في مقابل نعم الله و عطایاه التي لا تحصی و التي هي تفضل من الله علی العباد، أفعال الإنسان و هي لا تعدو أن تكون قاصرة عن رد الجمیل و عن شكر نعم الله ،هذا ما یختص بعباد الله المؤمنین و أما ما عدا المؤمنین فإن اكثرهم غافلون عن ذكر الله ولكن كیف یمكن تأویل هذا المفهوم بالنسبة إلی الإمام المعصوم الذي لا یصدر منه إلا الخیر ،ولا یعصي الله علی كل حال ،هل یرتكب عملا ینافي أمرالله لیقول في هذا الدعاء « امرتني فعصیتك و نهیتني فارتكبت نهیك» قد قیل «إن حسنات الأبرار سیئات المقربین»(53) فقد یصدر عمل من عبد صالح یستوجب الحسنة و الجزاء من الله ،ونفس هذا العمل حینما یصدر من أولیاء الله یكون بمثابة قبح ،و لا یعني ذلك أن الإمام (ع) یرتكب الكبائر و الصغائر من الذنوب ،فإن الإمام (ع) لا یخرج عن طاعة الله في كل الأمور بل قد یكون ما یقصده الإمام (ع) هو الإنشغال بأمور الدنیا التي لا بد منها ،و الإمام یعتبر نفسه بهذا الإنفصال عاصیا و عاملا بالمناهي ،لدرجة معرفته بحقائق الأمور.(54)
و التقابل بین أفعال الله و أفعال العبد یظهر بصورة جلیة في عبارة الإمام (ع) في الدعاء. « یا من عارضني بالخیر و الإحسان و عارضته بالإساءة و العصیان»
إن رد الإحسان لا یكون بالعصیان والإسائة بل بالإحسان عقلا ،لكن الإنسان یعارض نعم الله و احسانه و یقابلها بالطغیان و العصیان ،و مع ذلك لا یقطع الله فضله عن العبد ،ولا یحرمه لهذه الإسائة رحمة منه و لا یعاقبه بل یكفّر عنه سیئاته إذا أناب ،و ذلك خیر دلیل علی لطفه وكرمه و رحمته .والفرق بین الإسائة و العصیان هو أن الإسائة مأخوذة من السوء من دون أن تحمل معنی العصیان أو الطغیان والعصیان مرحلة عالیة من الإسائة حیث تستوجب العقاب ،لذلك قال القرآن الكریم « فعصی فرعون الرسول »(55) و لذا عاقبه الله(56).
وفي عبارة « یا من قل له شكري فلم یحرمني و عظمت خطیئتي فلم یفضحني » یشیر الإمام (ع) إلی قلّة شكر العباد لنعم الله و كما أسلفنا فإن هذا المفهوم موجود في القرآن الكریم في آیة « و قلیلا ما تشكرون»(57) وهذه صفة العبد و هي أنه قلیل الشكر لنعم الله ،و أنه مهما شكر النعم لم یبلغ مقدارا من الشكر الذي یكافيء تلك نعم ، بل یبقی الشكر قلیلا و كذلك یشیر في نفس العبارة إلی صفة الله عزوجل كالستر مع عظم خطیئة العبد و رغم قلّة شكر العبد لله لكنه لم یحرمه العبد ،و كل هذه العبارات دالة علی أسماء الله الحسنی و صفاته العلیا. وفي عبارات من دعاء عرفة یعرفنا الإمام (ع) أسماء الله الحسنی و أوصافه عبر الجمل التي تتعلّق بمعرفة الله ثم یعرفنا أنفسنا و یظهر التباین التام بیننا و بین الله .و هذه المعرفة بالنفس إذا حصلت عند الإنسان ستكون منطلقا للكمال و التقرب إلی الله و سیعرف الإنسان خلال هذا الطریق أن التوفیق و الخیرات و النعم و كل ما یملكه هو من قبل الله تعالی ،و علیه أن یستعین به ،و یعبده ،و كل ما سواه بحاجة إلیه ،و لا یستغنی عنه قط(58)