سنتطرق إلى الروايات الواردة حول جمع الإمام علي(ع) للقرآن، وغير ذلك، فهذه عدة مباحث سنتكلم عنها تباعاً:
المبحث الأول: الروايات التي تثبت وجود المصحف العلوي في مصادر الإمامية:
الروايات التي يمكن أن يُستدل بها على جمع الإمام علي(ع) للقرآن على طائفتين، والثانية منهما أهم من الأولى، فالأولى هي الروايات التي تذكر أن الإمام علياً(ع) قد كتب جميع مانزل من القرآن بإملاء رسول الله(ص)، فأكثرها قد ورد في بيان علاقة علي(ع) بالقرآن الكريم، فهي تدل على ذلك أكثر من إثباتها للمصحف، وإن كان يمكن أن يُدّعى أنها ظاهرة في جمع علي(ع) للقرآن، ولنسمها بالروايات العامة، والطائفة الثانية هي الروايات التي تنص على المصحف العلوي، فهي صريحة في إثبات وجوده؛ فلذلك كانت روايات الطائفة الثانية هي الأهم في المقام ولنسمها بالروايات الخاصة، وإليكم بيان الطائفتين في قسمين:
القسم الأول: الروايات العامة:
سنحاول الإقتصار على ذكر نماذج لهذه الروايات من دون إستقصاء تمامها؛ نظراً لأنها تقتصر على بيان علاقة علي(ع) بالقرآن، وأقصى ما يمكن أن ُيدّعى بشأنها أنها ظاهرة في إثبات وجود المصحف العلوي، وليست صريحة، بل هي مؤيدة للروايات الخاصة، وإليكم الروايات العامة مع بعض الملاحظات:
1- عن الإمام علي(ع) أنه قال: (وقد كنت أدخل على رسول الله(ص) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله(ص) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله(ص) أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نسائه. فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني، وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله(ص) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علماً أملاه علي وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنس حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً، فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً ولم يفتني شيء لم أكتبه أفتتخوف علي النسيان فيما بعد؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل)(1)، فالإمام علي(ع) يصرح أنه ما من آية في كتاب الله إلا وقد كتبها بخط يده بإملاء رسول الله(ص)، إلا أنه لم يصرح في هذه الرواية أنه جعل جميع ماكتبه في مصحف واحد، فهذه الرواية تفيد جمع القرآن بمعنى كتابته، ولكن هل هذه الكتابة كانت مفرقة أم مجموعة في مصحف واحد؟ هذا مالم تصرح به الرواية، لكننا نستفيد منها أن أمير المؤمنين(ع) قد كتب القرآن بأكمله كما قد حفظه عن ظهر قلب.
2- (عن جابر قال: سمعت أبا جعفر يقول: ما ادّعى أحدٌ من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب(ع) والأئمة من بعده(ع))(2)، لكن هذه الرواية قد يستظهر منها جمع القرآن بمعنى حفظه عن ظهر القلب والمعرفة الواقعية به، والقرينة على ذلك عطفها كلمة(وحفظه) على كلمة(وما جمعه) إن إلتزمنا أن العطف عطف بيان، وإن لم نلتزم بذلك وقلنا إن العطف لتأسيس مطلب جديد فنقول: إن الرواية نصت على أن الأئمة قد جمعوا القرآن أيضاً، والحال إنه لم يُعرف للأئمة جمع مخصوص للقرآن، كما أن الرواية ذكرت قيد (كما نزله الله)، (كما أنزل)، فيكون الظاهر منها المعرفة الواقعية بالقرآن الذي أراده الله تعالى.
3- (عن جابر، عن أبي جعفر(ع) أنه قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء)(3)، والكلام في هذه الرواية هو الكلام في الرواية السابقة، ولابأس أن نذكر لكم تعليقة السيد محمد حسين الطباطبائي على هذه الرواية إذ يقول: (الجملة وإن كانت ظاهرة في لفظ القرآن ومشعرة بوقوع التحريف فيه، لكن تقييدها بقوله: ظاهره وباطنه يفيد أن المراد هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي، ومعانيه المستبطنة على الفهم العادي)(4).
4- عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: (إن كل آية أنزلها الله في كتابه على محمد(ص) عندي بإملاء رسول الله(ص) وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد(ص) وكل حلال أو حرام أو حد أو حكم أو أي شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول الله وخط يدي حتى أرش الخدش)(5)، وسيأتي في الروايات الخاصة، أن هذا المقطع هو احتجاج أمير المؤمنين(ع) على طلحة حينما طلب منه أن يظهر المصحف العلوي للناس، فينبغي أن تذكر هذه الرواية في الروايات الخاصة.
5- عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: (والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت أبليل نزلت أم بنهار نزلت في سهل أو جبل ان ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً)(6)، وهذه الرواية إنما تدل على علم الإمام علي(ع) بالقرآن، وإلمامه به، ولا تدل على كتابته للقرآن وجمعه في مصحف واحد.
وهكذا يتضح أن الروايات العامة إنما تدل على علم الإمام علي(ع) بالقرآن وحفظه له، وإحاطته بشؤونه من تفسير وغيره، ولا تدل على أنه(ع) قد دونّه وكتبه في مصحف واحد، فلذلك لم نتطرق إلى أسانيد تلك الروايات لأنها لاتدل على المطلوب.
القسم الثاني: الروايات الخاصة:
وهي الروايات التي نصت على مصحف الإمام علي(ع)، فهي صريحة في إثبات وجود المصحف العلوي، وإليكم الروايات من المصادر القديمة ولنبدأ بالأقدم منها، مع الإشارة إلى أسانيدها مشفوعة ببعض الملاحظات:
1-الرواية الأولى: أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي(ت76هـ) في كتابه في ثلاثة مواضع ومقاطع(7)، والمقطع الأول يتحدث عن الإمام علي(ع) وخذلان الناس له فيقول: (فلما رآى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في الصحف(8) والشظاظ والأسيار والرقاع. فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع. فبعث إليه علي(ع): (إني لمشغول وقد آليت نفسي يمينا أن لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه). فسكتوا عنه أياما فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله. فنادى علي(ع) بأعلى صوته: (يا أيها الناس، إني لم أزل منذ قبض رسول الله(ص) مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد. فلم ينزل الله تعالى على رسول الله(ص) آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلا وقد جمعتها وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله(ص) وعلمني تأويلها). ثم قال لهم علي(ع): لئلا تقولوا غدا: (إنا كنا عن هذا غافلين). ثم قال لهم علي(ع): لئلا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته. فقال عمر: ما أغنانا ما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه)(9).
وجاء في المقطع الثاني من كتاب سليم على لسان طلحة: (يا أبا الحسن، شيء أريد أن أسألك عنه: رأيتك خرجت بثوب مختوم عليه فقلت: (يا أيها الناس، إني لم أزل مشغولا برسول الله(ص)، بغسله وتكفينه ودفنه. ثم شغلت بكتاب الله حتى جمعته، فهذا كتاب الله مجموعا لم يسقط منه حرف)، فلم أر ذلك الكتاب الذي كتبت وألفت، ولقد رأيت عمر بعث إليك - حين استخلف - أن ابعث به إلي، فأبيت