هو الإمام محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، خامس أئمّة أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
ولادته وشهادته:ولد عليه السلام في المدينة المنوّرة، غرّة رجب، أو الثالث من صفر، سنة 57 للهجرة1 ، قبل وقعة الطفّ بأربع سنين. ومضى عليه السلام بالمدينة يوم الاثنين سابع ذي الحجّة سنة 114 للهجرة، وروي سنة 2 116، وقيل سنة 117 عن عمر 58 سنة3 ، وقيل غير ذلك، ودفن بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه عليّ بن الحسين عليه السلام4 .
كنيته وألقابه:أمّا كنيته: فأبو جعفر.ولقبه: باقر العلم، والشاكر لله، والهادي، والأمين، والشبيه لأنّه كان يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 5 .
وأشهر ألقابه هو الباقر، وقد ذكره أئمّة اللغة في كتبهم، ففي لسان العرب: التبقّر: التوسّع في العلم والمال، وكان يقال لمحمّد بن عليّ بن الحسين بن علي: الباقر رضوان الله عليهم، لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتبقّر في العلم، وأصل البقر: الشقّ والفتح والتوسعة، بقرت الشيء بقراً: فتحته ووسّعته6 .
وقد لقّبه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يولد، وأخبر به جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وروي عنه أنّه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يوشك أن تبقى حتّى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له: محمّد يبقر علم الدين بقراً، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام"7 .
وعن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذات يوم لجابر بن عبد الله الأنصاريّ: يا جابر إنّك ستبقى حتّى تلقى ولدي محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب المعروف في التوراة بالباقر فإذا لقيته فاقرئه منّي السلام. فدخل جابر إلى عليّ بن الحسين عليه السلام فوجد محمّد بن عليّ عليه السلام عنده غلاماً فقال له: يا غلام أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر. فقال جابر: شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وربّ الكعبة، ثمّ أقبل على عليّ بن الحسين عليه السلام فقال له: من هذا؟ قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي:
محمّد الباقر، فقام جابر فوقع على قدميه يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا بن رسول الله، اقبل سلام أبيك، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليك السلام، قال: فدمعت عينا أبي جعفر عليه السلام ثمّ قال: يا جابر على أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام ما دامت السماوات والأرض وعليك- يا جابر- بما بلّغت السلام" 8 .
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال:"إنّ جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد الرسول معتجّر 9 بعمامة، وكان يقول: يا باقر يا باقر، فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، فكان يقول: لا والله لا أهجر ولكنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّك ستدرك رجلاً منّي اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم بقر، فذلك الذي دعاني إلى ما أقول، قال: فبينما جابر ذات يوم يتردّد في بعض طرق المدينة إذ مرَّ محمّد بن عليّ عليه السلام فلمّا نظر إليه قال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثمّ قال: أدبر، فأدبر، فقال: شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي نفس جابر بيده، ما اسمك يا غلام؟ فقال: أنا محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فقبَّل رأسه ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي، أبوك رسول الله يقرئك السلام فقال: وعلى رسول الله صلّى الله عليه وآله السلام.. فرجع محمّد إلى أبيه وهو ذعر فأخبره بالخبر فقال: يا بنيّ قد فعلها جابر؟ قال: نعم، قال: يا بنيّ الزم بيتك، قال: فكان فكان جابر يأتيه طرفي الن هار فكان أهل المدينة يقولون: واعجباً لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار، وهو آخر 10 من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! فلم يلبث أن مضى عليّ بن الحسين عليه السلام، فكان محمّد بن عليّ عليه السلام يأتيه على الكرامة لصحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فجلس الباقر يحدّثهم عن الله فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قطّ أجرأ من ذا! فلمّا رأى ما يقولون حدّثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أهل المدينة: ما رأينا قطّ أحداً أكذب من هذا يحدّث عمّن لم يره! فلمّا رأى ما يقولون حدّثهم عن جابر بن عبد الله فصدّقوه، وكان- والله- جابر يأتيه فيتعلّم منه" 11 .
والدته الصِّدِّيقة:أمّ عبد الله بنت الحسن بن عليّ بن أبي طالب، فهو هاشميّ من هاشميَّين، علويّ من علويَّين، وفاطميّ من فاطميّين، لأنّه أوّل من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين عليه السلام12.
وعن الباقر عليه السلام قال: "كانت أمّي قاعدة عند جدار فتصدّع الجدار وسمعنا هدّة شديدة، فقالت بيدها: لا وحقِّ المصطفى ما أذن الله لك في السقوط، فبقي معلّقاً في الجوّ حتّى جازته، فتصدّق أبي عنها بمائة دينار".
وذكر أبو عبد الله عليه السلام جدّته أمّ أبيه يوماً فقال: "كانت صدّيقة، لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها" 13.
مع أبيه زين العابدين عليه السلام:عن الزهريّ قال: دخلت على عليّ بن الحسين عليه السلام في المرض الذي توفّي فيه...ثمّ دخل عليه محمّد ابنه فحدّثه طويلاً بالسرّ فسمعته يقول فيما يقول: "عليك بحسن الخلق" قلت: يا ابن رسول الله إن كان من أمر الله ما لا بدّ لنا منه- ووقع في نفسي أنّه قد نعى نفسه- فإلى من يُختلف بعدك؟ قال :"يا أبا عبد الله إلى ابني هذا" - وأشار إلى محمّد ابنه-" إنّه وصيّي ووارثي وعيبة علمي، معدن العلم، وباقر العلم"، قلت: يا ابن رسول الله ما معنى باقر العلم؟ قال: "سوف يختلف إليه خُلّاص شيعتي، ويبقر العلم عليهم بقراً" ، قال: ثمّ أرسل محمّداً ابنه في حاجة له إلى السوق، فلمّا جاء محمّد قلت: يا ابن رسول الله هلّا أوصيت إلى أكبر أولادك؟ قال: "يا أبا عبد الله ليست الإمامة بالصغر والكبر، هكذا عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا وجدناه مكتوباً في اللوح والصحيفة"، قلت: يا ابن رسول الله فكم عهد إليكم نبيّكم أن يكون الأوصياء من بعده؟ قال: "وجدنا في الصحيفة واللوح اثني عشر أسامي مكتوبة بإمامتهم وأسامي آبائهم وأمّهاتهم" ثمّ قال: "يخرج من صلب محمّد ابني سبعة من الأوصياء فيهم المهديّ صلوات الله عليهم" 14.
فضائله ومناقبه وبعض أحواله:كان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة.. وكان أقلّ أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة وكان يتصدّق كلّ جمعة بدينار، وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثمّ دعا فأمّنوا.وكان كثير الذِكر كان يمشي وأنّه ليذكر الله، ويأكل الطعام وأنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتّى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم، ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر15.
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أنّ مثل عليّ بن الحسين يدع خلفاً- لفضل عليّ بن الحسين- حتّى رأيت ابنه محمّد بن عليّ فأردت أن أعظه فوعظني.
فقال له أصحابه: بأيّ شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة، فلقيت محمّد بن عليّ- وكان رجلاً بديناً- وهو متّكئ على غلامين له أسودين-أو موليين له- فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنّه؟ فدنوت منه فسلّمت عليه، فسلّم عليّ ببَهَرٍ وقد تصبَّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنّه؟ فدنوت منه فسلّمت عليه، فسلّم عليّ ببَهَر 16وقد تصبَّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟! قال: "فخلّى عن الغلامين من يده، ثمّ تساند" وقال: " لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: يرحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني " 17 .
وكان عليه السلام ، ظاهر الجود في الخاصّة والعامّة، مشهور الكرم في الكافّة، معروفاً بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسّط حاله:فعن الحسن بن كثير قال: شكوت إلى أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام الحاجة وجفاء الإخوان، فقال: " بئس الأخ أخ يرعاك غنيّاً ويقطعك فقير " ، ثمّ أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم، وقال: " استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني " .
وعن عمرو بن دينار وعبد الله بن عبيد بن عمير أنّهما قالا: ما لقينا أبا جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام إلّا وحمل إلينا النفقة والصلة والكسوة، ويقول: " هذه معدّة لكم قبل أن تلقوني " .
وعن سليمان بن قرم قال: كان أبو جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام يجيزنا بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الألف درهم، وكان لا يملّ من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمّليه وراجيه.
وروي عنه عن آبائه عليه وعليهم السلام:"أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: أشدّ الأعمال ثلاثة: مواساة الإخوان في المال، وإنصاف الناس من نفسك، وذكر الله على كلّ حال".
وروي عنه عليه السلام أنّه سئل عن الحديث يرسله ولا يسنده فقال: "إذا حدّثتُ الحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي عن جدّي عن أبيه عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عليه السلام عن الله عزّ وجلّ".
وكان عليه وآبائه السلام يقول: "بليّة الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا". وكان عليه السلام يقول: "ما ينقم الناس منّا؟! نحن أهل بيت الرحمة، وشجرة النبوّة، ومعدن الحكمة، وموضع الملائكة، ومهبط الوحي" 18.
وعن محمّد بن سليمان، عن أبيه قال: كان رجل من أهل الشام يختلف إلى أبي جعفر عليه السلام، وكان مركزه بالمدينة، يختلف إلى مجلس أبي جعفر عليه السلام يقول له: يا محمّد ألا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياء منّي لك، ولا أقول: إنّ في الأرض أحداً أبغض إليّ منكم أهل البيت، وأعلم أنّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكن أراك رجلاً فصيح، لك أدب وحسن لفظ، وإنّما الاختلاف إليك لحسن أدبك، وكان أبو جعفر عليه السلام يقول له خيراً ويقول: "لن تخفى على الله خافية ".