جاء في الروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة والطهارة(ع) كما ورد على لسان الكثير من العلماء جواز بعض موارد للغيبة أحصاها بعضهم اثني عشر مورداً(1)، ولكن قبل ذكر هذه الموارد يجدر بنا ذكر الضابطة التي على أساسها جازت الغيبة، ويمكن أن نذكر ثلاثة ضوابط من خلال تبتع كلمات الأعلام كما يلي:
الضابط الأول: أن لا ينطبق تعريف الغيبة على المورد المذكور كالفاسق المتجاهر بالفسق، فإنّ تعريف الغيبة: (كشف ما ستره الله عليه) لا ينطبق عليه, حيث أنه متجاهر بفسقه، وبذلك يكون المورد خارجاً عن موضوع الغيبة تخصصاً.
الضابط الثاني: أن يكون للغيبة غرض صحيح لا يمكن التوصل إليه إلا بالغيبة، فحينئذٍ تصح الغيبة، وهذا ما يظهر من كلام الشهيد الثاني حيث قال: "اعلم أنّ المرخص في ذكر مساءة الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة"(2)، كما أنّ هذا المعنى صريح في كلام المحقق الكركي حيث قال: "وضابط الغيبة كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن والتفكه به، أو إضحاك الناس فيه، فأما ما كان لغرض صحيح فلا يحرم كنصيحة المستشير"(3) ، فلذا يمكن أن نستخرج قاعدة كلية عامة مضمونها أنه في كل مورد يوجد غرض صحيح جازت الغيبة(4)، فيكون هذا المورد خارجاً عن الغيبة تخصيصاً.
الضابط الثالث: ليس المدار في جواز الغيبة وجود غرض صحيح فيها فقط، "بل المدار فيها وجود مصلحة أهم من مصلحة احترام المؤمن"(5)، ولهذا "إذا عارض الغيبة مصلحة أخرى أهم من مصلحة مراعاة احترام المؤمن وعدم انتهاك حرمته فلا إشكال في جواز الغيبة حينئذٍ كما في سائر المحرمات عند مزاحمتها مع ما هو أهم منها عقلاً أو شرعاً(6)، وأما ما يظهر من عبارة بعضهم(7) من جعل مطلق الغرض الصحيح من مسوغات الغيبة، فلم أعرف لـه وجهاً"(8). ومن هنا "يقدم أحد الدليلين على الآخر لأجل أقوائية الملاك"(9)، ومن الواضح هنا وجود قاعدة عامة وكلية وهي تقديم الأهم ملاكاً، "وعلى هذا، فموارد الاستثناء لا تنحصر في عددٍ معين"(10).
هذه ضوابط ثلاثة لجواز الغيبة، إلا أنّ الضابطة الثانية والثالثة ليست عامة وكليه بحيث يستطيع كل إنسان أن يطبقها على الموارد التي تصادفه في الحياة الاجتماعية، وإنما ذكرها العلماء من أجل "توجيه الموارد التي ورد النص فيها على جواز الغيبة أو نص العلماء على جوازها حتى لا يتوهم بأنّ الاستثناء اعتباطي بلا ملاك، وارتجالي بلا جهة، وليسا(11) بصدد بيان أنه كل ما كان هناك غرض صحيح تجوز الغيبة"(12)، "فالأولى صرف الكلام إلى موارد الاستثناء وكذا موارد يقال أو يحتمل أن يقال بترجيح مقتضاها على مقتضى الغيبة بعد ما لم يكن في الباب ملاك كلي وضابط عام"(13)، "فإن الكلام هنا متمحض لبيان مستثنيات الغيبة بحسب التعبد بالأدلة الخاصة، فلا مساس بلحاظ المناط والعمل بطبق أقوى الملاكين"(14).
والخلاصة أن هناك مواردَ لجواز الغيبة وردت في الروايات الشريفة وجاءت على ألسنة بعض العلماء يمكن انتزاع ضوابط عامّة لها إلا أنّه لا يمكن تطبيق تلك الضوابط العامّة المنتزعة على أيّ مثال أو مصداق نصادفه في الواقع الاجتماعي، والموارد التي ذكرت لاستثناء حرمة الغيبة وجوازها مايلي:
المورد الأول: "غيبة المتجاهر بالفسق كمن يشرب المسكر في الطرقات"(15)، حيث "أن ذكر الفاسق المعلن خارج عن الغيبة موضوعاً لما عرفت من أن الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه"(16)، ولكن ينبغي التنبيه على عدّة أمور:
1- "إن القدر المتيقن من جواز الغيبة في هذا المورد هو ذكره في خصوص ما يتجاهر به، أما جواز غيبته في العيوب والذنوب الأخرى المستورة فهو غير معلوم".
2- "إن جواز غيبة المتجاهر بالفسق إنما هو في صورة ما لو كان المتجاهر يعترف بأن عمله ذنب، أما لو أظهر لعمله عذراً صحيحاً فإن غيبته غير جائزة، كما لو ادعى أنه يتناول الشراب للعلاج والدواء".
3- ذهب البعض إلى "أن الأحوط عدم استغابة المتجاهر في غير البلد أو المحل الذي يتجاهر فيه"(17).
المورد الثاني: "شكاية المتظلم بصورة ظلمه عند من يرجو منه إزالة ظلمة"(18)، "أما من يعلم بأنه لا يجيبه أو لا يستطيع أن ينصره فالأحوط أن لا يشتكي عنده من الظالم ولا يذكر ظلمه"(19).
المورد الثالث: نصح المستشير: وذلك في التزويج وإيداع الأمانة وأمثالهما، والحقيقة أن عدم ذكر العيب هنا هو خيانة بالمستشير، وعلى ذلك لا مانع من ذكر العيب في هذه الصورة ولكن مع مراعاة أمرين:
1- أن يكون الضرر في عدم ذكر العيب أكبر، أما إذا كان الضرر في هتك الشخص وفضحه أكبر من الضرر الذي يصل إلى المستشير عند إيقاع المعاملة، فاللازم هنا عدم ذكر العيب.
2- أن يكون المغتاب مضطراً لذكر العيب من أجل عدم إيقاع المعاملة، أما إذا كان بالإمكان منع المستشير من إيقاع المعاملة من دون ذكر العيب كأن يقول لـه مثلاً: لا أرى صلاحاً في هذه المعاملة، وكان المستشير يقبل منه ذلك فيجب حينئذٍ الاكتفاء بذلك(20).
المورد الرابع: الغيبة بقصد النهي عن المنكر مع اجتماع شرائطه: وينبغي التنبيه هنا على أمرين:
1- "إذا رأى منكراً من مسلم وعلم أنه سوف يتركه إذا اغتابه، أما إذا لم يغتبه فسوف يبقى مصراً عليه جاز لـه غيبته"(21).
2- "يجب ملاحظة المفسدة الأكبر، فإذا كانت مفسدة الغيبة وهتك حرمة ذلك المسلم أكبر من مفسدة نفس المنكر، فإنّ غيبته حينئذٍ غير جائزة وإن علم يقيناً أنّه سوف يترك الذنب لو اغتابه"(22).
المورد الخامس: غيبة الضالين المضلين المبتدعين في دين الله(23): وذلك بقصد فضحهم وكشفهم على حقيقتهم، لا لدواع أخرى كالحقد أو التشفي.
المورد السادس: الجرح للشاهد والراوي(24): وذلك فيما لو نقل الفاسق خبراً أو شهد شهادة فتجوز غيبته بقصد أن يُعرف فسقه فلا يقبل قولـه.
المورد السابع: ذكر العيب الواضح المشهور الذي به يعرف صاحبه(25): مثل الأعمش والأحول والأعرج بشرط أن يكون قصده من ذكرهم التعريف بهم لا الانتقاص منهم.
المورد الثامن: رد مدّعي النسب زوراً وكذباً: حيث أنّ مصلحة حفظ الأنساب أهم من مفسدة هتك المدعي.
المورد التاسع: أن يقصد بغيبته دفع الضرر عن المغتاب: كقولـه (ع) لعبد الله بن زرارة :«اقرأ على والدك مني السلام وقل إنما اغتبتك دفاعاً مني عنك»(26).
المورد العاشر: تفضيل بعض العلماء على بعض من أجل معرفة الأعلم أو الأكفأ: لا للانتقاص وكذلك تفضيل بعض الصناع على بعض لمعرفة الصنعة الأكثر جودة.
المورد الحادي عشر: الشهادة على الناس: إذا اطلع الذين يثبت التعزير أو الحد بشهادتهم على فاحشة جاز ذكرها عند الحاكم عند غياب الفاعل.
المورد الثاني عشر: غيبة معلوم الحال عند السامع: إذا علم اثنان أو ثلاثة معصية من آخر فذكرها بعضهم للآخر، جاز ذلك، لأنها لا تؤثر عند السامع شيئاً، والأولى التنزه عنها، لأنه ربما نسيها(27).
المورد الثالث عشر: رد المقالة الباطلة وقدحها: فيجوز القدح في الرأي الفاسد الباطل سواء كان في موضوع علمي أو في أمر من أمور الدين وإن كان الرد يدل على نقصان قائلها.
المورد الرابع عشر: الاغتياب في موضع الاستفتاء: "والظاهر أنّ المراد منه في مورد القضاء الذي يتوقف على ذكر الظالم بالخصوص وبيان كيفية ظلمه وتعديه"(28)، والفارق بينه وبين التظلم أنّ الاستفتاء إنما يكون عند خصوص القاضي، أما التظلم فإنما يكون عند من يمكنه رفع ظلامته وإن لم يكن قاضياً.
المورد الخامس عشر: في سلب الاجتهاد: "يجوز سلب الإجتهاد عن شخص، اللهم إلا إذا استلزم إهانة المسلوب عنه كما إذا كان الرجل شاغلاً منصب الإفتاء سنين متمادية، فسلب الاجتهاد عن مثل هذا الرجل إهانة لا تجوز إلا إذا كان هناك مصلحة غالبة على مفسدة الغيبة"(29).
ملاحظات:
أولاً: هذا البحث (موارد جواز الغيبة) بحث طويل وموسع حاولنا الإختصار فيه مع الإفادة المطلوبة قدر الإمكان، فمن أراد التوسع فعليه بمراجعة الكتب الفقهية(30)، والأخلاقية(31).
ثانياً: بعض هذه الموارد قد يكون فيها خلاف بين الفقهاء، كما أن بعضها يوجد فيه الكثير من التفصيلات التي قد يختلف فيها الفقهاء، فليرجع كل مكلف إلى رأي من يقلده.
ثالثاً: صحيح أنّ هناك موارد جائزة للغيبة، ولكن يجدر بالإنسان أن يترفع عنها قدر الإمكان، ومن المناسب هنا ذكر الموعظة العظمى للمربي الكبير سماحة الإمام الخميني العظيم إتماماً للفائدة في هذا الفصل حيث يقول (ره):
"والذي يجب أن نذكره هنا هو أن على الإنسان أن لا يعيش حالة الاطمئنان أبداً من مكائد النفس، بل يجب أن يتحرك في منتهى الحذر والاحتياط، ولا يكون في صدد التبرير – لغيبته – بالأعذار بأن يقول أن هذا المورد هو من الموارد المستثناة فيسمح لنفسه بالبحث عن عيوب النّاس وإشاعتها في المجتمع.
إنّ مكائد النفس بالغة الدقة، فيمكن أن تخدع الإنسان عن طريق الشرع، وتزجّه في مهلكة. فمثلاً إن غيبة المتجاهر بالفسق جائزة، وإذا توقف ردعه بعض الأحيان على استغابته وجبت غيبته من باب النهي عن المنكر، ولكن يجب أن يتأمل الإنسان بأن الدافع النفسي لغيبته هو الداعي الشرعي الإلهي – النهي عن المنكر – أو أن الباعث أهواء شيطانية ورغبة نفسانية- العداوة والتشفي- فإن كان الهدف الداعي الإلهي – النهي عن المنكر- كان عمله من العبادات، بل كانت غيبته هذه بنيّة إصلاح المتجاهر بالفسق، والإساءة إليه من أوضح مصاديق الإحسان والإنعام إليه، وإن لم يشعر المغتاب بذلك. ولكن إذا كان قصده مشوباً بالفساد والميول النفسانية، فلابد من تخليص النية – من غير الدافع الإلهي – والصفح عن أعراض الناس وحرماتهم مع عدم هدفٍ صحيح.
بل إنّ تعويد النفس على الغيبة في الأحوال الجائزة، تضر بحاله أيضاً، لأن النفس تميل نحو الشرور والقبائح، فمن المحتمل أن ينجر رويداً رويداً من الموارد الجائزة إلى مرحلة أخرى وهي الموارد المحرّمة. كما أنّ الدخول في الشبهات غير محمود، رغم جوازه، لأنها حمى المحرمات ومن الممكن أن الإقتحام في الحمى يفضي إلى الدخول في المحرمات.
يجب على الإنسان مهما أمكن أن يبعد النفس عن الغيبة في الأحوال المسموحة، ويحترز عن الأمور التي يحتمل أن يكون فيها طغيان للنفس.
نعم في الأحوال التي تجب الغيبة فيها، مثل غيبة المتجاهر بالفسق بهدف منعه إذا كان لا يرتدع إلا بها أو الموارد الأخرى التي ذكرها العلماء، فلابد من الإقدام عليها، مع السعي الحثيث لتخليص النية عن هوى النفس ومتابعة الشيطان.
ولكن ترك الغيبة في الموارد الجائزة أولى وأحسن. ينبغي أن لا نفعل كل عمل جائز، وخاصة الأمور التي يكون فيها لمكائد النفس والشيطان دور بارز"(32).
رابعاً: إنّ صدور الغيبة من المسلم قبيح إلا أنّ صدورها من العالم أقبح، إذ أنّ العلماء الحقيقيين يتسمون بالخشية التي تحجبهم عن الاقتحام في المهلكات، قال الإمام الصادق (ع) :
الخشية ميراث العلم وميزانه، والعلم شعاع المعرفة وقلب الإيمان، ومن حرم الخشية لا يكون عالماً وإن شق الشعر بمتشابهات العلم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.
وآفة العلم ثمانية: الطمع والبخل، والرياء والعصبية، وحب المدح، والخوض فيما لم يصلوا على حقيقته، والتكلف في تزيين الكلام بزوائد الألفاظ: وقلة الحياء من الله، والافتخار، وترك العمل بما علموا.
قال عيسى(ع): أشقى الناس من هو معروف بعلمه مجهول بعمله(ع)(33).
--------
(1) راجع مفتاح الكرامة ج4 ص66-67.
(2) كشف الريبة ص219.
(3) جامع المقاصد ج4 ص27، كما يستفاد ذلك من جامع السعادات ج2 ص311، والمحجة البيضاء ج5 ص270.
(4) سيأتي إن شاء الله تعالى منع هذه القاعدة العامة في كلام الإمام الخميني والسيد الخوئي (ره) عند ذكر الضابط الثالث حيث أنّ تجويز الغيبة في الموارد الإثني عشر التي ستأتي خلاف الأصل (حرمة غيبة المؤمن)، ولذلك نقتصر فيما خالف الأصل المذكور على القدر المتيقن (وهو خصوص الموارد الإثني عشر أو الخمسة عشر التي ذكرها العلماء الأعلام وجاءت بها الروايات)فتنبه.
(5) مصباح الفقاهة ج1 ص336.
(6) وهذا ما يستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري فراجع المكاسب ص342-343.
(7) وهما الشهيد الثاني والمحقق الكركي كما تقدم في الضابط الثاني.
(8) المكاسب المحرمة للشيخ الاراكي + ص215.
(9) المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص516 كما يحسن الرجوع إليه لمعرفة الضوابط الثلاث المتقدمة جيداً.
(10) راجع المكاسب للشيخ الأنصاري ص343.
(11) المراد من ضمير التثنية هما الشهيد الثاني والمحقق الكركي حيث يستفاد من كلامهما وجود قاعدة عامّة كلية لجواز الغيبة.
(12) راجع المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص515-516.
(13) المكاسب المحرمة للإمام الخميني ص275.
(14) مصباح الفقاهة ج1 ص337.
(15 ) الذنوب الكبيرة ج2 ص272.
(16) المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص517.
(17) هذه الأمور الثلاثة المذكورة تجدها في كتاب الذنوب الكبيرة ج2 ص272 مع تفصيل أكثر فراجع.
(18) مفتاح الكرامة ج4 ص66.
(19) الذنوب الكبيرة ج2 ص273-274.
(20) الذنوب الكبيرة ج2، ص273-274.
(21) الذنوب الكبيرة ج2، ص273-274.
(22) المصدر السابق.
(23) الذنوب الكبيرة ج2، ص274.
(24) مفتاح الكرامة ج4 ص66.
(25) ملاحظة: اغلب ما سنذكره فيما بعد منقول من كتاب الذنوب الكبيرة ج2 ص274 أو عن مفتاح الكرامة ج4 ص66-67 فليرجع إليهما.
(26) مفتاح الكرامة ج4، ص66-67، وأنظر الرواية في وسائل الشيعة 11: 257، ولفظها: «إنما أعيبك دفاعا».
(27) مفتاح الكرامة ج4، ص66-67.
(28) المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص536.
(29) المواهب في تحرير أحكام المكاسب ص543.
(30) مثل المكاسب المحرمة للإمام الخميني ص274، مصباح الفقاهة للسيد الخوئي ج1 ص336. المكاسب للشيخ الأنصاري ص342، المكاسب المحرمة للشيخ الأراكي ص215، المواهب في تحرير أحكام المكاسب للشيخ السبحاني ص514.
(31) مثل كشف الريبة عن أحكام الغيبة للشهيد الثاني ص219، جامع السعادات ج2 ص311، المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء ج5 ص270، الذنوب الكبيرة ج2 ص272.
(32) الأربعون حديثاً ص292-293، كما أنّ لهذه الموعظة تتمة يحسن مطالعتها فليراجع.
(33) مصباح الشريعة ص20- 21، وأنظر سورة فاطر الآية: 28.
---------
انتهی/125