الإمام المهدي (عج) وفلسفة الغيبة وقضية طول العمر ومسألة الإنتظار من الموضوعات الملحة في الفكر الإسلامي لكننا في سياق هذا البحث سوف لن نتناول موضوع الإمام الحجة (عج) من الزواية الفلسفية المحضة ولسببين رئيسين أولهما: لأن الكتاب لا يهدف في الدرجة الأساسية مناقشة البعد الفلسفي أو الفكري المجرد لقضيه الإمام المنتظر (عج)،كما لم يحدث ذلك في سياق الحديث عن سائر الأئمة _عليهم الصلاة والسلام_،خاصة لوجود فيض هائل من الأبحاث والدراسات التي تناولت هذا البعد من حياة الإمام المهدي (عج) وثانيها: إن المنهج التحليلي الذي أتبعناه في عرض حياة سائر الأئمة(ع) يقتضي تناول موضوع إمامة المهدي (عج) بذات المنوال. فكيف بدأ الإمام المهدي (عج) عهد إمامته؟
من المعروف سلفاً أن العباسيين جاءوا إلي سدة الحكم إنما بالتحايل علي الأمة عبر رفعها شعارات الود والتقرب لحركة أهل البيت (ع)،والأخذ بثاراتهم،لكنهم مارسوا إرهاباًقاسياً علی أتباع وأنصار أهل البيت (ع)،وطاردت المخلصين من الرساليين بحد السيف ورأس الرمح،حتی راح عدد من كوادر الرسالة ضحية خطط التصفية والإبادة التي ميز بها العباسيون طبيعة علاقتهم مع الحركة الرسالية، فيها قضیآخرون زهرة حياتهم في غياهب السجون الموحشة لبني العباس. ويتقدم قافلة الشهداء عدد من الأئمة الأطهار _ عليهم السلام_ الذين عاصروا الدولة العباسية وكابدوا محن سياساتهم التسفية ضد خط أهل البيت (عج).
الإمام المهدي (عج) هو الآخر ولد في ذروة الإرهاب العباسي،بل كان (عج) نقطة التركيز في كل الإجراءات والتدابير التي إتخذها العباسيون في عهد والده الإمام العسكري (عج) ضد أهل البيت (ع)،نظراً لخطورة لدور الذي سيلعبه في رفد مسار الأمة المقبل وذلك إستيحاءاً من النصوص الشريفة الدالة عليه. ولذلك بذل الإمام العسكري (ع) جهده في الحفاظ علی الإمام المهدي (عج) عبر السرية التامة للمعلومات التي ترتبط بموضوع ولادته (عج)، إلّا لخاصته المقربين لديه رغم إنه (ع) كثيراً ما كان يشير اليه بالنص أو الإيماء، سواء باتجاه مستقبل القيادة أو باتجاه عرض صفاته،وسمات العصر الذي سيخرج فيه ليملاً الأرض قسطاً عدلاً كما ملئت ظلماً وجورا.
ولما إغتال المعتصم العباسي الإمام العسكري (ع)، أخذ يفتش عن نجله ليقضي عليه، ليقطع بذلك دابر الإمامة الإسلامية، فأرسل الی بيت الإمام (ع) ليحتجز ما فيه ومن فيه،وعن لسان أحمد بن عبد الله بن يحی بن خاقان انه قال(1):
«لما أعتل الإمام الحسن العسكري (ع) بعث إلی ابن الرضا (ع) قد إعتل فركب من ساعته إلیدار الخلافة ثم رجع مستعجلاً مع خمسة نفر من خدام (أمير المؤمنين) كله من ثقاته وخاصته ومنهم نحرير _ وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي، وتعرف خبره وحاله، وبعث إلی نفر من المتطببين فأمرهم بالإختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءاً.
فلما كان ذلك بيمين جاءه من أخبره أنه ضعف فركب حتی بكر اليه، فأمر المتطببين بلزومه، وبعث إلی قاضي القضاة فأخببره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه فأحضرهم فبعث بهم إلی دار الحسن (ع) وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً.
فلم يزالوا هناك حتی توقی (ع) لأيام مضت من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين، فصارت سر من رأی ضجة واحدة _مات أبن الرضا_.
وبعثت السلطات إلی داره من يفتشها ويفتش حجرها، وختم علی جميع مافيه وطلبوا أثر ولده، وجاءوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن علی جواريه فنظرن إليهن فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل، فأمر بها وجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم.
ثم قال: ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحمل ملازمين لها سنتين وأكثر حتی تبين لهم بطلان الحمل، فقسم ميراثه (ع) بين أمه وأخيه جعفر وإدعت أمه وصيته وثبت ذلك عند القاضي.
والسلطان علی ذلك يطلب إثر ولده.
حتی قال: «وخرجنا _والأمر علی تلك الحال_ والسلطان يطلب إثر ولد الحسن بن علي (ع) حتی اليوم».
وهن وعلی الرغم من أن العباسيين قد جندوا كافة إمكاناتهم وعيونهم لمراقبة بيت الإمام العسكري (ع) قبل إستشهاده لمعرفة إن كان له ولد، من أجل القضاء عليه واستئصال شأفة بيت رسول الله (ص) من الأمة. بالذات لمعرفتها إن ولادته ووجوده بين ظهراني الأمة حسب روايات وأحاديث الرسول (ص) ومن بعده سائر الائمة (ع) تدل علی نهاية الحكم من يد بني العباس، بالرغم من ذلك لكنهم لم ينجحوا في الوصول إلی الإمام المهدي (عج) بسبب تخطيط والده الإمام العسكري (ع) في الحفاظ علی سرية حمل والدته، ومن ثم الحذر الشديد من أعين الرقباء علی وجوده. وفي هذا الإطار كابد الإمام العسكري (ع) المحنة بين عملين متناقضين، الأول: حذره الشديد من إشاعة خبر ولادة الإمام المهدي (عج) لكي لايصل إلی أسماع بني العباس الذين يتربصون به الدوائر من أجل قتله والقضاء عليه، والثاني: مسئوليته في إثبات وجود الإمام المهدي (عج) لدی الأمة لكي يكون الإمام والقائد من بعده، لأنه في غير ذلك سيكون من الصعب علی الأمة معرفة هذه الحقيقة في ظل عدم توصية الإمام العسكري (ع) نفسه.
لقد إستطاع الإمام العسكري (ع) تجاوز المحنة بعد أن مارس دوره الرسالي المسئول بقدر كاف من الدقة المتناهية حيث _وكما مر معنا_ إنه (ع) قام بتعويد الأمة علی طرق جديدة من الإتصال وهو عبر المكاتبة والوكلاء، كما أنه (ع) _أيضاً_ ساهم في تبيين وتوضيح مسألة «القيادة والإمامة» وتخصيصها بالإمام المهدي (عج) وربطها بأساليب الإتصال التي إعتمدها خاصة في فترة إمامته الأخيرة قبيل استشهاده.
السؤال هنا: كيف تعاملت الأمة مع الإمام المنتظر (عج) بعد إستشهاد والده (ع)؟
وكيف مارس الإمام المهدي (عج) قيادة الأمة وهو في حال الغيبة الصغری؟
وما هي الأوضاع التي آلت إليها الأمة في غيبة الإمام المهدي (عج)؟
وما هو الدور الذي يمكن أو يجب أن تلعبه الأمة في زمن الغيبة؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه خلال السطور القادمة.
رحيل الإمام العسكري والبداية الجديدة للتاريخ الإسلامي:
يمكن بإختصار شديد إعتبار بداية عهد الإمام المهدي (عج) هو بداية جديدة للتاريخ الإسلامي مرحلة جاءت لتضع حداً لكافة محاولات التصفية والإرهاب النفسي والمادي الذي كانت تمارسه السلطات السياسية، التي امتطت صهوة الحكم عبر التنكيل والحيلة والإرهاب ضد الأئمة وخط أهل البيت (ع) الذين يمثلون الإمتداد الشرعي لحركه الرسول الأعظم (ص) في الأمة كما تدل عليه النصوص والروايات الشريفة المنسوبة إليه في حق أهل البيت (ع).
وفي بداية عهد الإمام المهدي (عج) كانت الأمة معبأة في إتجاهين رئيسين، يتمثل الأول منهما في الطريقة الجديدة (الرسائل، الوكلاء) التي يجب أن تتعامل بها مع إمامها الجديد، وتستلهم من خلال ذلك منه الرؤية وأسلوب العمل والتحرك، أمّا الثاني منهما فيتمثل في أهمية الإستمرار والمواصلة في النهج الرسالي الذي غذاه سائر الائمة في الأمة في مختلف العهود الماضية من مراحل عملهم الحضاري فيها.
وتكمن صعوبة الأمر بسبب طبيعة الواقع السياسي الذي كانت تعيشه الأمة بعد رحيل الإمام العسكري (ع) والذي أتسم بضراوة القمع وشدة الإرهاب الذي مارسه بنو العباس من أجل القضاء علي ماتبقي من وجود لأهل البيت (ع) في وسط الأمة.
ومن خلال الرجوع إلی عدد من الروايات يمكن لنا فهم حجم التحديات التي كانت تعيشها الأمة في بداية عهد الإمام المهدي (ع)، والتي تلخص من جانب آخر طبيعة الأوضاع السياسة التي استلم فيها الإمام (عج) مهام قيادة الأمة والتصدي لمسئولية القيام بأعباءها من جميع النواحي.
فقد روي أنه لما توفی الإمام العسكري (ع) بعثت السلطات الی داره من يفتشها ويفتش جميع حجرها ويختم علی جميع مافيها، وطلبوا إثر ولده وجاءوا بنساء يعرفن الحمل، فدخل علیجواريه فنظرن إليهن فذكر بعضهن أن هنالك جاريه بها حمل، فأمر بها فجعلت في جرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه، نسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئة جثمان الإمام العسكري (ع) وعطلت الأسواق وركب بنو هاشم، القواد والكتاب وسائر الناس إلی جنازته فكانت سر من رأي يومئذ شبيهة بالقيامة (2).
ويقول ابن الصباغ المالكي في كتابه (الفصول المهمة): وخلف أبو محمد الحسن من الولد إبنه الحجة القائم المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفی مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وخوف السلطات وملاحقتهم لأهل البيت (ع) وحسبهم والقبض عليهم(1).
لقد كانت السلطات العباسية وكما يبدو من خلال جملة هذه الرويات العديدة وغيرها الكثير ممن تحمل ذات المضمون أنها علي قدر كبير من الخوف الذي يعبر عن حالة الهيجان التي يعيشها العباسيون بسبب الإجتماع الإسلامي علی شرعية الإتجاه، سلطة قائمة أساساً علی المكر والإرهاب والخداع من جهة ثانية.
لقد كانت فكرة الإمام المهدي (عج)،فكرة رائجة يعتقد بها جميع المسلمين، علی إن المهدي (عج) هو المصلح الذي يخلص الأمة من برائن العبودية والإستغلال إلي حيث يعم العدل والمساواة.
ومن خلال النصوص المتواتره عرفت الأمة إنه (عج) من آل محمد ومن سلالته. فقد ورد ذكره في الأحاديث النبوية الشريفة علیأنه الإمام الثاني عشر محمد المهدي بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسی الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب _صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين_.
وقد حدث نيجة هذا الإعتقاد بفكرة الإمام المهدي (عج) إن التحرك الإسلامي الذي كان يمثل الأقلية الساحقة من عموم الأمة، أصبح يعني تلك الجموع الغفيرة التي إعتنقت مبدأ هذه الفكرة.
وبذلك تواصلت نشاطات المؤمنين الرساليين من طلائع هذه الأمة لتعميق إطروحة الإسلام الرسالي في نفوس الأمة، وبدأ عهد جديد إمتدت فيه هذه الأطروحة لتشمل بقاع واسعة من بلاد العالم، إذ تضم بين حناياها تياراً واسعاً من الموالين والمحبين لآل البيت (ع) بإعتبارهم الإمتداد الشرعي للرسول الأعظم (ص).
الإمام المهدي (عج) والغيبة:
من الموضوعات الهامة في حياة الإمام المهدي (عج) والتي استحوذت علي إهتمام الكثير من المفكرين والمؤرخين هو البحث في مسألة (الغيب). _وكما أسلفنا_ سوف لن نتحدث عن موضوع الغيبة من بعدها الفلسفي أو العلمي وما يقتضيه من إعطاء المبررات الازمة بقبول فكرة طول العمر وامكانيتها. لكننا سننحدث بإيجاز عن الغيبة كيفية حدوثها في السياق التاريخي منتهين إلیواقعنا الحالي وارتباطنا بفكرة الإمام الحجةالمنتظر (عج) وكيف ننمي علاقتنا بالإمام المهدي (عج)؟