الثورة هي عملية تغيير جذرية تنقل المجتمع من واقع إلى واقع جديد مغاير له ومتجاوز لأغلب جوانبه وخصوصاً الاجتماعية والسياسية.
وعملية التغيير تنطوي على عدة عوامل وتعتمد على عدّة مقوّمات ومن أهمّها:
أولاً: وجود واقع فاسد ابتداءابالنظام السياسي وانتهاءاً بأجهزته وإداراته، والتي لها تأثير على إفساد المجتمع وإبعاده عن الأطروحة السليمة وهي الأطروحة الإلهية في مجتمع المسلمين.
ثانياً: وجود الأطروحة أو الفكر الجديد الذي يراد تغيير الواقع الفاسد على ضوء أسسه وقوانيه وموازينه.
ثالثاً: وجود القيادة الحكيمة القادرة على التغيير على أساس الأطروحة الثورية.
رابعاً: وجودالقاعدة الشعبية والتي تتشكل من النخبة والطليعة ومن عموم الناس، ويكون دور النخبة هو ربط القاعدة بالقيادة، وتوجيهها على ضوء إرشادات وتوجيه القائد.
ومن الثورات المعاصرة التي استطاعت تغيير الواقع الفاسد في جميع مواقعه هي الثورة الإسلامية في إيران التي انتصرت بقيادة «الإمام الخميني (قدس سره الشريف)» في 22 بهمن (11شباط) واستطاعت ازاحة أقوى نظام في الشرق الأوسط.
فقد وصل الواقع الفاسد إلى حدّ لا يُطاق ولا يمكن تحمّله من قبل العلماء والمثقفين وعموم الناس؛ فقد استشرى الفساد في جميع مرافق الحياة والتي تجسّد في جملة من الأمور:
1 ـ الارتباط العلني بأمريكا وإسرائيل.2 ـ الاعتماد على الدساتير والقوانين الغربية.3 ـ الظلم ومصادرة الحريات.4 ـ الدكتاتورية.5 ـ ثراء الطبقة الحاكمة واستغلالها للمال العام.6 ـ أحياء الجاهلية والانقطاع عن التاريخ الإسلامي بإحياء الملكية الممتدة (2500) عاماً.7 ـ التمييز بين الناس.8 ـ الفقر والبطالة وقلة الرعاية.9 ـ إقرار حصانة الأمريكان والصهاينة.10 ـ الاعتماد على وزراء فاسدين.11 ـ محاربة الدين وعلمائه المصلحين.
بدء المعارضة
من أجل خداع الجماهير تبنّى ملك إيران مشروع الإصلاح فغيّر رئاسة الوزراء ونصّب أسد علم وتمّت المصادقة على لائحة مجالس الولايات في تشرين الأول 1962م وفي هذه اللائحة "حذفت كلمة الإسلام" كشرط للناخبين والمرشحين، وترك شرط "القسم بالقرآن المجيد" ... إلى "أقسم بالكتاب السماوي".
عارض الإمام الخميني هذه اللائحة بقوة.
فتراجع الملك عنها، ثم عاد لتدوين مشروع ما يُسمى الثورة البيضاء وتم طرحه خلال استفتاء صوري اُجري يوم 26/1/1963م، فوقف الإمام ضد المشروع والهب حماس المواطنين وفي مقدمتهم شباب الحوزة العلمية.
واستمر الإمام على معارضته بسبب هجوم انفعالي على المدرسة الفيضية وفضح بعدها علاقات الصداقة التي تربط الملك بإسرائيل، فاعتقلت السلطة الإمام الخميني (قده) في ليلة 4 حزيران، فخرجت الجماهير تهتف: "الموت أو الخميني" وكان رد فعل قوات الملك الهجوم على المتظاهرين في 5 / حزيران 1963 ثم اعتقال الكثير من أنصار الإمام.
ونتيجة لاستنكارات العلماء والجماهير اضطر النظام إلى اطلاق سراح الإمام في 7 نيسان 1964م.
وفي 26 تشرين الأول عام 1964م فضح الإمام قانون حصانة الأجانب ممّا دفع بالنظام إلى نفي الإمام إلى اسطنبول فجر يوم 4 تشرين الثاني 1964م، ثم نفي الإمام إلى العراق بتاريخ 5 تشرين الأول 1965م.
وكان الإمام في النجف الأشرف يتابع الأحداث في إيران والعالم الإسلامي، ويتصل بالمؤمنين والطلبة الجامعيين المقيمين خارج إيران.
واستمر الإمام على نهجه في فضح النظام ببيانات وخطابات متواصلة تجد تفاعلاً من قبل قطعات شعبية واسعة، وكانت شعبية الإمام الخميني تزداد يوماً بعد يوم.
وبعد شهادة «السيد مصطفى الخميني» في ظروف غامضة بتاريخ 23 تشرين الأول 1977م، اُقيمت مجالس الفاتحة في أنحاء إيران واغتنم الخطباء الفرصة ليفضحوا النظام، وأخذ اسم الإمام الخميني يُتداول في الأوساط الجماهيرية.
وفي 28 كانون الأول 1977م نشرت صحيفة "إطلاعات" مقالة تحت عنوان : "إيران والاستعمار الأحمر والأسود" وجّه فيها الكاتب الإهانة إلى الإمام الخميني والعلماء الثوريين.
وعلى أثر ذلك تحرك أنصار الإمام في الحوزة العلمية، وخرجوا مع جمع غفير من الجماهير بمسيرة استنكارية في الشوارع، وفي مساء اليوم نفسه هتفت الجماهير المحتشدة في المسجد الأعظم في قم "عاش الخميني" و"الموت لنظام بهلوي".
وخرجت مظاهرات أوسع يوم 9 كانون الثاني 1978م، قمعها النظام بوحشية.
وحرّم الإمام الخميني احتفالات "عيد نوروز" وتحولت إلى استنكار وتظاهرات معادية للنظام، وأوجب الإمام فضح جرائم النظام من على المنابر.
وكان الإمام يُبشر بالانتصار ويدين أي حديث يؤدي إلى العدول عن اسقاط النظام.
وأثرت خطابات الإمام التي كانت تصل عن طريق الأشرطة المسجلّة ، فألهبت الحماس لدى الجماهير، فنظموا وانطلقت تظاهراتهم من المساجد بقيادة العلماء، وامتدت الاضطرابات الشعبية إلى الدوائر الحكومية.
لم تتمكّن الحكومة بالتعاون مع الحكومة العراقية من السيطرة على نشاط الإمام ، وفي أواخر أيلول 1978م سعى مدير الأمن في العراق إلى إجبار الإمام على وقف نشاطاته السياسية، إلا أن الإمام أجابه: "إنّ هذا واجبي الشرعي، واعملوا أنتم أيضاً بواجبكم".
وفي تقرير للسافاك بتاريخ 2/10/1978م عن نتائج لقاء وفده مع الجهات الأمنية في العراق، فأخبرهم مدير الأمن العراقي إن الإمام قال له: "أنا رجل دين وسياسة في آن واحد، ولن أعدل عن آرائي السياسية بأي حال من الأحوال".
وعلى أثر الضغوط التي مارسها النظام العراقي على الإمام قرّر الإمام الهجرة إلى الكويت ثم سوريا ولم يكن في برنامجه التوجه إلى باريس، وكان يقول: "لعل هناك قضايا لم تكن لإرادتنا دخلاً فيها، وما حصل من البداية أيضاً كان مشيئة إلهية، الله وحده هو الذي شاء أن يحصل مثل هذا".
لم تسمح دولة الكويت بدخول الإمام فاضطرّ للعودة إلى البصرة وقرّر التوجه إلى سوريا، فاقترح عليه «السيد أحمد الخميني» التوجه إلى فرنسا، فقبل الإمام المقترح وتوجه إلى باريس يوم 5 تشرين الأول 1978م.
استمر الإمام على فضح النظام وحثّ الجماهير على إسقاطه فكانت أيام عاشوراء فرصة كبيرة للتظاهر ، ففي يومي التاسع والعاشر من محرم خرجت تظاهرات كبيرة في طهران قُدّرت بـ (3 ـ 4) ملايين شخص.
واستمرت التظاهرات والاضطرابات جميع الوزارات والدوائر الحكومية إلى أن اضطر الملك لمغادرة إيران وتشكيل حكومة برئاسة بختيار.
وبمناسبة اربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) أصدر الإمام بياناً أكّد فيه على "ضرورة تشكيل مجلس قيادة الثورة في إيران".
ثم أعلن الإمام أنه سوف يلتحق بالشعب عن قريب، ممّا دفع ببختيار إلى إصدار أوامره باغلاق المطار، إلا أن تهديد الشعب بحمل السلاح واعتصام العلماء في مسجد جامعة طهران، اضطرت الحكومة للتراجع.
وأخيراً وفي الساعة (30: 9) من صباح يوم 1 شباط 1979م وصل الإمام إلى مطار مهرآباد بطهران، وحدثت مراسيم استقبال لا مثيل لها في التاريخ.
وتسارعت مراحل الثورة بعد وصول الإمام، وفي 8 شباط جاءت مبايعة ضباط ومراتب القوة الجويّة.
وفي 10 شباط أعلنت الحكومة الأحكام العرفية بشكل كامل، إلا أن الإمام أصدر بياناً دعى الشعب إلى عدم امتثال أوامر الحكومة، ممّا دفع بالجماهير إلى بناء المتاريس في الشوارع وواجهت أجهزة النظام فانهارت قوته بتاريخ 11 شباط المصادف (22 بهمن، 1357 هـ.ش)، وانتصرت الثورة بقيادة الإمام الخميني (قده). أهم عوامل الانتصار
أولا:تبنی الاطروحة الاسلامية وحكومة الولي الفقيه
من أهم عوامل الانتصار هو تبنّي الأطروحة الإسلامية والتي هي العقيدة التي حملها القائد والقاعدة الشعبية، وهي نظام شامل كامل للحياة ، ولها قدسيّة في العقول والقلوب.
والاطروحة الاسلامية الشاملة للمنهج والقانون والنظام الإسلامي تنسجم مع واقع اللإنسان والمجتمع الإيراني المعروف بعقيدته الإسلامية وولائه للدين ولمنهج أهل البيت (عليهم السلام).
والإسلام يراعي واقع الإنسان ناظراً إلى جميع جوانبه داعياً إلى اشباعها بتوازن بحيث لا يطغى جانب على جانب، ولا ناحية على ناحية، وقد وضع لكل جانب مقوماته وحدوده الواقعية فلا تقييد مطبق ولا طلاق العنان خلافا للمناهج الوضعية التي تبنتها التيارات العلمانية.
وهو منهج تتقبله العقول والنفوس بلا حرج ولا مشقة، والإنسان الإيراني حينما يلتزم بقواعده يشعر بمناغاتها له وانسجامها مع فطرته الدينية، وهي سهلة التطبيق لمن استعدّ لها وتهيأت له الأرضية المناسبة عن طريق الوراثة والمحيط الاجتماعي في جميع مراحله.
ومن واقعية الإسلام تركيزه على دور القيم المعنوية في التربية ومنها الإيمان بالله تعالى وبالعقاب والثواب ، فهذا الايمان حاجة فطرية قبل كل شيء يمليها الواقع الانساني.
ويمتاز المنهج الاسلامي بالتوازن والاعتدال في جميع جوانبه المرتبطة بالإنسان؛ فيضع لكل شيء حدوده وقيوده، فلا يطغى جانب على آخر ولا ناحية على اُخرى، فهو يراعي حاجات الجسد وحاجات الروح في آن واحد، ويراعي حاجات الإنسان بشطريه: الذكر والأنثى، ويراعي حاجات الفرد والمجتمع فلا تطغى حاجة على اُخرى ولا جانب على آخر ولا حق على آخر.
ويوازن المنهج الاسلامي بين مجالات المسؤولية؛ ويجعلها موزعة على الجميع، فالفرد مسؤول عن نفسه وعن غيره، والمجتمع مسؤول عن نفسه وعن أفراده، فهنالك مسؤولية فردية، وهنالك مسؤولية اجتماعية، والحاكم مسؤول عن الناس وهو خادم لهم.
واضافة الى ذلك يكون الحاكم وولاته مسؤولين امام الله وامام الشعب ،وبمراعاة هذه المسؤولية يتم تحقيق اهداف الدولة والشعب.
والنظام السياسي المتمثل بحاكمية أوولايةالفقيه ينسجم مع طبيعة الشعب الايراني الذي عرف بتقديس وطاعة الفقهاءعلى طول التاريخ.