لم تتغير سياسة العباسيين تجاه الحركة الرسالية كثيراً بعد إستشهاد الإمام الهادي (ع)، بل ربما ازدادت خشونة في التعامل مع كوادرها ورجالها.
الإمام الحسن العسكري (ع) عاش ظروف المحنة التي عاشها والده الإمام الهادي (ع) وواكب لحظة بلحظة أخطر وأهم مراحلها. وتسلم مركز الإمامة في ظروف منتهية من جديد إلی قسوة وشراسة القمع والإضطهاد السياسي في الأمة خاصة علی الحركة الإسلامية ورجالها وأنصارها. لكنه (ع) في ذات الوقت عايش الأيام التي بدأ الضعف يذب في أوصال كيان الدولة العباسية. مما أتاح الفرصة بشكل جيد لأداء واحدة من أخطر المهام في عصور الإمامة وهي التمهيد لقيادة حي غائب.
لم تكن نظرية القيادة في الإسلام قد تكاملت في العهود السابقة بشكل واضح، حيث جابهتها عثرات وتحديات كثيرة في الطريق، كان يقف وراءها أصحاب السلطة والمال، ولم يتسنی لأحد من الائمة حسب الأوضاع المعاشة من أن يقوموا ببلورة نظرية القيادة كما يجب، حيث كانت تندرج قضايا أخری في سلم أولويات العمل الإسلامي الرسالي.
ولكن في عهد الإمام العسكري (ع) لم يكن هنالك خيار أخر غير بلورة الإستراتيجية القيادية في العمل الإسلامي بحيث تنتهي إلی وعي الأمة نظرية القيادة في الإسلام دون أن تكون هناك نواقص مبهمة وغامضة حول النظرية خاصة وإن إمامة العسكري (ع) هي الفترة الزمنية الأخيرة التي تسبق الإمام الحجة (عج)، وهذا يعني إن الأمة يجب أن تكون في مستوی لائق من الوعي بنظرية القيادة الإسلامية، وإلّا من المعتذر في غير هذه الصورة أن يحدث تفاعل ما من قبل جماهير الأمة مع قيادة الحجة (عج) بالذات في ظروف غيابه.
ولذلك كانت حياة الإمام العسكري (ع) تحتل أهمية خاصة لما لها من دور هام وخطير في حياة الأمة الإسلامية، إذ لاتزال تؤثر فيها لحد الآن رغم تطاول الزمن.
ولا غرو أن نجد في حياة الإمام العسكري (ع)، وفي طريقة حياته وإدارته للصراع وكذا توجيهاته المستمرة إنها تغطي هذا الجانب العام من الإسلام.
لقد باشر الإمام (ع) منذ اللحظة الأولی لتسلمه زمام الأمور بعد إستشهاد والده (ع) مهمة التصدي لبلورة نظرية القيادة في الإسلام من جهة، ولتعويد جماهير الأمة علی كيفية التعاطي مع قيادتهم الإسلامية الرسالية الشرعية من جهة ثانية.
وقبل أن نلج في ذكر بعض التفاصيل حول هذا الموضوع لابد من الإشارة إلی أن نشر ثقافة القيادة وبالتالي تعويد الناس علی تطبيق بنودها علی أرض الواقع بحاجة إلی مناخ سياسي واجتماعي مناسب.
فالأجواء البوليسية الحاكمة، وكذا الحياة الإجتماعية المتأثرة بالواقع السياسي المريض والفاسد كلها عقبات كأداء أمام تنفيذ هذه الإستراتيجية المهمة في خطة عمل الإمام العسكري (ع) فماذا كانت عليه الأوضاع حينها؟
في هذه الفترة الزمنية كانت الدولة العباسية تشكو من الضعف وهي مهددة بالإنهيار في أية لحظة بسبب ضعف الخليفة العباسي والسيطرة التامة للموالي والأتراك علی مقاليد الحكم. واشتدت أزمة الضعف تلك في عهد المعتمد وكان من المرجح والحال هذه أن تخف الإجراءات التعسفية والقمعية ضد الحركة الرسالية ويخف معه الضغط والارهاب، لكن ما حدث هو عكس ذلك تماماً إذ عاشت الحركة الرسالية في أجواء غاية في الدقة والحرج حيث أن العباسيين في الضغط علی الحركة الرسالية وإشاعة جو من الارهاب النفسي في صفوفها بعض شرائح المجتمع الإسلامي التي تأثرت بشكل كبير بأجواء الميوعة وشغلتها أجواء اللهو إلی حدٍ بعيد، وتمثل خطرها علی الحركة الرسالية في أنها أصبحت الأداة التي من خلالها ينفذ العباسيون خطط قمعهم وارهابهم ضد الحركة الرسالية.
ومن زاوية ثانية سعت السلطة العباسية بكل إرادتها وبشكل متزامن مع استراتيجية القمع والإرهاب في تنفيذ خطتها القديمة الجديدة وهي عزل الإمام (ع) عن الإتصال بجماهير الأمة، وجعله متواجداً في حاضرة الخلافة وهذا يعني بالضبط _وكما أشرنا إليه في فصول سابقة_ عزل اطروحته وقيادته عن المسرح الإجتماعي والسياسي، وهذه خطوة أكثر خطورة من كل الإجراءات القمعية مهما تمادت بإعتبار نتائجها الأولية التي يمكن إعتبار شل قنوات الإتصال بين الإمام (ع) وقاعدته واحدة منها. حيث أن خطورة ذلك تنبع من محدودية التفاعل بين القيادة كأطروحة للتصدي الميداني وبين جماهيرها المؤمنة.
هذه صورة موجزة عن الوضع بصورة عامة، وكان علی الإمام العسكري (ع)(1) أن يتجاوزه لتنفيذ مهمته الحاسمة في تاريخ الأمة ومهما كلف ذلك من تضحيات وعطاءات.
إستراتيجية التحرك:
كما يتضح من خلال سيرة الإمام العسكري (ع) إنه قام بالعمل علی محورين أساسيين لبلورة نظرية القيادة وتعويد جماهير الناس علی ممارستها وكيفية التعاطي معها كأحد أخطر المفردات التي ترسم ملامح مستقبل الأمة:
المحور الأول: بث مفهوم واطروحة القيادة عبر عدد ضخم من الروايات والأحاديث الشريفة، بعضها كان يركز علی جانب "القيادة" كمفهوم حضاري في عملية التحرك الإسلامي، وبعضها الآخر كان يركز في أُطروحة الولاء لأهل البيت (ع) باعتبارهم القيادة الشرعية. وضمن هذا الإطار لعب الرساليون العلماء دوراً بارزاً في تكريس مفهوم القيادة في نفوس الناس.
وننقل هنا بعضاً من فيض الروايات التي جاءت علی لسان الإمام العسكري (ع):
روی القاسم الهروي انه قال(1): خرج توقيع من أبي محمد (ع) إلی بعض بني أسباط قال: كتبت إليه أخبره عن إختلاف الموالي وأسأله إظهار دليل، فكتب لي: وإنما خاطب الله عزوجل العقل ليس يأتي بآية، أو يظهر دليلاً أكثر مما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين، فقالوا ساحر وكاهن وكذاب وهدی الله من اهتدی، غير أن الأدلة يسكن إليها كثير من الناس وذلك أن الله عزوجل يأذن لنا فتتكلم ويمنع فنصمت.
الناس طبقات والمستبصر علی سبيل نجاة ومتمسك بالحق متعلق بفرع أصيل، غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجاً، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه وطبقة استحوذ عليهم الشيطان، شأنهم الرد علی أهل الحق، ودفع الباطل، حسداً من عند أنفسهم، فدع من ذهب (يذهب) يميناً وشمالا ً فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها فما أهون السعي.
ذكرت ما أختلف فيه الموالي فإذا كانت الوصية والكبر فلا ريب ومن جلس مجالس الحكم فهو أولی بالحكم، أحسن رعاية من إسترعيت وإياك والاذاعة وطلب الرئاسة، فإنهما يدعوان إلی الهلكة ذكرت شخوصك إلی فارس فأشخص الله لك، وتدخل مصر انشاء الله آمناً وأقریء من تثق بهم من مواليّ السلام ومرهم بتقوی الله العظيم، وأداء الأمانة وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا.
وعن أبي هاشم قال: كتب إليه بعض مواليه يسأله أن يعلمه دعاء فكتب إليه أن ادع بهذا الدعاء (يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصري