وتحكي لنا كتب التاريخ عن قصص ومشاهد عديدة تبين لنا بوضوح عن مدی الهوة التي كانت تفصل بين ما جاء في الرسالة المتقدمة التي بعث بها المتوكل إلی الإمام الهادي وبين المواقف الجوهرية التي يتبناها اتجاه الإمام (ع) وإزاء التحرك الرسالي.
فلقد كان المتوكل وهو أحد كبار الخلفاء العباسيين أشد من غيره بطشاً وإرهاباً، إذ لم تعانِ الحركة الرسالية قبله يوماً من الممارسات القمعية ما نالته في عهده، إذ لم يكتف بالأساليب القمعية المألوفة في العهود السابقة من الإرهاب ضد رجالات الحركة الرسالية، وإنما تجاوز ذلك عبر إهانة المقدسات الإسلامية، فقد أمر بهدم قبر الإمام الحسين (ع)(4) وما حوله من الدور، وأصر علی أن يحرث القبر ويبذر ويسقي موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، بل وأصدر أوامره لشرطته أن يقدموا بقتل كل من ثبت أنه أراد زيارة الإمام الحسين (ع)، فحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه.
هذه قصة واحدة من أحداث عديدة توضح لنا طبيعة الصراع القائم حينها في عهد الإمام الهادي (ع). وقد أدركت الأمة الإسلامية تماماً بوعيها الرسالي الثاقب حقيقة الإمامة ودورها اتجاه الإمام (ع).
جاء ذات مرة أحد الوشائين إلی المتوكل وقال له: «أنت جالس في قصرك هنا والأموال تحمل إلی علي الهادي، قال: عجيب، من الذي يحمل الأموال إليه؟
قال الآن ستأتي قافله من "قم" _وهي مدينة في ايران_ ومعها أموال إلی علي الهادي فطلب المتوكل فتح بن خاقان أكبر وزرائه وهو قائد الجيش أيضاً، وقال له: يقال أن قافله تأتي من طرف كذا تدخل سامراء غداً صباحاً، فأيدرك أن تأخذ جيشاً وتأخذ علی القافلة وتری إذا كانت في القافلة أموال محمولة إلی علي تقبضها وتأتي بها إليّ.
فخرج الفتح بن خاقان إلی المهمة لكنه لم ينجح، وعن محمد بن داود القمي و محمد الطلحي قال: _ حملنا مالاً من خمس ونذر وهدايا وجواهر إجتمعت في قم وبلادها، وخرجنا نريد بها سيدنا أبا الحسن الهادي (ع) فجاءنا رسوله في الطريق أن ارجعوا فليس هذا وقت الوصول فرجعت إلی قم وأحرزنا ما كان عندنا، فجاءنا أمره بعد أيام أن قد أنفذنا إليكم إبلاً عيراً فاحملوا عليها ما عندكم و خلو سبيلها، قال: _ فحملناها وأودعناها الله فلما كان من قابل، قدمنا عليه، فقال: _ أنظروا إلی ما حملتم إلينا فنظرنا فإذا المنايح كما هي!!
هذه الرواية تدل بوضوح أن الناس كانوا يرتبطون بالإمام (ع) في جميع شئونهم وليس باخليفة، وهناك رواية أخری تدل علی شخصية الإمام القيادية «عن محمد بن الحسم الأشتر العلوي قال كنت مع أبي علی باب المتوكل وأنا صبي في جمع من الناس ما بين طالبي إلی عباسي كلهم حتی دخل، فقال بعضهم لبعض لمن نترجل؟ لهذا الندام وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سناً والله لا ترجلنا له فقال أبو هاشم الجعفري والله لتترجلن له صغره وإذا رأيتموه فيما هو إلّا أن أقبل وبصروا به حتی ترجل الناس كلهم، فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنكم لا تترجلون له؟ فقالوا له: والله ما ملكنا أنفسنا حتی ترجلنا».
السؤال الهام الذي يطرح نفسه الآن: كيف كان منهج الإمام في التعاطي مع مثل هذه الظروف والأوضاع المتقلبة؟
لاشك إن جوهر وطبيعة الموقف السياسي إنما تحدده عوامل متداخله ومتشابكة، ومن الخطأ تعيين إتجاه محدد لمعالجة الظروف المتقلبة وربما نستطيع القول إن الموقف النهائي يجب أن يتسم بحالة نسبية في كل الأحوال بالذات في عالم الصراعات الحضارية.
إننا ومن خلال تتبعنا لمسيرة الحركة الرسالية ضمن تاريخها الجهادي والنضالي الطويل نجد الحقيقة التالية مائلة بوضوح في منهج التحرك لدی الائمة الأطهار (ع) هي المرونة في التعاطي مع الأحداث والمستجدات التي تفرضها طبيعة الأوضاع.
إن تعدد أساليب التحرك عند الائمة (ع) يعطينا دلالة فاطمة علی حيوية الفكر الرسالي الذي جاءت به الحركة الرسالية لتغذية أجيال الأمة يحييها ويرفع شأنها بين الأمم.
ولعلنا نفهم إنه من غير الصحيح أن نعين أسلوباً محدداً لخوض الصراع إذا كنا ننشد العمل الحضاري، ذلك لأن كل مرحلة زمينة معينة لها أحداثها وظروفها التي هي بحاجة إلی المواقف التي تتلائم وإياها حجماً وكيفاً، أمّا الأسلوب الواحد لا يمكنه أن يصمد كثيراً أمام الأوضاع التي لاتتسم بالثبات غالباً كما هو شأن الصراعات السياسية والفكرية بل كل الصراعات الحضارية.
الإمام الهادي (ع) كسائر الائمة الأطهار (ع) تميزت استراتيجيته في التحرك بأقصی حالات الدقة في المرونة والصلابة في التحرك.
ونحن كمسلمين نحمل طموحاً عالياً لإعادة بناء صرح حضارتنا التي هدتها معاول الإلحاد والإستكبار وسنوات التخلف المريرة التي عشناها لابد من أن نستلهم درساً بليغاً من حياة قادتنا (ع) وأبرز هذه الدروس كيف ومتی وأين نطبق المرونة في العمل الإسلامي وكيف ومتی وأين _أيضاً_ تطبق الصلابة في العمل الإسلامي؟!
فبين المرونة والصلابة في العمل الإسلامي خيط رفيع، بحاجة إلی فهم أعمق لمناهج التحرك عند الائمة (ع)، وفيها يعيننا علی ترشيد مسيرتنا الإسلامية بما هو صحيح وسليم، إستوحيناه من أبرز مصادرنا الفكرية والتشريعة متمثلاً في حياة وسيرة الائمة الأطهار (ع(.
وهذا هو الإمام الهادي (ع) مثل وقدوة في ميادين الجهاد والنضال، إذ لم يتوانی لحظة عن أداء مهمة مواصلة الإمتدادات الحضارية التي قام صرح الإسلام العزيز عليها. وقد قدمنا ما هو مورد الحاجة بإيجاز مختصر بعضاً مما يكشف لنا جوانب مهمة في حياة هذا الإمام العظيم (ع). والآن نتساءل: ما هو الاسلوب الأمثل لمواجهة خطط الدولة العباسية، هل العنف وحده أم إعلان حالة الرفض الشعبية العارمة أم أساليب أخری بينهما؟
هنا دعنا نقرأ بعض التفاصيل المهمة في مواقف الإمام الهادي (ع) التي تحدد إتجاهاته في التحرك، لتغنينا عن البحث بما هو شائك وصعب جداً عن سيرتهم المباركة.
أولاً: الحركة الرسالية حركة حضارية ولذلك فهي متعددة الأبعاد والجوانب وشاملة هذا سواء في الفكر أو الممارسة.
ثانياً: الحركة الرسالية تنظيم حضاري علی عاتقه مهمة سماوية مقدسة في تقديم نموذج أمثل لرسالة الإسلام العظيمة.
تأسيساً علی ذلك لابد من أن نفهم تحرك كل الائمة مهما بلغ في إتجاه محدد علی أنه أخذ بعين الإعتبار سائر الأبعاد، إنما إذا برز بعد علی آخر إنما هو كاستجابة ملحة للظروف والأوضاع المعاصرة ولا يعني إطلاقاً إلغاء أو إهمال الأبعاد الأخری في التحرك.
روی ابن مولويه عن الكليني، عن علي بن محمد، عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال(5): مرض المتوكل من خراج خرج به فأشرف منه علی الموت ولم يحرأ أحد أن يمسه بحديده فنذرت أُمه إن عوفي منه أن تحمل إلی أبي الحسن علي بن م