لم يتعلم آل خليفة من التاريخ ، و كان يجب عليهم فعل ذلك، إذ إنّ الإنسان العاقل يدرس ما تراكم من سالف التاريخ فيما يهمه، ليراكم به خبرة تعينه على أمره، في حياته و موته، و المثال التاريخي الأبرز لداء التجنيس هذا الحاصل في البحرين هو استيراد الأتراك و توظيفهم في المواقع العسكرية و الجندية في الدولة العباسية.
و لهذا لابد على الاضطلاع على أوضاع العباسيين و نبذة من تاريخهم المرتبط بمادة الكتاب من جلبهم للأتراك لأنّ كثيرا من قطع التاريخ تتكرر بصورة مشابهة و تسهّل عملية التنبؤ بما تؤول إليه الأوضاع في البحرين إذا استمرت خطط التجنيس و تعاظمت، و هنا قد توجد شبهة مهمة لدى بعض عناصر الحكم و هي القدرة و السيطرة على الأوضاع و إن تعاظمت سطوة و سيطرة المجنسين، و شبهة أخرى أنّ المجنسين يؤثرون سلبيا دائما على الوجود الشيعي و بعض الوجود السني، لكنّ تأثيرهم إيجابيا دائما على وجود القائمين على النظام و هم فرع سلمان آل خليفة، و هذا اشتباه من لا قراءة له في التاريخ و لا قدرة له في أخذ العبر منه ، إنّ الآثار الكبيرة الذي سيخلفها التجنيس لن تطال فئة دون أخرى و لن تستثني النظام و أبناءه ، و لكن وجهة تلك الآثار مختلفة ، فهي عنوانا ضد الشيعي كوجود و ضد السني كعنصر امتيازات و ضد الحكام كمنصب و حاكم، و هو الأخطر و الأكبر ، و مالذي يمنع عن ذلك؟ و السيطرة مفقودة الآن فكيف في المستقبل؟
و درس التاريخ مر لآل خليفة في هذا المجال، و شواهده منتشرة و منتثرة في كتب التاريخ مثل الكامل في التاريخ و غيره ، و كتب الدراسات التاريخية مثل (من التمدن الإسلامي) و غيره . سنأخذ مقطعا تاريخيا يهمنا في كتابنا، و هو حول علاقة العباسيين بالأتراك كيف بدأت و إلى أين انتهت، و لن يكون إسقاطا متطابقا للواقع في البحرين و لكنه لن يكون مختلف النتائج تماما أيضا للاتفاق في أصل المقدمات.
و الترك أمة قديمة و لما ظهر الإسلام عبر المسلمون إلى المناطق التركية ففتحوا بخارى و سمرقند و فرغانة و اشروسنة وغيرها من تركستان ، و لما حكم العباسيون كانت تلك المدن خاضعة للمسلمين يؤدون عنها الجزية والخراج وكانوا يحملون في جملة الجزية أولاداً من أهل بادية تركستان يبيعونهم بيع الرقيق وهم في الغالب من السبي أو الأسرى، يفرقونهم في بلاط الخلفاء ومنازل الأمراء، فأخذوا يدينون بالإسلام.
و أول من استخدم الأتراك في الجندية من الخلفاء المنصور العباسي ولكنهم كانوا شرذمة صغيرة لا شأن لها في الدولة ، و الناظر إلى التاريخ يلاحظ علاقة الحكام بزوجاتهم و أمهاتهم و أثر ذلك على الحياة العامة و شؤون الناس إذ أنهم في موقع نافذ و حساس، و نقطة التحول الكبرى بدأت في عهد الحاكم هارون بن المهدي العباسي، و تأسست في عهد المعتصم ، و قويت و تثبتت في عهد المتوكل ، فهارون خامس الحكام العباسيين ، و الذي يسمى كذبا لدى حكام الجور بالرشيد وهو أبعد ما يكون عن الرشد ، و كيف يكون رشيدا و هو مرتكب الموبقات و مقترف الذنوب و مستهتر بالمعاصي و فاعلها، و الليالي الملاح و الجواري و الغواني و شرب الخمور و قتل الناس بالهوى، و تنكيل و قمع و قتل الشعب، و هو عبرة للحكام أيّما عبرة ، فلقد وصل إلى الحكم في زهرة و زهوة الشباب و انتهى عمره قبل أن تنتهي زهوته و عقود شبابه، فبدأ الحكم و عمره 22 سنة و مات غير مأسوف عليه و عمره 43 سنة ، و كانت أكبر رقعة على الأرض في ذلك الوقت يحكمها هذا الفاجر ، و لكن أين هو اليوم ؟ بل أين أسلافه و أحفاده؟ و أين الطغاة الذين سبقوه و لحقوه ؟ و أين الفراعنة ؟ و أين الأمويون ؟ لا تجدهم إلا في مزابل التاريخ في الدنيا أما في الآخرة فيوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين و الطغاة و المستكبرين و أعوانهم ، و من السخرية أن تجد مغفلين يترضون على الطغاة ، دون أن يحترموا عقولهم و أنفسهم ثم يطلبون من العالم الحر أن يحترمهم ، و قد يدّعون أنهم يتطورون و يتقدمون و عقولهم جامدة تقدس الفجَرة العَهرة الغَدرة مثل هارون العباسي.
لقد كان لهارون العباسي آلاف الجواري و تزوج عدة نساء ، منهم العربية زبيدة أم محمد الأمين بن هارون ، و الفارسية مراجل أم عبد الله المأمون بن هارون ، و التركية ماردة أم محمد المعتصم بن هارون.
و قسّم هارون ولاية العهد بين أبنائه الثلاثة، الأمين و المأمون، و المؤتمن، و قدّم الأمين على المأمون والمؤتمن و هو لم يبلغ من العمر إلا خمس سنين و لم يكن يعرف إلا الغناء والخمر والرقص و الجواري والغلمان، وتاريخه مذكور بتفصيل في كتب التاريخ و الأعلام ، ثم المأمون ، ثم المؤتمن و هو القاسم بن هارون و لكن جعل خلعه وإثباته إلى المأمون، فحكم الأمين و اقترب العرب ، و حكم المأمون و اقترب الفرس، و خلع المأمون أخاه المؤتمن و قيل أنه مات في زمن والده.
و حكم المعتصم بن هارون بعد أخيه المأمون بعهدٍ منه ، إذْ لم يكن من ولاة العهد الذين عيّنهم هارون ، و بدأ النفوذ التركي ، و كان المعتصم و أمه تركية فيه كثير من طبائع الأتراك مع الميل إليهم لأنهم أخواله كما كان يميل المأمون إلى الفرس. وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه، ولم يكن له ثقة بالعرب وقد ذهبت عصبيتهم وأخلدوا إلى الحضارة والترف وانكسرت شوكتهم فرأى أن يتقوى بالأتراك وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش مع الجرأة على الحرب والصبر على شظف العيش، فجعل يتخيّر منهم الأشداء. فلما أفضت الخلافة إليه كان الأتراك عوناً له وتكاثروا حتى ضاقت بغداد بهم وصاروا يؤذون العوام ، و لا يتسمون بالسلوك الحسن تجاه الناس، فكانوا يطردون خيلهم ودوابهم في طرق بغداد وشوارعها، فيصدمون الرجل والمرأة و يطأون الصبي، فينال الضعفاء والصبيان من ذلك أذىً كثيراً وربما رأوا الواحد بعد الواحد قتيلاً في قارعة الطريق.
و تزوج المعتصم من شجاعة و هي تركية أيضا و هي أم المتوكل و هو أحد ألعن الحكام في التاريخ الإسلامي ، وكثر التزاوج بين الحكام العباسيين و النساء التركيات ، و ذكروا أنّ سغاب تركية و هي أم المقتدي، و كذلك آلتون أم المستظهر ، و كوموش أم المسترشد، و زمر أم الناصر، و سلجوقة أم الظاهر، و تورك أم المستنصر ، و غيرهنّ من نساء تركيات. و نحن نذكر ألقابهم التي اشتهروا بها و عرفوا بها دون أسمائهم ، و إن كانت هذه الألقاب فارغة لا تساوي شيئا ، لا في عقول و قلوب الشعوب و لا الحكام ، و تستعمل للضحك و السخرية على شعوب الأمة.
و كان المعتصم عرياً من العلم، ضعيف القراءة والكتابة، بل قيل أنه كان أُمياً لا يقرأ ولا يكتب، و راح يعيث في الأرض نهباً وفساداً، و كان مشتغلاً باللهو والمجون كسابقيه من أسلافه، و يكثر من شرب الخمر ، و يحب الغناء الذي حرمه الله ويستمع إليه ، و كان كثير الظلم و البطش والعنف بالأبرياء ، و إذا غضبَ لا يُبالي من قتل وما فعل ، وكثير التبذير على مصالحه الشخصية و قصوره ، وعلى المغنين والمتملقين وشعراء الجور والباطل ، و قام بجمع الأتراك واقتنائهم وبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم، وبذل فيهم الأموال، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب ، و قد بلغوا الآلاف فقيل عشرين ألفا و قيل أربعة آلاف، و كانت هذهِ سابقة خطيرة في تاريخ الحكام أو (الخلفاء) .
و اتفق أنّ المعتصم خرج بموكبه يوم عيد فقام إليه شيخ فقال له: يا أبا إسحاق فأراد الجند ضربه فمنعهم وقال: يا شيخ ما لك؟ قال: لا جزاك الله عن الجوار خيراً ، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا و أرملت نساءنا و قتلت رجالنا ، و المعتصم يسمع ذلك.
و كأنّما المعتصم خشي انقلاب الأمر عليه فلم يدخل بغداد بل سار يلتمس معسكراً لأجناده حتى أتى سامرّاء فاتخذها معسكراً ، و بدل أن يحول بينهم وبين أفعالهم المنكرة راح يبحث عن مكانٍ يمرح فيه أتراكه على راحتهم ، و اختط في سامراء الخطط وأقطع أتراكه القطائع على حسب القبائل ومجاورتهم في بلادهم وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك التجار، فبنى الناس وارتفع البنيان وشيدت القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه ، و تسامع الناس بسامراء دار الملك فقصدوها فكثر العيش.
و العجيب أنّه كان يصفهم بأولاد الزنا و هو متبجح في ذلك غير مستح ولا خجل مما يقول عن أتراكه، فقد ذكر صاحب تاريخ بغداد بسنده رواية جاء فيها ( كنتُ أنا ويحيى بن أكثم نسير مع المعتصم وهو يريد بلاد الروم، قال: فمررنا براهب في صومعته ، فوقفنا عليه وقلنا : أيها الراهب، أترى هذا الملك يدخل عمورية؟ فقال: لا، إنّما يدخلها ملك أكثر أصحابه أولاد زنا ، قال: فأتينا المعتصم فأخبرناه، فقال: أنا