لقد اتيحت الفرصة للأمام السجاد (ع) لإستثمار ظروف مابعد معركة عاشوراء وعلی مدار 33 عاماً، ركز فيها علی تحقيق الأهداف التي أرادت نهضة الإمام الحسين (ع) ايجادها في الأمة.
وظلّ خلال هذه المدة الزمنیة يعكس تفاصيل المعركة والقيم التي أرادت غرسها في الأمة.
وبالفعل اتت ثورة الإمام الحسين أكلها حين تغذت الأمة بشكل كافٍ بروح المسؤولية واخلاقيات الصراع واندفعت بقوة للمطالبة بحقوقها، ورد المظالم التي كانت تفتك بها من قبل آل أمية، فنشبت أحداث ثورات عديدة في الساحة حركت بل وغيرت الكثير من معادلات الجمود التي كانت تلفها فيما مضی من الوقت.
ويجيء الإمام الباقر (ع) ليستلم مهام القيادة الشرعية والأمة معبأة بشكل كافٍ لمقاومة عوامل الإنحراف السياسي والإجتماعي الذي يحاول الحزب الأموي تكريسها وتعميقها في صفوف الأمة.
والسؤال: ما هو الدور الذي قام به الإمام الباقر (ع) وأداه في هذه الفترة الزمنية من عمر الصراع؟
قبل الحديث عن دور الإمام (ع) لابد من المرور علی مجمل معطيات الواقع حينها، لتكون خليفة واضحة لما سيقوم به الإمام (ع) لمواصلة المسيرة الرسالية المباركة في الأمة.
يمكن لنا تلخيص أبرز ملامح الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي الذي كانت تعيشه الأمة خلال الفترة الزمنية التي تلت العام الهجري 94، بمايلي:
1/ القوی السياسية:
أ_ الحزب الأموي: الذي بدأت عوامل الضعف تنخر في كيانه لأسباب عديدة أبرزها: عمل ونشاط المؤمنين الرساليين وسط جماهير الأمة لتعرية الحزب الأموي وكشف زيف ادعاءاته بالإسلام، واتجاه آل أمیة الإستهتار بكل القيم والمبادیء التي جاء بها الإسلام.
ب_ الخوارج: الذين تنامت قوتهم في هذه الفترة لما يبذلونه من جهد وتضحية من أجل تصديق قناعاتهم وأفكارهم في الساحة، حتی إنهم قادوا بعض الحملات ضد الحزب وانتصروا في بعضها(1). وهم يشكلون إحدی القوی السياسية الفاعلة في هذه الفترة.
ج_ المرجئة: وهم أصحاب الفكرة التي إنطلقت لتبرير ملك آل أمية وسيطرتهم علی سدة الخلافة، وهم يكفرون عثمان بن عفان والإمام علي (ع) ومعاوية. ولديهم من القوة مايمكنهم من مقاتلة ومحاربة كل من يعترض أفكارهم وقناعاتهم التي يؤمنون بها.
د_ المعتزلة أو القدرية: التي رغم أنَّها إبتدأت أول الأمر طائفة دينية لا دخل لها في السياسية لكنها لم تلبث أن دخلت في معارك سياسية لصالح معتقداتها.
* * *
من مجموع هذه القوی الأربع إضافة إلی تيار الحركة الإسلامية بقيادة الإمام الباقر (ع) تتشكل خارطة القوی السياسية التي كانت تمثل أطراف معادلة الصراع حينها.
وتتفق كل هذه القوی رغم التباين والإختلاف الجوهري الواضح بينها علی ضرورة إزالة آل أمية من سدة الخلافة الإسلامية، مستندين في ذلك إلی أسباب عديدة أبرزها فساد هذه الأسرة وتحويلهم مسألة الخلافة الإسلامية إلی نظام ملكي وراثي إستبدادي.
2/ الوضع الإجتماعي:
أمّا بالنسبة للواقع الإجتماعي فكان منقسماً لطبيعة عمل التيارات السياسية والفكرية التي كانت تتحرك حسب قناعاتها في وسط الناس.
وما يمكن أن يقال بالنسبة لحجم التفاعل الجماهيري بالنسبة لخط أئمة أهل البيت (ع) هو وسعة انتشاره خاصة وأن الأئمة (ع) شجّعوا بعض كوادر الأمة لتبني إطارات عمل مختلفة لمواجهة آل أمية عبر حركات ثورية ضارية. وتؤكد معظم المصادر التاريخية علی أن الأئمة (ع) كانوا يقفون وراء الحركات الثورية التي قامت لضرب الحزب الأموي وقد مرّ قبل ذكر نماذج من هذه الثورات.
إن الشعور بالإثم الذي توّلد بعد التقصير في نصرة الإمام الحسين (ع) في معركة يوم عاشوراء، ومن جهود الإمام السجاد (ع) لتغذية هذا الشعور ولّد إندفاعاً قوياً نحو القيام بعمل ثوري ما للتخفيف من وطأة ألم الشعور بالإثم، وأصبحت الساحة الجماهيرية معبأة ومهيأة للمشاركة في أي عمل جهادي ثوري يخدم الإتجاه الشرعي الذي يمثله الائمة (ع) باعتبارهم الإمتداد الشرعي للرسول الأعظم (ص).
لقد تجمع الرسالييون في تحريك إرادة الأمة نحو ما يحييها ويعيد لها ما فقدته خلال سنوات الانحراف، ولكنها الآن بحاجة إلی عمل فكري دقيق يعمق فيها الوعي والفهم والادراك السليم للإسلام كمفهوم حياتي وحضاري.
وتأتي أهمية مثل هذا العمل بالذات لأنّ مسرح الصراع السياسي هو الذي طغی وكون خط أهل البيت (ع) إحدی اطرافة القوية مما جعل من مسألة إدخال الثقافة الإسلامية ترتبط بما يخدم التوجهات السياسية الحاكمة في تلك الظروف الحساسة، رغم أن الأئمة (ع) كانوا يلتمسون مختلف الطرق لتوضيح الأبعاد الحضارية والفكرية لكل أعمالهم السياسية التي قاموا بها. أضف إلی ذلك بروز تيارات فكرية تدعوا لبعض أفكارها الهدامة رغم صبغة «التوحيد» التي كانت تلبسها (كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة) ومما يُعدخطراً ما حقاً علی وعي عامة المسلمين برسالة الإسلام التي جاء بها الرسول الأكرم (ص).
ومن هنا ولكي لاتقع الأمة في منزلق فهم الإسلام كأنما هو رسالة للتعاطي فقط مع الواقع السياسي القائم، ولكي يصبح الإسلام قادراً علی مجابهة تيارات الإنحراف التي بدأت تجد آذانا صاغية في الأمة. لكي لايحدث ذلك كان لابد من القيام بعمل فكري وعلمي مركز لشرح أبعاد رسالة الإسلام المختلفة، دينياً، إجتماعياً، إقتصادياً وثقافياً.
ولاشك إن بلورة نظرية إسلامية متكاملة في هذا المجال، وحتی تصبح ثقافة حية في نفوس الأمة، وتتحول إلی وعی سليم بجوانب التحرك الإسلامي بحاجة إلی مدة زمينة غير قليلة، بالذات إذا نظرنا إلی جانب التحديات الموجودة التي كانت تعرقل مسار مثل هذا العمل في مثل هذه الفترة والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
في مثل هذه الفترة والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1/ تحدي العمل السياسي الموجود إذ لابد للإما