ولادة الامام الصادق(ع)
ولم تمضِ فترةٌ طويلةٌ من زواج السيدة (أُمّ فروة) بالإمام محمّد الباقر (عليه السلام) حتَّي حملت، وعمت البشري أفراد الأُسرة العلوية، وتطلعوا إلي المولود العظيم تطلعهم لمشرق الشمس، ولما أشرقت الأرض بولادة المولود المبارك في سنة 85 هـ سارعت القابلة لتزف البشري إلي أبيه فلم تجده في البيت، وإنّما وجدت جده الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فهنأته بالمولود الجديد، وغمرت الإمام موجات من الفرح والسرور لأنه عَلِمَ أنّ هذا الوليد سيجدد معالم الدين، ويحيي سنّة جدّه سيّد المرسلين (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وأخبرته القابلة بأنَّ له عينينِ زرقاوينِ جميلتينِ، فتبسم الإمام (عليه السلام) وقال: إنه يشبه عيني والدتي1.
وبادر الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلي الحجرة فتناول حفيده فقبّله، وأجري عليه مراسيم الولادة الشرعية، فأذّن في اُذنه اليمني، وأقام في اليسري.
لقد كانت البداية المشرقة للإمام الصادق (عليه السلام) أن استقبله جدّه الذي هو خير أهل الأرض، وهَمَسَ في أذنه:
«اللّه أكبر..»
«لا إله إلاّ اللّه»
وقد غذّاه بهذه الكلمات التي هي سرّ الوجود لتكون أنشودته في مستقبل حياته.
مظاهر من شخصية الامام الصادق(ع)
سعة علمه
لقد شقَّق الإمام الصادق (عليه السلام) العلوم بفكره الثاقب وبصره الدقيق، حتَّي ملأ الدنيا بعلومه، وهو القائل: «سلوني قبل أن تفقدوني فإنه لا يحدثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي»2. ولم يقلْ أحدٌ هذه الكلمة سوي جده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأدلي (عليه السلام) بحديث أعرب فيه عن سعة علومه فقال: «واللّه إني لأعلم كتاب اللّه من أوله إلي آخره كأنه في كفي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان، وخبر ما هو كائن، قال اللّه عزَّ وجلَّ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـبَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)3.
وقد كان من مظاهر سعة علمه أنه قد ارتوي من بحر علومه أربعة آلاف طالبٍ وقد أشاعوا العلم والثقافة في جميع الحواضر الإسلامية ونشروا معالم الدين وأحكام الشريعة4.
كرمه وجوده
لقد كان الإمام الصادق (عليه السلام)، من أندي الناس كفا، وكان يجود بما عنده لإنعاش الفقراء والمحرومين، وقد نقل الرواة بوادر كثيرةً من كرمه، كان من بينها ما يلي:
1 ـ دخل عليه أشجع السلمي فوجده عليلاً، وبادر أشجع فسأل عن سبب علته، فقال (عليه السلام): تعدّ عن العلة، واذكر ما جئت له فقال:
أَلبسك اللّه منه عافيةً
في نومِكَ المعتري وفي أرقكْ
يُخرْج من جسمِكَ السقامَ
كما أخرج ذلَّ السؤالِ من عنقك
وعرف الإمام حاجته فقال لغلامه: أي شيءٍ معك؟ فقال: أربعمائة. فأمره بإعطائها له5.
2 ـ ودخل عليه المفضل بن رمانة وكان من ثقاة أصحابه ورواته فشكا إليه ضعف حاله، وسأله الدعاء، فقال (عليه السلام) لجاريته: «هاتِ الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر، فجاءته به، فقال له: هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن به، فقال المفضل: لا واللّه جُعلت فداك ما أردت هذا، ولكن أردت الدعاء، فقال (عليه السلام): لا أَدَعُ الدعاء لك»6.
3 ـ سأله فقيرٌ فأعطاه أربعمائة درهمٍ، فأخذها الفقير، وذهب شاكرا، فقال (عليه السلام) لخادمه: ارجعه، فقال الخادم: سئلت فأعطيت، فماذا بعد العطاء؟ قال (عليه السلام): قال رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم): «خير الصدقة ما أبقت غني»، وإنّا لم نغنه، فخذ هذا الخاتم فاعطه فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهمٍ، فإذا احتاج فليبعه بهذه القيمة»7.
تواضعه
ومن مظاهر شخصيته العظيمة نكرانه للذات وحبه للتواضع وهو سيّد المسلمين، وإمام الملايين، وكان من تواضعه أنه كان يجلس علي الحصير8، ويرفض الجلوس علي الفرش الفاخرة، وكان ينكر ويشجب المتكبرين حتّي قال ذات مرة لرجل من إحدي القبائل: «من سيّد هذه القبيلة؟ فبادر الرجل قائلاً: أنا، فأنكر الإمام (عليه السلام) ذلك، وقال له: لو كنت سيّدهم ما قلت: أنا..»9.
ومن مصاديق تواضعه ونكرانه للذات: أنّ رجلاً من السواد كان يلازمه، فافتقده فسأل عنه، فبادر رجلٌ فقال مستهينا بمن سأل عنه: إنه نبطيٌّ... فردّ عليه الإمام قائلاً: «أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، وكرمه تقواه، والناس في آدمَ مستوون...» .
فاستحيي القائل10.
صبره
ومن الصفات البارزة في الإمام (عليه السلام) الصبر وعدم الجزع علي ما كان يلاقيه من عظيم المحن والخطوب، ومن مظاهر صبره أنه لما توفي ولده إسماعيل الذي كان ملأ العين في أدبه وعلمه وفضله ـ دعا (عليه السلام) جمعا من أصحابه فقدّم لهم مائدةً جعل فيها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان، ولما فرغوا من تناول الطعام سأله بعض أصحابه، فقال له: يا سيدي لا أري عليك أثرا من آثار الحزن علي ولدك؟ فأجابه (عليه السلام): «وما لي لا أكون كما تَرون، وقد جاء في خبر أصدق الصادقين ـ يعني جده رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ـ إلي أصحابه إني ميتٌ وإياكم»11.
ملامح عصر الامام الصادق(ع)
تصدّي الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) لموقع الإمامة بعد أبيه محمّدالباقر (عليه السلام) سنة (114 ه ) فكان مرجعا في الدين، والسياسة، والفكر، والثقافة للمسلمين عامة، ولأتباع أهل البيت (عليهم السلام) بشكل خاص.
وهذا الأمر نجده واضحا في جوابه لأبيه عند ما أوصاه بصحابته وخاصّته. قال الإمام الصادق (عليه السلام): «لما حضرت أبي الوفاة قال: يا جعفر اُوصيك بأصحابي خيرا. قلت: جعلت فداك واللّه لأدعنّهم والرجل منهم يكون في مصرٍ فلا يسأل أحدا»12.
بهذا المستوي العالي من الإقد