لقد توفّرت للإمام زين العابدين (عليه السلام) جميع المكوّنات التربوية الرفيعة التي لم يظفر بها أحدٌ سواه، وقد عملت علي تكوينه وبناء شخصيّته بصورة متميّزة، جعلته في الرعيل الأوّل من أئمّة المسلمين الذين منحهم الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ثقته، وجعلهم قادة لاُمّته واُمناء علي أداء رسالته.
نشأ الإمام في أرفع بيت وأسماه ألا وهو بيت النبوّة والإمامة، الذي أذن اللّه أن يرفع ويذكر فيه اسمه1، ومنذ الأيام الاُولي من حياته كان جده الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يتعاهده بالرعاية، ويشعّ عليه من أنوار روحه التي طبّق شذاها العالم بأسره، فكان الحفيد ـ بحقٍّ ـ صورة صادقة عن جدّه، يحاكيه ويضاهيه في شخصيّته ومكوّناته النفسية.
كما عاش الإمام (عليه السلام) في كنف عمّه الزكي الإمام الحسن المجتبي (عليه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وسبطه الأوّل، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه، ويغرس في نفسه مُثُلَه العظيمة وخصاله السامية، وكان الإمام (عليه السلام) طوال هذه السنين تحت ظلّ والده العظيم أبي الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) الذي رأي في ولده عليّ زين العابدين (عليه السلام) امتداداً ذاتيّاً ومشرقاً لروحانيّة النبوّة ومُثُل الإمامة، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته، وقدّمه علي بقية أبنائه، وصاحَبَه في أكثر أوقاته.
لقد ولد الإمام زين العابدين (عليه السلام) في المدينة في اليوم الخامس من شعبان سنة (36 ه )2 يوم فتح البصرة، حيث إنّ الإمام عليّ (عليه السلام) لم ينتقل بعد بعاصمته من المدينة الي الكوفة. وتوفّي بالمدينة سنة (94 أو 95 ه ).
وقد ذكر بعض المؤرخين أنّه ولد في سنة (38 ه ) وفي مدينة الكوفة، حيث كان جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد اتّخذها عاصمة لدولته بعد حرب الجمل، فمن الطبيعي أن يكون الحسين السبط (عليه السلام) مع أهله وأبيه (عليه السلام) في هذه الفترة بشكل خاص3 .
مراحل حیاة الامام زین العابدین(ع)
تنقسم حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) ـ كما تنقسم حياة سائر الأئمة (عليهم السلام) ـ الي مرحلتين متميّزتين:
1 ـ مرحلة ما قبل التصدّي للإمامة والزعامة.
2 ـ مرحلة التصدّي وممارسة القيادة حتي الشهادة.
لقد عاش الإمام زين العابدين (عليه السلام) في المرحلة الاُولي من حياته فيظلال جدّه الإمام أمير المؤمنين ، وعمّه الإمام الحسن المجتبي وأبيه الإمام الحسين سيد الشهداء (عليهم السلام) مدة تناهز العقدين ونصف العقد، حيث قضي في كنف جدّه الإمام عليّ (عليه السلام) ما يزيد قليلاً عن أربع سنواتٍ، وما لا يقل عن سنتين لو كانت ولادته سنة (38 ه ) .
بينما قضي عقداً آخر من حياته في كنف عمّه وأبيه (عليهما السلام) حيث استشهد عمّه الإمام الحسن السبط (عليه السلام) سنة 50 هجرية.
كما قضي عقداً ثانياً في ظلّ قيادة أبيه الحسين السبط (عليه السلام) وهي الفترة الواقعة بين مطلع سنة (50 ه ) وبداية سنة (60 ه ) .
لقد عاش الإمام زين العابدين (عليه السلام) فترة المخاض الصعب خلال المرحلة الاُولي من حياته والتي قضاها مع جدّه وعمّه وأبيه (عليهم السلام) ، واستعدّ بعدها لتحمّل أعباء الإمامة والقيادة بعد استشهاد أبيه، والصفوة من أهل بيته وأصحابه في ملحمة عاشوراء الخالدة، التي مهّد لها معاوية بن أبي سفيان وتحمّل وزرها ابنه يزيد المعلن بفسقه، والمستأثر بحكم اللّه في أرض الإسلام المباركة.
وأمّا المرحلة الثانية من حياته الكريمة قد ناهزت ثلاثة عقودٍ ونصف عقدٍ من عمره الشريف، وعاصر خلالها كُلاًّ من حكم يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان، ثم اغتالته الأيدي الاُموية الأثيمة بأمر من الحاكم وليد بن عبدالملك بن مروان واستشهد في (25) من المحرّم أو ما يقرب منه سنة (94) أو (95) هجرية عن عمر يناهز (57) سنة أو دونها قليلاً4 فكانت مدّة إمامته وزعامته حوالي (34) سنة.
وفي هذه الدراسة نقسّم المرحلة الثانية من حياة هذا الإمام الحافلة بأنواع الجهاد الي قسمين متميزين من الكفاح والجهاد :
الأوّل: جهاده بعد ملحمة عاشوراء وقبل استقراره في المدينة .
الثاني: جهاده بعد استقراره في المدينة.
وعلي هذا التقسيم سوف ندرس حياته ضمن مراحل ثلاث:
الاُولي: حياته قبل استشهاد أبيه (عليه السلام).
الثانية: حياته بعد استشهاد أبيه وقبل استقراره في المدينة.
الثالثة: حياته بعد استقراره في المدينة.
مظاهر من شخصیة الامام زین العابدین (ع)
الحلم
كان الإمام من أعظم الناس حلماً، وأكظمهم للغيظ، فمن صور حلمه التي رواها المؤرّخون :
1 ـ كانت له جارية تسكب علي يديه الماء إذا أراد الوضوء للصلاة، فسقط الإبريق من يدها علي وجهه الشريف فشجّه، فبادرت الجارية قائلة: إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: (والكاظمين الغيظ) وأسرع الإمام قائلاً : «كظمت غيظي»، وطمعت الجارية في حلم الإمام ونبله، فراحت تطلب منه المزيد قائلة: (والعافين عن الناس) فقال الإمام (عليه السلام): «عفا اللّه عنك»، ثمّ قالت: (واللّه يحبّ المحسنين). فقال (عليه السلام) لها: «اذهبي فأنت حرّة»5.
2 ـ سبّه لئيمٌ فأشاح (عليه السلام) بوجهه عنه، فقال له اللئيم: إيّاك أعني... وأسرع الإمام قائلاً: «وعنك اُغضي...» وتركه الإمام ولم يقابله بالمثل6.
3 ـ ومن عظيم حلمه (عليه السلام): أنّ رجلاً افتري عليه وبالغ في سبّه، فقال (عليه السلام) له: «إن كُنّا كما قلت فنستغفر اللّه، وإن لم نكن كما قلت فغفر اللّه لك...»7.
السخاء
أجمع المؤرِّخون علي أنّه كان من أسخي الناس وأنداهم كفّاً، وأبرَّهم بالفقراء والضعفاء، وقد نقلوا نوادر كثيرة من فيض جوده، منها:
1 ـ مرض محمّد بن اُسامة فعاده الإمام (عليه السلام) ، ولمّا استقرّ به المجلس أجهش محمّد بالبكاء، فقال له الإمام (عليه السلام): ما يبكيك؟ فقال: عليّ دين، فقال له الإمام: كم هو؟ فأجاب: خمسة عشر ألف دينار، فقال له الإمام (عليه السلام): هي عليّ، ولم يقم الإمام من مجلسه حتي دفعها له8.
2 ـ ومن كرمه وسخائه أنّه كان يطعم الناس إطعاماً عامّاً في كلّ يوم، وذلك في وقت الظهر في داره9.
3 ـ وكان يعول مائة بيتٍ في السرّ، وكان في كلّ بيتٍ جماعة من الناس10.
الزهد
لقد اشتهر في عصره (عليه السلام) أنّه من أزهد الناس حتي أنّ الزهري حينما سُئل عن أزهد الناس قال: عليّ بن الحسين11.
نظر عليّ بن الحسين (عليه السلام) سائلاً يسأل وهو يبكي، فقال: «لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي عليها