ابنا : أبو علي الحسين بن عبدالله بن الحسن بن علي بن سينا ، الملقب بالشيخ الرئيس ، فيلسوف ، طبيب وعالمِ ، ومن أعظم رجال الفكر في الإسلام ومن أشهر فلاسفة الشرق وأطبائه . و لقبه الغربيون بألقاب شتى ( الشيخ الرئيس ، أمير الأطباء ، المعلم الثالث ،…) و يعد أول شخص يكتب عن الطب في العالم…
وُلد في قرية ( أفشنة ) الفارسية في صفر من سنة 370هـ ، ثم انتقل به أهله إلى بخاري حيث كانت الفارسية لغة البلاط ، والعربية لغة الديوان والمراسلات. وفي بخاري تعمّق في العلوم المتنوعة من فقه وفلسفة وطب ، وبقي في تلك المدينة حتى بلوغه العشرين.
ثم انتقل إلى خوارزم حيث مكث نحواً من عشر سنوات ( 392-402هـ) ، ومنها إلى جرجان فإلى الري. وبعد ذلك رحل إلى همذان وبقي فيها تسع سنوات، ومن ثم دخل في علاء الدول في أصفهان.
وهكذا أمضى حياته متنقلاً حتى وفاته في همذان ، في شهر شعبان سنة 427هـ .حياته و طفولته:
لم تكن الدولة في عهد ابن سينا على شيء من الأمن و الاستقرار ، فقد عاش في خضمّ ظروف عاصفة ومليئة بالاضطرابات والتقلّبات السياسية، حيث عاش فترة انحطاط الدولة العباسية، في عهود الخلفاء الطائع والقادر والقائم وغيرهم، وهذا ما جعل البلاد نهباً للطامعين من كل حدب وصوب، فاقتطعت من البلاد مناطق كثيرة، وأقيمت فيها دويلات متخاصمة ومتناحرة فيما بينها…
حفظ ابن سينا القرآن الكريم وهو ابن عشر سنين ثم أخذ يرتحل في البلاد (بخارى و خوارزم و همذان) يتلقى فيها العلوم و المعارف ، فدرس الفلسفة و المنطق على يد أبي عبد الله النائلي الذي أثارته نباهة ابن سينا و إقباله الشديد على العلم…
ثم رغب بدراسة الطب ، فانكب على الكتب و المخطوطات الطبية يلتهمها ، و درسه على يد ابن سهل المسيمي ، و أبي المنصور بن نوح القمري ، و قد بلغ عمره آنذاك ست عشرة سنة ، و يروى أنه حاول قراءة كتاب ما بعد الطبيعة ، إلا أنه عصي عليه فهمه لصعوبة محتواه حتى قرأه أربعين مرة و لم يفهمه ، إلا أن معضلته انحلت عندما قرأ كتاب الفارابي : ” أغراض ما بعد الطبيعة”..
و قد أفاد من نبوغه المبكر في الطبّ، فعالج المرضى حباً للخير واستفادة بالعلم، وليس من أجل التكسّب، وفتحت له الأبواب على أثر معالجته لمنصور بن نوح الساماني من مرض عجز الأطباء عن شفائه منه، فقرّبه إليه، وفتح له أبواب مكتبته التي كانت تزخر بنفائس الكتب والمجلّدات والمخطوطات،فأقبل عليها يقرأها كتاباً بعد كتاب…
كانت شخصية ابن سينا شخصيةً جادّةً تقبل التحدّي وتغوص في عمق المسائل، فعلى أثر محاورة حصلت بينه وبين رجل اللغة “أبو منصور الجبائي” يومئ فيها إلى ضعف و وهن طفيف في علوم اللغة عند ابن سينا، عكف على دراسة اللغة ثلاث سنوات كاملة، فبلغ جراء ذلك مرتبة عظيمة في اللغة، وأنشأ ثلاث قصائد ضمّنها ألفاظاً غريبة من اللغة…..!
آثاره:ترك ابن سينا مؤلفات متعددة شملت مختلف حقول المعرفة في عصره ، وأهمها :
- العلوم الآلية ، وتشتمل كتب المنطق ، وما يلحق بها من كتب اللغة والشعر .
- العلوم النظرية ، وتشتمل على كتب العلم الكلّي ، والعلم الألهي ، والعلم الرياضي ، والعلم الطبيعي .
- العلوم العلمية ، وتستمل على كتب الأخلاق ، وتدبير المنزل ، وتدبير المدينة ، والتشريع.
ولهذه العلوم الأصلية فروع و توابع، فالطب مثلاً من توابع العلم الطبيعي، والموسيقى وعلم الهيئة من فروع العلم الرياضي .
مؤلفاته في العلوم :1- كتب الرياضيات: من آثار ابن سينا الرياضية رسالة الزاوية ، ومختصر إقليدس ، ومختصر الأرتماطيقي ، ومختصر علم الهيئة ، ومختصر المجسطي ، ورسالة في بيان علّة قيام الأرض في وسط السماء، طبعت في كتاب ( جامع البدائع) في القاهرة سنة 1917م
2- كتب الطبيعيات : جمع طبيعيات ابن سينا في الشفاء والنجاة والإشارات، وما نجده في خزائن الكتب من الرسائل ليس سوى تكملة لما جاء في هذه الكتب من هذه الرسائل : رسالة في إبطال أحكام النجوم ، ورسالة في الأجرام العلوية، وأسباب البرق والرعد ، ورسالة في الفضاء ، ورسالة في النبات والحيوان.
3- كتب الطب : أشهر كتب ابن سينا الطبية كتاب القانون ، وهو يشتمل على خمسة أقسام: الأول في الأمور الكلية من علوم الطب ، والثاني في الأدوية المقررة الموضوعة على حروف المعجم، والثالث في الأمراض الجزئية الواقعة بأعضاء الإنسان ، والرابع في الأمراض الجزئية التي إذا وقعت لم تختص بعضو ، والخامس في الأدوية المركبة .
ولكتاب القانون شروح ومختصرات ، فقد طُبع في روما في سنة 1593م ،وفي القاهرة سنة 1290هـ وترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر على يد ( جيرار دي كريمونا) كما ترجم إلى العبرية سنة 1279م في روما. ومما يدل على سعة انتشار ( القانون) أنه طبع باللاتينية في القرن الخامس عشر ست عشرة مرة ، وأعيد طبعه في القرن السادس عشر عشرين مرة ، وظل يُدرس في جامعات أوروبا حتى آواخر القرن التاسع عشر.
ويرى العلماء أن طب ابن سينا في القانون مختلف عن طب الرازي وابن زهر ، وأنه اتبع مذهب أبقراط المعدّل بطريقة أرسطو، فأدخل على علم الطب نظرية الأسباب الأربعة وانكشف له من أسباب المعالجات وتركيب الأدوية ما لم ينكشف لغيره. إلا أنه أهمل الجراحة لاعتقاده أنها تدل على نقص في وسائل المعالجة، وأنها أعمال يدوية لا تتفق وشرف المهنة الطبية .
ومن كتب ابن سينا الطبية كتاب ( الأدوية القلبية) ، طبع في الآستانة ، وكتاب ( دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية ) ، وكتاب القولنج ، ورسالة في ( سياسة البدن وفضائل الشراب) ، ورسالة في ( تشريح الأعضاء) ، ورسالة في ( الفصد ) ، ورسالة في ( الأغذية والأدوية ) .
ولابن سينا أراجيز طبية كثيرة منها :
أرجوزة في التشريح ، أرجوزة المجربات في الطب ، الألفية الطبية المشهورة التي طُبعت في كلكوتا سنة 1829 وترجمت إلى اللاتينية .
طب ابن سينا
يقسّم ابن الطب إلى قسمين : نظري وعلمي ، ثم يصنّف الأمراض وفقاً لمفقودات الأعضاء المختلفة ولرطوبات البدن .وأنه لشيء يدعو للإعجاب أن يقول الشيخ الرئيس، ومنذ ألف سنة ، بتقسيم الأمراض إلى طبقات وفئات، وهو ما لا يختلف كثيراً عن الموازين والأصول العلمية الطبية اليوم.
ويقسم الأمراض إلى خارجية وداخلية ، وهو يرى أن الأمراض الخارجية لا ترتبط كثيراً بالرطوبات والأفعال وانفعالات الجسم ، بل يكفي أن ترتفع الأعراض الخارجية ليزول المرض. أما الأمراض الداخلية فيعطي فيها للرطوبة والمفقودات العفونية الداخلية أهمية كبرى ، ويرى أن تلك الأمراض إنما هي نتيجة لاختلال في الأعضاء، ولتغييرات حاصلة من رطوبة البدن. وينبغي القول هنا أن ابن سينا ينفصل عن علماء اليونان ، ولا يعد المرض عنصراً خاصاً مستقلاً .
ويصف الشيخ الرئيس في كتاب القانون تشريح جميع أعضاء البدن وصفاً صحيحاً، فإنه يذكر أقسام العظام والعضلات واحداً واحداً ، تماماً كما هو معروف اليوم. وإن لم يكن تشريح الإنسان ميسوراً في ذلك الزمان ، فإن تشريح بعض الحيوانات كالقرد ،كان معمولاً به .
ومعلومات ابن سينا في الأمراض واسعة وكاملة ، وقد فصّل في كل الأمراض من الرأس حتى الدم تفصيلاً وافياً. يشرح أمراض الرأس ، والجمجمة و النخاع والعين والأذن والأسنان وقفص الصدروالقلب والرئيتين والأحشاء والأعضاء الداخلية والأعضاء التناسلية للرجل والمرأة وأمراض الجلد واليد ، والرجل ، وذات الرئة ، وذات الجنب ، والقولنج ، والانسدادات ، والكسر ، والسرطان ، والغدد وغيرها . حتى إنه يتحدث في القانون عن السلّ بدقة تصل إلى مرتبة الإعجاز. فهو يفصل الكلام في السلّ الرئوي، وفي مراحله الثلاث في بدن الإنسان، قبل ألف سنة ، وبدون أن تتوافر له معدات التصوير والأشعة المجهولة. وهو يوصي لعلاجه بمواد مأخوذة من التربانتين ، والعفص ، والجوز لأن هذه الأدوية الثلاث مضادة للسلّ
وهو يرى أن للنبض توازنا موسيقياً ، وكان ماهراً في تشخيص المرض من النبض. ومن جهة أخرى كان ابن سينا يعتقد أن لبن الأم أفضل غذاء للطفل ، فإذا لم يكن بثديي الأم لبن وجب أن يعهد الطفل إلى مرضع، وهو يوصي للرضاعة في القانون بالقواعد التي يوصي طب اليوم بها.
ولابن سينا رأي خاص في حالة الطبيب أمام المريض في أثناء تأديته لمهمته فهو يرى أن لوضع الطبيب وحالته المعنوية أثراً كبيراً في شفاء الأمراض. فإذا كان الطبيب بشوشاً بسّاماً أثر كثيراً في المريض. يقول: ( وينبغي للطبيب أن يكون دائماً مبشراً بالصحة ، فإن للعوارض النفسانية تأثيرات عظيمة )
ويفرد قسماً من الكتاب لعلم الأدوية والصيدلة. يشرح كيفية إعداد الأقراص والمعاجين والحبوب والسوائل، مما يجعلنا أن نقول أن الشيخ الرئيس كان صيدلانياً ماهراً .
إن نظريات ابن سينا الطبية وطرق معالجاته تستحق الكثير من الاهتمام. من ذلك يوصي ، لحسم الإسهال ، باستعمال ماء الجبنة ، وهو نفسه ما يعتمد اليوم من خلال استعمال ( الأسيد لاكتيك) . أما في الأمراض السارية فيتحدث عن الهواء والماء الملوثين، ويوصي بتبخير المريض ومكانه . ويتناوق قسم من كتاب القانون باب الأمراض الوبائية والعفونية والأمراض الفصلية و الموسمية. وهو كالرازي يقول : تنقال الأمراض من الأم إلى الطفل.
ومن الموضوعات المهمة في طب ابن سينا موضوعا التجربة والاستدلال، فهو يشدد في محاربة المرض على اعتماد القوة الحياتية، ويسعى لإصلاح اختلال الأعضاء وتأثيرات البدن.
هذا في مجال الطب، أما في مجال الرياضيات والفلك فلم ترتقي آراؤه إلى الذروة، ولم يحضَ هذين المجالين إلا بالقليل من نشاطه الفكري. ومؤلفاته ، وإن لم تخل من نظرات ثاقبة وآراء بعيد لا تعتذر على رجل عبقري كالشيخ الرئيس ، إلا أنها لا تعدّ ذات أثر مهم في تقدّم هذه العلوم. وهي بوجه الإجمال مختصرات تمهّد السبيل إلى درس الفلسفة.
ويظهر بعض التلميحات ابن سينا كان واقفاُ على آخر منتجات معاصريه العلمية. وقد رصد هو بنفسه لعلاء الدولة ، ووضع آلة رصد ، وألّف مقالة في كيفية الرصد. إلا أن تلميذه أبا عبيد الجوزجاني، على إعجابه بالشيخ الرئيس ، يقول أنه كان يقع له خلل في أمر الرصد.
وألف ابن سينا في الموسيقى أيضاً ، وهي عند الأقدمين الفن الثالث من الرياضيات. أما تأليفه الموسيقية فقد وصلنا منها :
- مقالة ( جوامع علم الموسيقى ) نشرت في القاهرة سنة 1956
- مقالة في الموسيقى ، نشرت في حيد آباد سنة 1935
- مقالة في الموسيقى ، باللغة الفارسية ، لم تطبع .
وابن سينا يتساءل عن سبب نشأة الموسيقى ، فيجدها في حاجة الحيوان والإنسان للتداعي بعد الافتراق والاجتماع بعد الانفصال. ويرى في الأصوات آلة ل