مفهوم الغلو
في الأديان السابقة السماوية وغير السماوية، موارد وأحداث كثيرة وقع فيها الغلو حيث رفع الناس بعض الموجودات (الإنسان وغيره) إلي فوق حدودهم، إلي حدّ الخالق1 .
كما أنّ التاريخ الإسلامي شهد ظاهرة الغلو في فترات مختلفة منه ولم ينحصر الغلو في مذهب معين، وقبل الخوض في تفاصيل موضوع الغلو، سوف نتعرّض إلي معني الغلو لغة وإصطلاحاً ليتّضح مفهومه.
الغلو في اللغة مصدر الفعل غلا يغلو، ومعناه كما يقول الراغب: تجاوز الحدّ2. وفي المصباح3: وغلا في الدين غلوّاً ـ من باب قعد ـ تصلّب وشدّد حتي جاوز الحدّ. وفي لسان العرب: وغلا في الدين الأمر، يغلو غلوّاً: جاوزه حدّه4.
أمّا في الإصطلاح فقد عرّف الشيخ المفيد الغُلاة، وقال: هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذرّيته (عليهم السلام) إلي الأُلوهية والنبوّة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلي ما تجاوزوا فيه الحدّ، وخرجوا عن القصد5.
وفي «الملل والنحل» عرّف الشهرستاني الغالية وقال: هم الذين غلوا في حقّ أئمتهم حتي أخرجوهم من حدود الخليقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية فربّما شبّهوا واحداً من الأئمة بالإله، وربّما شبّهوا الإله بالخلق وهم علي طرفي الغلو والتقصير6.
وقال صاحب «مجمع البحرين»: الغالي من يقول في أهل البيت (عليهم السلام) ما لا يقولون في أنفسهم كمنيدّعي فيهم النبوّة والإلهية7.
وذكر محمّد رشيد رضا في تفسير الآية: (... لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ...)8 أنّ الغلو: الإفراط وتجاوز الحدّ في الأمر، فإذا كان في الدين فهو تجاوز حدّ الوحي المنزّل إلي ما تهوي الأنفس؛ كجعل الأنبياء والصالحين أرباباً ينفعون ويضرّون... واتّخاذهم لأجل ذلك آلهة يعبدون فيدّعون من دون اللّه تعالي أو مع اللّه تعالي، سواء أُطلق عليهم لقب الربّ والإله كما فعلت النصاري أم لا، وكشرع عبادات لم يأذن بها اللّه...»9.
فالغلو إذاً هو تجاوز الحدود الشرعية والخروج عن سواء السبيل في عدم التزام الاعتدال فيما قرّره الوحي.
لكي نحدّد الغلو وإطلاقه علي فريق أو مذهب معيّن، لابدّ من اعتماد معايير موضوعية في وصف حالة معينةبالغلو، وحالة أُخري بالإعتدال، وحالة ثالثة بالوسطية، وهكذا.
وفي ظلّ غياب المقياس السليم أُتّهم التشيّع ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بالغلو، ولكنّنا نسأل الذين أصدروا هذا الحكم القاسي عن المقياس الموضوعي الذي اتّخذوه للحكم علي هذه المدرسة الأصيلة؟
وجوابهم علي ذك لابدّ من أن يدور بين افتراضات أربعة لا خامس لها، وهي:
1 ـ العرف، بأنْ يقال: بأنّ العرف لا يساعد علي ما تؤمن به مدرسة أهلالبيت (عليهم السلام) من خصائص الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، فالغلو ـ طبقاً لهذا المقياس ـ هو ما زاد علي العرف.
2 ـ القياس علي منزلة الصّحابة، بأنْ يقال: بأنّ الإيمان بما للأئمة من خصائص مذكورة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يؤدّي إلي علوّ منزلة الأئمة علي منزلة الصّحابة، فالغلو ـ طبقاً لهذا المقياس ـ هو الزيادة علي منزلة الصّحابة.
3 ـ ما يفهمه أتباع الخلفاء من الكتاب والسنّة، بأنْ يقال: إنّ ما تمنحه مدرسة أهلالبيت (عليهم السلام) للأئمة الاثني عشر من خصائص، يتنافي مع ما يفهمه أتباع الخلفاء منالكتاب والسنّة، فالغلو ـ طبقاً لهذا المقياس ـ هو ما خالف فهم علماء أهل السنّة.
4 ـ الكتاب والسنّة، بأنْ يقال: بأنّ الكتاب والسنّة لم يشتملا علي ما يدلّ علي هذه الخصائص، فالغلو ـ طبقاً لهذا المقياس ـ هو ما خالف الكتاب والسنّة.
هذه هي الأُسس والمقاييس الموضوعية المحتملة للحكم علي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بالغلو في الأئمة (عليهم السلام)، وواضح أنّ صحّة هذا الحكم منوطة بمدي صحّة الأساس الذي قام عليه، والمقياس الموضوعي الذي نبع منه.
أما الأساس الأوّل: فلا يركن إليه إنسان من أهل الدين والإيمان، ولعلّه يعتمده بعض من يعتبر الدين مرحلة أُسطورية في تاريخ البشرية، فمثل هؤلاء لا يقبلون لأي إنسان خصائص مثل العصمة والنصّ الإلهي والإلهام، التي تؤمن بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بحقّ الأئمة، ويعتبرونها نوعاً من الغلو الذي هو وليد الذهنية الأُسطورية، ولذا فقد لعب المستشرقون دوراً خطيراً في إشاعة هذه الشبهة، عبر مؤلفاتهم التي يتّخذها الكثير من الكتّاب في العالم الإسلامي ـ ومع الأسف الشديد ـ كمصدر لما يكتبونهبشأن التاريخ الإسلامي، ويستمدّون منها الطعن علي فكرة مذهبية لا تروق لهم.
وواضح أنّ الدين لا يقاس بالعرف والطبائع الجارية للأُمور ، وإذا جري تطبيق هذا المقياس علي الإمامة، فإنّه سينجرّ إلي التطبيق علي النبوّة والأنبياء والكتب السماوية، والمنهج المنطقي للتعامل مع أصحاب هذا المقياس، هو الخوض أولاً في القضية الدينية الكبري المتمثلة بالتوحيد، فبعدما يتم نقض الدعوي الغربية، القائلة : «بأن الدين لا يمثل حقيقة عُلوية، وإنما يمثل الإنسان في مرحلة تأريخية كانت متعطشة للاُسطورة ، فتولّد الدين لاشباع هذه الحاجة». وحينما يتمّ إثبات التوحيد والدين والوحي كحقائق كونية ما ورائية عُلوية، يصبح واضحاً أنّ الدين هو المقياس لتغيير الواقع، ولا يصحّ أن يكون الواقع مقياساً لفهم حقائق الدين، فمصير الأساس الأوّل مرتبط بنتيجة البحث في هذه القضية التي ما لم تبحث أوّلاً لا يكون تطبيق الأساس الأوّل والعمل بمقتضاه مستنداً إلي دلي