قال تعالی : « و لقد كرّمنا بني آدم و حملناهم في البرّ و البحر و رزقناهم مّن الطیبات و فضّلناهم علی كثیر ممّن خلقنا تفضیلاً».(1)
كرّم الله سبحانه و تعالی الانسان علی غیره من المخلوقات ، و یتجلّی هذا التكریم في مظاهر كثیرة ، من أهمّها : نعمة كمال العقل الذي وهبه الله للانسان لیمیّز به بین الخیر و الشر ، و منها: ما أودعه الله سبحانه و تعالی في نفس الانسان من أخلاق یدركها الانسان بفطرته.
و هذه الاخلاق یسمّیها علماء الاخلاق بالأخلاق الفطریة أو (الوجدان الخلقي) في مقابل الأخلاق المكتسبة ـ و هي التي لا یدركها الانسان بفطرته ، بل تأتي من التربیة و الاكتساب.
فالأخلاق الفطریة تكون مغروسة في فطرة الانسان ، و لذا تكون هذه الاخلاق موجودة في وجدان أي شخص من البشر ؛ فعندما یولد الانسان تكون نفسه بمنزلة الجوهرة النفسیة التي یمكن أن یحافظ علی نقائها و صفائها ، كما یمكن ان تنمّي و توضع في قالب یبرز جمالها ، و عی العكش : یمكن إهمالها و العبث فیها ، و كذا حال الانسان فانّ الله تبارك و تعالی جعل في قلبه و وجدانه نوعاً من القوانین التي یحترمها و یقدسها بحسب فطرته ، بل و یمارسها في حیاته عملیاًَ ، و مما یدل علی أنها فطریة انّه یمارسها و ان لم تكن علی وفق مصلحته الشخصیة ، كما في الایثار مثلاً فإنّ الانسان یؤثر غیره علی نفسه بأمور قد یكون هو بحاجة الیها، و الإنصاف خلق فطري حسن درج علیه البشر، و كما في خیانة الأمانة فانه خلق فطري قبیح ، و في هذا یتساوی وجدان جمیع الشعوب بلا استثناء من دون ان یتفاوت في ذلك أهل زمان علی آخر أو أهل مكان علی آخر، أو أهل شریعة دون أخری .
و من هنا نلاحظ ما ورد عن النبي الاعظم (ص) من قوله (إنّما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق) (2) یعغني انّ الهدف من البعثة هو بناء الانسان و تربیته ، فانّه یحمل من مكارم الأخلاق ما یحتاج الی تكمیل.
و من هنا یبرز دور التربیة و أهمیتها في المساعدة علی إبراز هذه الأخلاق الكامنة في وجدانه، و في تنمیة و توجیه الأخلاق و المحافظة علیها؛ فإنّ الانسان و ان أودع الله سبحانه و تعالی في فطرته الأخلاق الحسنة و فیه استعداد للترقي و التكامل ؛ لكنه خُلق ضعیفاً اذ خلقت معه غرائز و شهوات و هناك مؤثرات خارجیة من البیئة التي یعیش فیها و الجماعة التي یصاحبها و ما یتلقّاه من تعلیم أو معارف من وسائل متعددة و ما الی ذلك من أمور قد تؤثر فیه فیحتاج الانسان الی التربیة من أجل الحفاظ علی تلك القوانین الفطریة المودعة فیه ، مضافاً الی تعدیل وسائل اكتساب الاخلاق عنده و توجیهها و جهتها الصحیحة.
اذن ، الانسان بحسب طبعه ضعیف و یتأثر بما حوله كما انّه یضعف أمام الهوی و الشهوات، ولذا قال عنه سبحانه و تعالی « الله الذي خلقكم مّن ضعفِ »(3) أي أنّه تعالی جعل الضعف أساس أمر الانسان فهو ضعیف عن مخالفة هواه فلا یصبر عن اتباع الشهوات و لا یصبر أمام رغائبه و أهوائه...
و كما أنّ نفس الانسان قابلة للفجور و الباطل فهي قابلة للتقوی و الحق، قال تعالی « و نفسٍ و ما سوّاها* فألهمها فجورها و تقواها» (4) فقد ورد في تفسیر الآیة الشریفة : (عرّفها و ألهمها ثم خیّرها فاختارت)(5) أي هناك حق و باطل و الله سبحانه و تعالی ألهم الانسان معرفة الحق و الباطل ، فان الفجور هو المیل عن الحق و الانبعاث في المعاصي.
و في مقابل ضعف الانسان تكمن الحاجة الملحة للتربیة الصحیحة المبنیّة علی الأخلاق القویمة لتجاوز هذا الضعف الی القوة و هذا النقص الی الكمال و البعد من ساحة الرذیلة الی ساحة الفضیلة.
و تكمن وظیفة المربّي في المحافظة علی تلك القوانین الفطریة و تنمیة الروح الانسانیة المودعة فیه و فطرته السلیمة التي خلق علیها، مضافاً الی الإشراف علی القوانین الخُلقیة المكتسبة ، بحیث یوازن المربّي بین الرغبات المودعة في الانسان و كیفیة اشباعها بتوازن بحیث لا یطغی جانب علی آخر.
و لأهمیة التربیة الخلقیة نجد الاهتمام بها في كل زمان و مكان و في جمیع المجتمعات و في مختلف المدارس الفكریة و ان كان هناك فرق في الاهداف من التربیة فانّ الهدف منها في الاسلام هو تزكیة ا لنفس و ذلك بعبادة الله سبحانه و تعالی و امتثال أوامره و جتناب نواهیه، بحیث یحصل من ذلك حفظ إنسانیة الانسان في سمو روحه و سلامة نموّه مضافاً لجسمه. بینما التربیة في المدارس الأخری لا لأجل هذا الهدف السامي بل من أجل أغراض تناسب توجّهاتها الفكریة و التي تلاحظ العالم المادي من دون ملاحظة انسانیة الانسان، و العالم الأخروي. و علی كل حالِ، هناك اهتمام في جمیع المدارس الفكریة بمسألة التربیة و ذلك لأنها ضروریة لبناء شخصیة الطفل الأخلاقیة، و یؤكد هذا الاهتمام الاتجاهات الحدیثة في النظر الی التربیة علی أنّها عملیة نمو شامل و متكامل لكل جوانب شخصیته الانسانیة ؛ و من أهم الأسالیب التربویة الحدیثة التركیز علی تربیة الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة، لما لذلك من أثرِ كبیر في تكوین شخصیة الفرد؛ فكان من معطیات علم النفس التربوي الحدیث في مجال الطفولة التركیز علی المرحلة المبكرة من الطفولة بحیث تكون الطفولة المبكرة هي الموضوع الأساسي لعلم النفس التربوي الحدیث؛ فجاءت البحوث و الدراسات المتعدّدة في طبیعة هذه المرحلة بمختلف مستویاتها المعرفیة و غیرها؛ و جاءت نتیجة هذه الدراسات و البحوث جمیعاً في التأكید علی أهمیة الانطلاق من دراسات حاجات الطفل و میوله و اهتماماته في العملیة التربویة نعم یجب ان تكون التربیة شاملة للطفل ، بحیث تُعنی بعقل الطفل و نفسه و روحه كما تعتني ببدنه ، لذا صار للتربیة فروع متعددة كالتربیة البدنیة ، و التربیة الدینة ، و التربیة الأخلاقیة و التربیة الوطنیة و ما الی ذلك من فروع .
و قد جاءت الروایات ایضاً مؤكدة علی الإعتناء بالتربیة مبكراً ، فعن الامام علي(ع) : (( و إنّما قلب الحدث كالارض الخالیة ما ألقي فیها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن یقسو قلبُك و یشتغل لبّك لتستقبل بجدِّ رأیك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغیته و تجربته ، فتكون قد كفیت مؤونة الطب و عوفیت من علاج التجربة فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتیه ، و استبان لك منه ما ربّما أظلم علینا فیه))(6).
فالمبادرة في غرس الأخلاق الحسنة مبكراً ضروري في تكوین شخصیة الطفل و تغذیته بالفضیلة و إبعاده عن الرذیلة ، لیكون بعد ذلك فتیً صالحاً نافعاً في مجتمعه..
و انّ الاهتمام بالتربیة في مرحلة الطفولة المبكرة، لا یعني انتهاء دور التربیة بانتهاء هذه المرحلة، بل هناك فترة النشیء و الفتوّة و الانتقال من عالم الطفولة الی دنیا الاستقلال عن الآخرین ، و في هذه المرحلة أیضاً یحتاج الی بذل المزید من الجهود في التوجیه و التربیة للمحافظة علی الشباب.
نعم للتربیة في مرحلة الطفولة دورٌ في تحصین الشباب من الانفلات الخلقي لكنّه لیس كل شيء ، بل التربیة مهمة حتی بعد مرحلة الطفولة. و علی الخصوص في مرحلة ما یسمّی بالمراهقة ، أي مرحلة البلوغ فان فیها من الاضطراب في نفسیّة البالغ و هي مرحلة حساسة قد یحصل فیها انحراف الشاب، ، و هنا تبرز أهمیة التربیة في ضبط هذه المرحلة لیتجاوزها الشاب بسلام. نسأله تعالی أن یوفق القائمین علی التربیة و یعنیهم في هذه المسؤولیة انّه خیر موفق و معین.
المنهج التربوي في الإسلام
نحاول في هذا المختصر أن نلقي الضوء علی تحدید بعض ملامح المنهج التربوي الاسلامي في تعامله مع الانسان مع الوجهة الاخلاقیة..
من الواضح أنّ الاسلام یمثّل نظاماً حیاتیاً شاملاً للانسان، و لذا كانت مناهجه و تعالیمه شاملة لجمیع النواحي ؛ فانّ الاسلام ینظر إلی الحیاة و الكون و الفرد و المجتمع بحیث تنسجم أنظمته و قوانینه مع ذلك كلّه.
و اذ أردنا العیش بسلام في هذه الدنیا مع تجاوز الصعوبات التي تواجهنا فلابدّ من السیر علی خطی الاسلام و أخذ أحكامه و قوانینه منهاجاً لنا في جمیع أمورنا..
و في مورد التربیة و الأخلاق : هناك منهج إسلامي تربوي متكامل و شامل و ربّاني ، و ضعه خالق الانسان العالم بضعفه و حاجاته و میوله ، و هو الذي أودع