الإحتفال بمولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) من الاحتفالات التي اعتادها المسلمون منذ قرون عديدة، ولازالت هذه الذكري ماثلة وحيّة في قلوب المسلمين جميعاً، حيث تقام الاحتفالات بهذا اليوم في المساجد والبيوت في مختلف بلدان العالم الإسلامي تخليداً لهذا اليوم المبارك، مثلهم في ذلك مثل أيّ اُمة تحترم مقدساتها، وتبجّل أيّامها الكبري وذكرياتها المجيدة. كما يُراد من هذا الإحتفال أن يتحول من مجرد الفرح والسرور والشكر للّه، إلي عملية استيحاء واعية للذكري ومعطياتها. ورغم وضوح شرعية الإحتفال بذكري المولد النبويّ، إلاّ أنّ البعض أخذ يبحث عن اُمور تسوّغ له منع الإحتفالبهذا اليوم، إستناداً إلي فهم مغلوط لمعني البدعة، ووظّف هذا الفهم لتحريم كثير من المباحات، بذريعة أنّها لم يرد فيها نصّ بخصوصها. من هنا سوف نتناول مسألة الإحتفال بيوم المولد النبويّ ونري مدي شرعيته، ثم نناقش الرأي القائل بحرمته ضمن عدة أُمور:
الحوادث الفاضلة التي تضفي قداستها
هل الأيّام والساعات التي تحقّقت فيها مناسبات وأحداث إلٌهية مقدّسة؛ يضفي الحدث فيها قيمة علي اليوم نفسه، فيكتسب الزمان قدسيته من الحدث، كما هو الخير والبركة الذي اكتسبته ليالي القدر وأيام شهر رمضان ولياليه، أو عيد الفطر، أو عيد الأضحي، أو يوم المبعث النبويّ من أحداثها؟ والجواب: أنّنا لو لاحظنا الآيات القرآنية التي تناولت هذا المعني لتأكّد لدينا أنّ الحدث العظيم والمبارك يضفي شيئاً من عظمته علي الزمن في كثير من الأحيان. فقد جاء في بركة وفضل شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَالَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُديً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدي وَالْفُرْقَانِ)1. وكذلك البركة في ليلة القدر، حيث قال تعالي: (إِنَّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَ لْفِ شَهْرٍ)2 . وهكذا الروايات فإنّها تحدّثت عن فضيلة بعض الأيّام، فقد جاء في فضل يوم الجمعة في صحيح مسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خُلِق آدم وفيه أُدخل الجنّة»3 . فخلود البركة في هذه الأيّام جاء نتيجة لحوادث إلهية مهمّة كنزول القرآن فيها، أو ميلاد نبي تستبشر به الملائكة وما إلي ذلك من حوادث جليلة لها قدسيتها. فإذا كان المنشأ في تقديس الأيّام يعود للحدث الإلهي المبارك؛ فلماذا لا يكون يوم مولد النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، يوماً مباركاً يستحق التقديس ويكون الإحتفال به من هذا القبيل؟ هذا التخريج يصدق بخصوص المناسبات التي هيمورد النصّ، أو التي أقامها المسلمون في عصر التشريع، كالإحتفاء بعيد الفطر والأضحي أو بيوم الغدير أو يوم عرفة. وهناك اتّجاهات أفرطت في التقديس لهذه المناسبات، وتقابلها اتّجاهات حاولت إلغاء أي تقديس لأي مناسبة تَمُتّ إلي الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) والإسلام بصلة، زاعمة أنّ مثل هذا الاحترام والتبجيل بالخصوص يعد بدعة في الدين لا ينبغي السكوت عنه، فأخذت تشوّش علي المسلمين إحتفالاتهم بالمولد النّبوي، متنكّرة لعموم النصوص وخصوصها، رافعة شعار التوحيد لتلغي تحت لوائه كلّ شيء يرتبط بأوليائه، الذين هم مصاديق الهداية ومناراته المعنوية لتدلّ العباد علي معبودها الحقّ. ومن هذه المفردات التي طُرحت في عصرنا هذا قضية الإحتفال بالمولد النّبوي ومواليد سائر العظماء من أهل بيته الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.
هل الاحتفال بالمولد النبوي بدعة أم من صمیم الدین؟
قبل أن نُجيب علي السؤال نأتي علي تعريف البدعة ليتسنّي لنا الحصول علي إجابة واضحة في خصوصالإحتفال بالمولد النّبوي. لقد صرّح العلماء في نصوص كثيرة حول معني البدعة، ومنهم السيّد المرتضي حيث قال: البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه من غير إسناد الي الدين4. وقال الطريحي في مجمع البحرين: البدعة: الحدث في الدين، وما ليس له أصل في كتاب ولا سنّة، وإنّما سُمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدعها هو نفسه5. وقال ابن حجر العسقلاني: والمراد بالبدعة: ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة6 . وبعبارة واضحة، البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نصّ علي الخصوص ولم يكن داخلاً في بعض العمومات، وإن شئت قلت: إحداث شيء في الشريعة لم يرد فيه نصّ كصوم عيد الفطر7 ، وإقامة صلاة التراويح جماعةً وغيرها. بعد هذا التمهيد نأتي لنجيب عن ما إذا كان الإحتفال بالمولد النّبوي بدعة أم من صميم الدين؟ ولأجل أن نعرف متي يكون الشيء جائزاً في الدين؟ نقول: إنّ الشيء يكون جائزاً ومن صميم الدين؛ إذا وقع عليه النصّ بخصوصه أو بعينه، كالاحتفال في عيدي الفطر والأضحي، والاجتماع في يوم عرفة، فهذه الموارد لا شكّ في جواز الإحتفال أو الاجتماع بها، وتخرج عن كونها من البدع، وأحياناً يكون الشيء جائزاً وأيضاً من صميم الدين، في حالة ما إذا وقع النصّ عليه علي الوجه الكلّي، وفي هذا المورد يُترك اختيار الأُسلوب والطريقة للمسلم ليعبّر كيف يشاء وبأي طريقة كانت عن إمتثاله لهذا الأمر، شريطة أن لا يدخله في المحرّمات، ومن الأمثلة علي ذلك: 1 ـ ندب الشارع إلي تعليم الأولاد وضرورة التعلّم، ولا شكّ أنّ لهذا الأمر الكلّي أشكالاً وألواناً تتغيّر حسب تبدّل وتغيّر الأزمان. والكتابة في السابق كانت متحققة بقلم القصب، أو بالكتابة بريش الطائر، أما الآن فقد تطورت أساليب الكتابة والتعليم، حيث استخدمت الأجهزة المتطورة كالتعليم بواسطة الحاسوب الآلي «الكامبيوتر» أو الأشرطة وما شاكل.. في هذا المثال نجد الشارع المقدّس قد أمر بالتعليم علي الوجه الكلّي، إلاّ أنّه ترك اختيار الأُسلوب للمكلّف نفسه. 2 ـ إنّ الصحابة ـ كما يقال ـ قاموا بجمع آيات القرآن المتفرّقة في مصحف واحد، ولم يصف أحد منهم هذا العمل بأنّه بدعة، وما هذا إلاّ لأنّ عملهم كان تطبيقاً لقوله سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)8 فعملهم في الواقع كان مصداقاً عملياً لظواهر عامة شرعية من الكتاب والسنّة، وعلي ذلك جري المسلمون في مجال الاهتمام بالقرآن من كتابته وتنقيطه، وإعراب كلمه وجمله وعدّ آياته، وتمييزها بالنقاط الحمر وأخيراً طباعته ونشره، وتقدير حفّاظه وتكريمهم وتمجيدهم في المحافل والمهرجانات، إلي غير ذلـك مـن الأُمور التي كلها دعم لحفظ القرآن وتثبيته وبقائه، وإن لم يفعله رسول اللّه ولا الصحابة ولا التابعون، إذ يكفي وجود أصل له في الأدلة. 3 ـ الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء، أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَااستَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ)9 وأما كيفية الدفاع ونوع السلاح ولزوم الخدمة العسكرية فالكلّ تطبيق لهذا المبدأ وتجسيد لهذا الأصل، فربما يرمي التجنيد العمومي بأنه بدعة، غفلة عن حقيقة الحال وأنّ الإسلام يتبنّي الأصل ويترك الصور والألوان والأشكال إلي مقتضيات الظروف10. هذا هو الأصل الذي به تميز «البدعة» عن «التطبيق» و«الابتداع» عن «الاتباع» وإليك تصريحات بعض العلماء مضافاً الي تصريحاتهم التي أشرنا إليها سابقاً حول موضوع البحث: أ ـ قال ابن رجب: قوله (صلّي اللّه عليه و آله): «وإيّاكم ومحدّثات الأُمور فإن كلّ بدعة ضلالة»11تحذير للأُمّة من اتباع الأُمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: «كلّ بدعة ضلالة»، والمراد بالبدعة ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، وأمّا ما له أصل فليس ببدعة، وإنْ كان بدعة لغةً، وفي صحيح مسلم: عن جابر (رضي اللّه عنه) عنه أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) كان يقول في خطبته: «إنّ خير الحديثكتاب اللّه وخير الهدي هدي محمد وشرّ الأُمور محدّثاتها، وكلّ بدعة ضلالة...»12، وقوله: «كلّ بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أُصول الدين، وهو شبيه بقوله (صلّي اللّه عليه و آله): «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»13 فكلّ مَن أحدث شيئاً ونسبه إلي الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة والدين بريء منه14. ب ـ وقال ابن حجر في شرح قوله (صلّي اللّه عليه و آله): «إنّ أحسن الحديث كتاب اللّه»: والمحدثات ـ بفتح الدال ـ جمع محدثة، والمراد ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمّي في عرف الشرع «بدعة» وما كان له أصل يدل عليه الشرع؛ فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث علي غير مثال يسمي بدعة، سواء أكان محموداً أو مذموماً، وكذا القول في المُحدَثة15. ولكنّ عندما نأتي الي ما ورد في الكتاب والسنّة سنجد أن حبّ ومودّة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) وتوقيره وتكريمه وتعظيمه حيّاً وميتاً من الأُمور التي حثّت عليها الشريعة، وهذا الأصل لا يمكن لمسلم إنكاره، أما كيفية التعبير عن المودّة والتوقير والتعزيز للنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) فقد ترك للمسلم حريّة التعبير والعمل بشرط أنّ لا يدخله في الحرام16 .
لزوم تکریم النبي (ص) حیا و میت
ورد بشأن الحثّ علي احترام وتعظيم ومحبة شخص رسولاللّه (صلّي اللّه عليه و آله) في القرآن الكريم عدد من الآيات منها: 1 ـ قوله تعالي: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)17. ذكر المفسّرون أنّ المراد من (التعزير) في الآية ليس مطلق النصرة، إذ أنّه أفرد عن قوله: (نصروه)، ولو كان بمعنيمطلق النصرة؛ لما كان هناك داعٍ للتكرار، فالمراد من (التعزير) هو التبجيل والتوقير والتعظيم أو النصرة مع التعظيم18. 2 ـ ومنها قوله تعالي: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض