ليس في تاريخ هذا الشرق، الذي هو مهد النبوات من يضارع الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ورعه وتقواه، وشدة إنابته إلى الله، اللهم إلا آباؤه الذين أضاءوا الحياة الفكرية بنور التوحيد، وواقع الإيمان.
لقد حكت سيرة هذا الإمام العظيم سيرة الأنبياء والمرسلين، وشابههم بجميع ذاتياتهم، واتجاهاتهم، فهو كالمسيح في زهده وإنابته إلى الله، وكالنبي أيوب في بلواه وصبره، وكالرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في صدق عزيمته وسمو أخلاقه، فهو زين العابدين ولم يُمنح لأحد هذا اللقب سواه.
وبرز الإمام زين العابدين (عليه السلام) على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ، فقد استطاع بمهارة فائقة أن ينهض بمهام الإمامة وإدامة نهضة أبوه الإمام الحسين (عليه السلام)، برغم ما به من قيد المرض وأسر الأمويين. لقد حقق الإمام (عليه السلام) هذه الانتصارات الباهرة من خلال خطبتين ألقاها على الجماهير الحاشدة في الكوفة وفي الشام والتي كان لها الأثر البالغ في إيقاظ الأمة وتحريرها من عوامل الخوف والإرهاب.
لقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات، وظل يلقي الأضواء على معالم الثورة الحسينية، ويبث موجاتها على امتداد الزمن والتاريخ. وكان من مظاهر تخليده للثورة الحسينية كثرة بكائه على ما حل بأبيه وأهل بيته وأصحابه من أهوال يوم الطف، وكان لهذا الأسلوب الأثر الكبير في نفوس المسلمين وفي تحرير الإنسان من الظلم والعبودية والطغيان ورفضهما.
نشأة الامام زین العابدین
لقد توفّرت للإمام زين العابدين (عليه السلام) جميع المكوّنات التربوية الرفيعة التي لم يظفر بها أحدٌ سواه، وقد عملت علي تكوينه وبناء شخصيّته بصورة متميّزة، جعلته في الرعيل الأوّل من أئمّة المسلمين الذين منحهم الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ثقته، وجعلهم قادة لاُمّته واُمناء علي أداء رسالته. نشأ الإمام في أرفع بيت وأسماه ألا وهو بيت النبوّة والإمامة، الذي أذن اللّه أن يرفع ويذكر فيه اسمه، ومنذ الأيام الاُولي من حياته كان جده الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يتعاهده بالرعاية، ويشعّ عليه من أنوار روحه التي طبّق شذاها العالم بأسره، فكان الحفيد ـ بحقٍّ ـ صورة صادقة عن جدّه، يحاكيه ويضاهيه في شخصيّته ومكوّناته النفسية. كما عاش الإمام (عليه السلام) في كنف عمّه الزكي الإمام الحسن المجتبي (عليه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وسبطه الأوّل، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه، ويغرس في نفسه مُثُلَه العظيمة وخصاله السامية، وكان الإمام (عليه السلام) طوال هذه السنين تحت ظلّ والده العظيم أبي الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) الذي رأي في ولده عليّ زين العابدين (عليه السلام) امتداداً ذاتيّاً ومشرقاً لروحانيّة النبوّة ومُثُل الإمامة، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته، وقدّمه علي بقية أبنائه، وصاحَبَه في أكثر أوقاته. لقد ولد الإمام زين العابدين (عليه السلام) في المدينة في اليوم الخامس من شعبان سنة (36 ه ) يوم فتح البصرة، حيث إنّ الإمام عليّ (عليه السلام) لم ينتقل بعد بعاصمته من المدينة الي الكوفة. وتوفّي بالمدينة سنة (94 أو 95 ه ). وقد ذكر بعض المؤرخين أنّه ولد في سنة (38 ه ) وفي مدينة الكوفة، حيث كان جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد اتّخذها عاصمة لدولته بعد حرب الجمل، فمن الطبيعي أن يكون الحسين السبط (عليه السلام) مع أهله وأبيه (عليه السلام) في هذه الفترة بشكل خاص .
مظاهر شخصیة الامام زین العابدین
الحلم
كان الإمام من أعظم الناس حلماً، وأكظمهم للغيظ، فمن صور حلمه التي رواها المؤرّخون : 1 ـ كانت له جارية تسكب علي يديه الماء إذا أراد الوضوء للصلاة، فسقط الإبريق من يدها علي وجهه الشريف فشجّه، فبادرت الجارية قائلة: إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: (والكاظمين الغيظ) وأسرع الإمام قائلاً : «كظمت غيظي»، وطمعت الجارية في حلم الإمام ونبله، فراحت تطلب منه المزيد قائلة: (والعافين عن الناس) فقال الإمام (عليه السلام): «عفا اللّه عنك»، ثمّ قالت: (واللّه يحبّ المحسنين). فقال (عليه السلام) لها: «اذهبي فأنت حرّة». 2 ـ سبّه لئيمٌ فأشاح (عليه السلام) بوجهه عنه، فقال له اللئيم: إيّاك أعني... وأسرع الإمام قائلاً: «وعنك اُغضي...» وتركه الإمام ولم يقابله بالمثل. 3 ـ ومن عظيم حلمه (عليه السلام): أنّ رجلاً افتري عليه وبالغ في سبّه، فقال (عليه السلام) له: «إن كُنّا كما قلت فنستغفر اللّه، وإن لم نكن كما قلت فغفر اللّه لك...»3.
السخاء
أجمع المؤرِّخون علي أنّه كان من أسخي الناس وأنداهم كفّاً، وأبرَّهم بالفقراء والضعفاء، وقد نقلوا نوادر كثيرة من فيض جوده، منها: 1 ـ مرض محمّد بن اُسامة فعاده الإمام (عليه السلام) ، ولمّا استقرّ به المجلس أجهش محمّد بالبكاء، فقال له الإمام (عليه السلام): ما يبكيك؟ فقال: عليّ دين، فقال له الإمام: كم هو؟ فأجاب: خمسة عشر ألف دينار، فقال له الإمام (عليه السلام): هي عليّ، ولم يقم الإمام من مجلسه حتي دفعها له. 2 ـ ومن كرمه وسخائه أنّه كان يطعم الناس إطعاماً عامّاً في كلّ يوم، وذلك في وقت الظهر في داره. 3 ـ وكان يعول مائة بيتٍ في السرّ، وكان في كلّ بيتٍ جماعة من الناس.
التعامل مع الفقراء
أ ـ تكريمه للفقراء : كان (عليه السلام) يحتفي بالفقراء ويرعي عواطفهم ومشاعرهم، فكان إذا أعطي سائلاً قبّله، حتي لا يُري عليه أثر الذلّ والحاجة، وكان إذا قصده سائل رحّب به وقال له: «مرحباً بمن يحمل لي زادي إلي الآخرة». ب ـ عطفه علي الفقراء: كان (عليه السلام) كثير العطف والحنان علي الفقراء والمساكين، وكان يعجبه أن يحضر علي مائدة طعامه اليتامي والأضراء والزمني والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، كما كان يحمل لهم الطعام أو الحطب علي ظهره حتي يأتي باباً من أبوابهم فيناولهم إيّاه. وبلغ من مراعاته لجانب الفقراء والعطف عليهم أنّه كره اجتذاذ النخل في الليل؛ وذلك لعدم حضور الفقراء في هذا الوقت فيحرمون من العطاء، فقد قال (عليه السلام) لقهرمانه ووجده قد جذّ نخلاً له من آخر الليل: «لا تفعل، ألا تعلم أنّ رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) نهي عن الحصاد والجذاذ بالليل؟!». وكان يقول: «الضغث تعطيه من يسأل فذلك حقه يوم حصاده». ج ـ نهيه عن ردّ السائل: وكان الإمام (عليه السلام) ينهي عن ردّ السائل؛ وذلك لما له من المضاعفات السيّئة التي منها زوال النعمة وفجأة النقمة. وقد أكد الإمام (عليه السلام) ضرورة ذلك في كثيرٍ من أحاديثه، فقد روي أبو حمزة الثمالي، قال: «صلّيت مع عليّ بن الحسين الفجر بالمدينة يوم جمعة، فلمّا فرغ من صلاته وسبحته نهض إلي منزله وأنا معه، فدعا مولاةً له تسمّي سكينة، فقال لها: لا يعبر علي بابي سائل إلاّ أطعمتموه فإنّ اليوم يوم جمعة، فقلت له: ليس كل من يسأل مستحقاً، فقال (عليه السلام): يا ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقاً فلا نطعمه، ونردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله، أطعموهم، أطعموهم، إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً فيتصدّق منه، ويأكل هو وعياله منه، وإنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً محقّاً، له عند اللّه منزلة وكان مجتازاً غريباً اعتر علي باب يعقوب عشية جمعةٍ عند أوان إفطاره، يهتف علي بابه: أطعموا السائل الغريب الجائع من فضل طعامكم، يهتف بذلك علي بابه مراراً وهم يسمعونه، وقد جهلوا حقّه، ولم يصدّقوا قوله، فلمّا يئس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلي اللّه عزّ وجل، وبات طاوياً وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً للّه، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم، قال فأوحي اللّه إلي يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي ونزول عقوبتي، وبلواي عليك وعلي ولدك. يا يعقوب، إنّ أحبّ أنبيائي إليّ وأكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي وقرّبهم إليه وأطعمهم، وكان لهم مأوي وملجأ، يا يعقوب، أما رحمت ذميال5 عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا؟!... أما وعزّتي لأنزلنّ بك بلواي، ولأجعلنّك وولدك غرضاً لمصائبي. فقال أبو حمزة: جعلت فداك متي رأي يوسف الرؤيا؟ قال (عليه السلام): في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعاً، وبات فيها ذميال طاوياً جائعاً».
العزة و الاباء
وكان من أعظم ما يصبو إليه الامام زين العابدين (عليه السلام) في حياته الصدقة علي الفقراء لإنعاشهم ورفع البؤس عنهم، وكان (عليه السلام) يحثّ علي الصدقة؛ وذلك لما يترتّب عليها من الأجر الجزيل، فقد قال: «ما من رجل تصدّق علي مسكين مستضعف فدعا له المسكين بشيء في تلك الساعة إلاّ استجيب له». ونشير إلي بعض ألوان صدقاته وجميل خصاله : أ ـ التصدّق بثيابه: كان (عليه السلام) يلبس في الشتاء الخزّ، فإذا جاء الصيف تصدّق به أو باعه وتصد