وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : ایکنا
الاثنين

١٥ يونيو ٢٠٠٩

٧:٣٠:٠٠ م
170044

البعد العرفانی والتربوی والعبادی للحج

«ليبك لا شريك لك..» لن نجيب غيرك، ولن نستمع إلى أیّ نداءٍ، سواء انطلق من حاكم، أو من حكومة، أو من حزب، أو من محور إقليمی أو دولی.. فأنت وحدك، المحور الذی نتحرك فی ساحته؛ لأن ذلك هو الذی يجعلنا ننسجم مع عقيدتنا إذا أجبناك..

النظرة التجزيئية... المشكلة:

النقطة الأولى: إن مشكلة الإسلام، فی تجارب المفكرين المسلمين، من خلال النظرة التجزيئية التی حاولت أن تنظر إلى الإسلام كأجزاء بأبعاد مستقلة، فنقرأ عن البعد الروحی، وعن البعد الاجتماعی، وعن البعد السياسی، وعن البعد الاقتصادی، كما لو كان كل واحدٍ منها موضوعاً مستقلاً.. فی طبيعته، ما أدى إلى بعض الانعكاسات السلبية على واقع التصور الإسلامی، والممارسة العملية للإنسان المسلم فی التزامه ببعض الجوانب دون بعضها الآخر.

وهذه النظرة تبعدنا عن الفهم الشمولی للإسلام؛ لأنه يختزن فی كل جانب من جوانبه، العناصر الأُخرى.. فنحن مثلاً عندما ندرس الناحية الاقتصادية فی الإسلام، فإننا لا نجد فيها جوّاً مادياً يتحدث عن العلاقات الاقتصادية، وطريقة تحركها فی علاقات الانتاج والتوزيع، وما إلى ذلك فقط، بل نجد ـ إلى جانب ذلك ـ عمقاً روحياً ومنهاجاً أخلاقياً، وحركةً اجتماعيةً فی نطاق حركة الفرد والمجتمع، يوحی لنا بأن هذه الأبعاد كلها تتكامل لتكوّن البعد الاقتصادی فی المنهج، وفی النظرية.. وعلى ضوء ذلك فإننا لا نستطيع أن نفصل الجانب الذاتی عن الجانب الموضوعی فی المسألة الاقتصادية.

وإذا أردنا أن ندرس البعد الأخلاقی فی الإسلام، فإننا لا تستطيع دراسته فی نطاق النظرية الأخلاقية من الجانب الفلسفی، بل لابد لنا من استحضار المجالات الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة، حتى نقف على الجانب العبادی، لنجد الخطوط الأخلاقية تمتد إليها من جهة، وتنطلق منها من جهةٍ أُخرى.

وهكذا لا نجد الجانب الروحی مفصولاً عن الجانب المادی، بل نجد لوناً من التزاوج الواقعی والعملی، والتفاعل النظری بينهما على مستوى التصور فی تركيز النظرية الإسلامية فی تفسير الكون والحياة والإنسان.

إننا ندعو إلى دراسة هذه المسألة بعمقٍ؛ لنصل إلى النتيجة الحاسمة التی نخرج منها بالفكرة القائلة: إن الإسلام كيان فكری وتشريعی عملی يتغذى من كل عناصره تماماً كما هو الجسد الذی يتكامل ويتغذى من كل أجهزته، فلا يستطيع أی جهازٍ، أن يعطی الحياة الإنسانية شيئاً إلاّ من خلال الطاقة التی تمدها بها بقية الأجهزة، فی ما تحمل من عناصر القوة والحياة.

وعلى هذا الأساس، نستطيع أن ندخل إلى الواقع الإسلامی للإنسان المسلم من خلال الحالة التكاملية، لنوجّه السلوك العملی إلى مواجهة المسألة من هذا الموقع، لنتخلص من الخطط التی أثارها الكفر فی وعی الأمة، وحرّكها الاستعمار فی حياتها عندما فصل الإسلام عن الواقع، من خلال الفصل بين أجزاء الواقع ومفرداته، فجعل القضية المطروحة، هی أن هناك ديناً ودنياً، وأن للدين دائرته، وللدنيا دائرتها، فآفاق الدين هی آفاق الغيب والروح والمثال، التی تنطلق معها العبادة فی أجواء الصلاة والصوم والحج والدعاء والابتهال والتصوف وغيبوبة الذات عن الواقع. أمّا آفاق الدنيا فهی آفاق الحياة العامة والخاصة فی أجوائها الماديه، فی اجتماعياتها وذاتياتها، وسياستها واقتصادها، وحربها وسلمها، وشهواتها وملذاتها. فللدين ربّه، وللدنيا ربّها... والله هو رب الدين، وقيصر هو رب الدنيا، فليس لله أن يتدخل فی صلاحيات القيصر وشؤونه وليس للقيصر أن يدخل إلى ملكوت الله وساحته.. وهكذا دخل الإسلام هذه الدائرة.. وبقيت الدوائر الأُخرى تنتظر الفكر الآخر، والقوة الأُخرى التی لا مكان فيها للإسلام.

وقد نلاحظ أن عصور التخلف التقليدية استطاعت أن تهیّئ، الأرضية الصالحة لمثل هذا الاتجاه فی الذهنية الإسلامية، وذلك فی ما لاحظناه من الأبحاث العبادية التی عاشتها التجارب الإسلامية الفكرية والفقهية التی حاولت أن تعتبر العبادات كياناً مستقلاً مفصولاً عن الجوانب الأُخرى.. فنشأت عندنا شخصية الإنسان المسلم العابد الذی يستغرق فی عبادته فينسى كل ما حوله، ومَن حوله.. حتى «العرفان» الذی انطلق فی الدائرة الروحية الإسلامية، كفكر وممارسةٍ من أجل أن يكون أسلوباً متقدماً فی صنع الشخصية الإسلامية المتحررة من كل القيود، والساعية إلى تحقيق الأهداف الكبيرة.. ليرتبط الإنسان بالحياة من خلال الحرية الداخلية المنفتحة على الله، المتحركة فی الحياة من خلاله؛ ليكون إنسان الحياة، الحرّ فی فكره وفی إرادته.. وفی حركة الحياة من حوله، حتى العرفان هذا، دخلت فيه الفلسفة اليونانية والهندية وغيرهما، فجعلت منه ـ فی وعی الكثيرين فی الساحة الإسلامية ـ فكراً منفصلاً عن الحياة بحيث يستغرق فيه الإنسان ـ فی الأجواء الإلهية التی يعيش فيها ـ فی هواجسه وتأملاته وابتهالاته مع الله، من دون أن ينفتح من خلال ذلك على الحياة.

وقد رأينا ـ فی تاريخنا وفی حاضرنا ـ الكثيرين ممن أخذوا بالعرفان كفلسفةٍ، وسلوكٍ، واتجاهٍ، فابتعدوا عن الحياة، وعن قضاياها وهمومها ومشاكلها وحركتها فی ساحة الصراع، واستغرقوا فی الفكرة الانعزالية التی تعتبر ذلك كله شأناً مادياً لا يتناسب مع الانطلاقة الروحية المجرّدة التی يعيشها العارف؛ لأنها تشغله عن الله..

وقد لاحظنا فی بعض هؤلاء، أنهم لا يدققون فی قضايا الشرع فيما يمارسونه من أساليب الرياضة الروحية وفی ما يفعلون، وفی ما يتركون، ممّا قد يعيش الإنسان فيه الابتعاد عن التكليف الشرعی فيما يحلّ الله وفيما يحرّم ، وربما وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار الشرع حالة فی الظاهر لا ترفع إلى مستوى العرفان، الذی هو عمق الوعی الروحی فی الباطن.

ولكننا نعرف أن «العرفان الإسلامی» قد انطلق من خلال مفاهيم القرآن، التی تلحظ فی الإنسان ارتباطه بالله، الذی يطلّ به على مسؤوليته فی الحياة عن الحياة كلّها، وعن الإنسان كله، فی المنهج الفكری الذی أقامه الإسلام للحياة، وفی الخط التشريعی الذی أراد للناس أن يسيروا عليه، وفی الأجواء العامة التی وجّههم إلى أن يعيشوا فی داخلها وفی ساحاتها.. ما يمثل بذلك الإعداد الفكری والعملی للدخول إلى ساحة الإسلام فی الحياة من خلال الله.

فليست هناك خلفیّة فلسفیّة يمكن للعرفان أن ينتمی إليها، أو ينطلق منها بعيداً عن المفاهيم القرآنية الإسلامية، التی أكدت على تحرك الإنسان المسلم فی الحياة؛ ليكون خليفة الله فی الأرض، ليبنی الكون فی دائرة قدرته، على النهج الذی يحب الله أن يكون فيه، بعيداً عن كل ما يثقله؛ ليكون الإنسان الحرّ من الداخل، من أجل أن يؤكد حريته فی الخارج.

الأبعاد العبادية فی انفتاحها على الأبعاد السياسية:

النقطة الثانية: إننا نريد ـ من خلال شمولية النظرة الإسلامية إلى الحياة ـ أن نقترب من الأبعاد العبادية التی تنفتح على الأبعاد السياسية والاجتماعية فی الحج، كما نفهم ذلك من خلال كل عباداتنا؛ لنصل إلى تأكيد فكرتنا فی تكامل الإسلام فی كل مفرداته.. فنجد أن العبادة تلتقی بالسياسة فی مفهومها الواسع، كما تطل على ساحة الحياة الاجتماعية.. وبذلك تدخل قلب الحياة، بدلاً من أن تنفصل عنه.

فإذا دققنا فی الصلاة، فی كلماتها وفی أفعالها، وفی إيحاءاتها.. وإذا درسنا الصوم فيما يثيره من أجواء نفسية، وفيما يؤكده من قوةٍ حركية، ولاحظنا ما فی الحج من معطيات ومؤثراتٍ وأجواء ونتائج.. فإننا نجد أنها تلتقی فی ارتفاعها بالإنسان إلى صفاء إنسانيته، وفی توجيهه إلى ما يحقق توازن حركته الإنسانية فی الحياة.. لأن سرّ المشكلة الإنسانية هو هذا الاستغراق فيما حوله من الحياة الدنيا، بعيداً عن كل هدف كبير ينطلق من مواقع القيم الخیّرة فی حركة الرسالات.. إنها مسألة القضايا الكبيرة التی تأكلها أو تستنزف طاقاتها القضايا الصغيرة، التی تطوف بالإنسان فی دائرة شهواته وملذاته وأطماعه الذاتية.

وكانت الفكرة الإسلامية تتحرك على أساس أن يجعل الإنسان دنياه آخرةً، وأن تكون آخرته منطلقةً من حركة مسؤوليته فی بناء الدنيا على النهج الذی يحبه الله.. فلا تمثل الآخرة ـ فی هذه النظرة ـ منطقة مستقلة عن الدنيا، بل تمثل أهداف الدنيا الكبيرة التی تخضع لها حركتها الصاعدة إلى الله.

فإذا أردت أن تفكر، كمسلم، يريد أن يمارس دوره فی الدنيا.. فكر ما هو هدفك منها.. لا مانع من أن تنطلق معها، وتتحرك فی داخلها.. وتحتوی مواقعها ومصادرها ومواردها، لكن.. فكّر لنفسك بالسؤال التالی... ما هو هدفك منها؟

إن الآية الكريمة تقول لك: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْیَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِی الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا یُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]

اجعل الدار الآخرة هدفاً لكل ما أعطاك الله من علم أو من مال أو من قوة.. ولكل ما أعطاك من الحياة. وعش حياتك من خلال حاجاتك الجسدیّة.. وأحسن إلى الآخرين، فقد أعطاك الله النموذج الأكمل للإحسان فيما أحسن الله إليك.. لتعرف كيف تحسن إلى الآخرين.. ولا تبغ الفساد فی الأرض فی كل المفردات التی تملكها مما تستطيع أن تستخدمه فی طريق الفساد، كما تستطيع أن تستخدمه فی طريق الصلاح والإصلاح.. لأن الله لا يحب المفسدين.

وهكذا نجد أن العبادة يمكن أن تكون نافذةً واسعةً تطلّ على كل ما فی الدنيا من قضايا ومشاكل للحياة والإنسان، من حيث هی نافذة تتحرك فی آفاق الغيب، مع الله، وفی نتائج المسؤولية فی الدار الآخرة.

فی إيحاءات الحجّ المختلفة:

النقطة الثالثة: إننا نستطيع ـ من خلال ما أثرناه فی النقطة الثانية ـ أن نقترب من هذه الأجواء، لنفكر فيما حشده التشريع الإسلامی فی الحج من عدة جوانب، تتفرع فی شكلها وفی طبيعتها، وفی إيحاءاتها، فإذا وقفنا فی أجواء الإحرام، فإننا نشعر بأن هناك نوعاً من أنواع التدريب ليتحرر الإنسان من كل ما يعيق حركته من الارتباط بالأشياء التی يمارسها فی عاداته، أو فی أجواء الترف التی يحبها، أو فی أجواء الحياة الاجتماعية التی يعيش فی داخلها.

الإجابة لله وحده

ثم بعد ذلك ـ نجد كلمات التلبية ـ فيما توحی به فی معانٍ واسعةٍ ـ تعنی التزاماً أمام الله سبحانه، بطريقةٍ مؤكّدةٍ مضافةٍ بالاستجابة لكل نداءات الله.. ليس ـ فقط ـ ما يقوله بعض المفسرين والمحلّلين، إن كلمة «لبيك» يراد بها الاستجابة لنداء إبراهيم عليه السَّلام فيما أمره الله به، من أن يؤذن للناس بالحج ليدعوهم إلى الإقبال عليه، فی ما تحدث به القرآن الكريم فی قوله تعالى: {وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ یَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ..}[الحج:26ـ27]