مقدمة
حَظيتْ مقابر قريش في الجانب الغربيّ من بغداد.. بشرفٍ خاصّ وجلالٍ جذّاب، بعد أن دُفن فيها الإمام الشهيد موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام، ثمّ حفيدُه الإمام الشهيد محمّد الجواد عليه السّلام، حينها تهافتت القلوب على زيارة القبرين المنوَّرين هناك، وهبّت الأرواح الموالية الغيورة إلى تشييد حرمٍ بهيّ للمرقدين الطاهرين.
ولم تنقطع قوافل الزائرين المجدّدين عهدَ الولاء والوفاء للإمامة، فكان لزاماً أن تتطوع عدّة من الناس للنهوض بخدمتهم بعد رعاية شؤون الحرم الشريف؛ ليحظى الزائر ـ بعد شرفا لزيارة ـ بجملة من الخدمات.
وكان العمران في تقدّم وازدهار وتواصل، رغم النكبات، حتّى استقامت مدينةٌ كبيرة تعانق حرماً نيرّاً وتحيط به كأنّه قُطبها وكعبتها. بعد ذلك عُرفت بنسبتها إلى الإمام الكاظم عليه السّلام، فسُميّت: المشهد الكاظميّ، وبلدة الكاظم عليه السّلام، والكاظميّة، وبلدة الكاظمين عليهما السّلام. وعلى توالي العقود من الزمن، تحظى هذه المدينة بتشرّف الناس بالزيارة والمجاورة.
وهذا شيء من تاريخها:
الكاظميّة ـ لمحة تاريخية
في عام 145 هـ ابتدأ المنصورُ العباسيّ بتأسيس المدينة المدوّرة «بغداد »، واستتمّ البناء ـ حسبَ رواية الخطيب البغدادي ـ في سنة 146 هـ، ثمّ أتمّ بناء سور المدينة، وفرغ من خندقها وسائر شؤونها في سنة 149 هـ.
ولمّا أنهى المنصور عمارة مدينته اقتطع المنطقة المجاورة لمدينته من جهة الشمال فجعلها مقبرة،ولعلّه اعتبرها خاصّة بعائلته وأُسرته فسُمّيتْ فيما بعد بـ ( مقابر قريش )، وقد تُسمّى أيضاً ( مقابر بني هاشم ). ويروي الشيخ المفيد أنّها كانت مقبرة لبني هاشم والأشراف من الناس.
وكان أوّل من دُفن في هذه المقابر جعفر بن أبي جعفر المنصور،وذلك في سنة 150 هـ، ثمّ توالى الدفن فيها بعد ذلك.
وفي عام 183 هـ لخمسٍ بقين من رجب، استُشهد الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام، وكان قد دُسّ إليه السمُّ من قِبل السنديّ بن شاهَك بأمرٍ من هارون الرشيد، فحُمل جثمانه الطاهر إلى مقابر قريش ودُفن هناك حيث قبره الشريف الآن.
وذهب بعض المؤرّخين إلى أنّه دُفن في موضعٍ كان قد ابتاعه لنفسه في مقابر قريش.
واشتهر مدفن الإمام بعد ذلك باسم (مشهد باب التبن ) نسبة إلى باب التبن الذي كان في شرقيّه ممّا يقرب من دجلة، كما أنّ المسجد المجاور لقبر الإمام عليه السّلام كان يُسمّى ( مسجد باب التبن )أيضاً.
وفي عام 220 هـ في آخر ذي القعدة استُشهِد ببغداد الإمام أبو جعفر محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى بن جعفر عليهم السّلام، فدُفن في تربة جدّه أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليه السّلام.
وأصبح السكن حول مقابر قريش ـ بعد دفن الإمامين عليهما السّلام هناك ـ في ازدياد واتّساع على مرور الأيام، حيث دفعت العقيدة الدينية بعض الناس إلى السكن حول المشهد المبارك؛ لحمايته وإدارته وإيواء زائريه. وكان هذا التجمّع حول المشهد هو النواةَ الأُولى لمدينة الكاظمية، هذ افضلاً عن الموقع الجغرافي لمقابر قريش من حيث قربها من نهر دجلة وجودة تربتها،ومجاورتها للقرى والأرياف والمزارع والأشجار الوارفة الظلال.
ويستفاد من مجموع النصوص التأريخية المتعلّقة بالعصر العباسي الأوّل أنّ هذه المنطقة المغمورة قد تطوّرت سريعاً فأصبحت جزءاً متّصلاً ببغداد، بل محلّةً من محلاّتها، وصارت تُحدّد يومذاك بكونها بين الحربية ومقبرة ابن حنبل والحريم الطاهري، وبذلك أصبحت منطقة ًعامرةً بالسكّان زاخرةً بالعمران، شأنها في ذلك شأن سائر المحلاّت البغدادية: الشرقية والغربية.
وفي عام 334 هـ سيطر معزّ الدولة البويهيّ على أزمّة الحكم في بغداد، وكان من جملة أعماله خلال أيام ملكه.. تشييد المرقد الكاظميّ تشييداً رائعاً في عمارته، وإنزال جماعة من الجنود الديالمة لغرض الخدمة والحفاظ على الأمن. وكان من جملة آثار استتباب الأمن في العهد البويهي والتصاق مقابر قريش ببغداد، ذَهاب الناس في أعداد غفيرة إليها في الجمعات والمواسم والمناسبات الدينية، كذكرى شهادة الإمام الحسين عليه السّلام وعيد الغدير وما شابه ذلك من المناسبات.
وقد تعرّضت المدينة خلال فترات تاريخية متعاقبة إلى الغرق والفيضان سيّما في سنة 367 هـ وسنة 466هـ وسنة 554 هـ وسنة 569 هـ، ثمّ سنة 614 هـ وسنة 646 هـ وسنة 654 هـ، ولمّا حدث فيضان سنة 614 هـ أثّر في المشهد الكاظميّ ومدينته أثراً بالغاً، فقام الناصر لدين الله بتعمير ما خرّبه الماء، كما شيّد سوراً جديداً للمشهد الكاظميّ سنة 614هـ.
وانطوى العصر العباسي وبلدة المشهد الكاظمي محلّة عامرة مفردة، فيها خلق كثير، وذات سور، وتضمّ سائر مقتضيات المدن ومرافقها من دور وسكّان وعمارة، ونقيبي شرف على شؤون المشهد والبلد، غير نقيب العلويين أو الطالبيين.
وفي الشهر الأوّل من عام 656 هـ حاصر الجيش المغولي بغداد، وتمّ احتلالها يوم الاثنين الثامن عشر من المحرّم أو بعد ذلك بأيام، ووافق هذا الاحتلال عددٌ من حوادث التخريب والإتلاف وضروب من المصائب والنكبات.
وما أن أطلّ القرن الثامن حتّى كانت المدينة قد سارت أشواطاً في طريق تقدّمها، عامرةً بسكّانها وبزوّارها والقادمين إليها.. يصفها حمد الله المستوفي في أوائل القرن الثامن فيقول: إنّها مدينةٌ صغيرة، يبلغ طول محيطها حوالي ستّة آلاف خطوة، وإنّ سكّانها ستّة آلاف نسمة.
وفي أوائل القرن العاشر دخلت الكاظميّة عهدها الجديد، من حيث الاستقلال الإداري الداخلي، وأصبحت مدينة لها كيانها ودَورها في الشؤون العامّة، ففي سنة 914 هـ سيطر الصفويون على العراق، وزار الشاه إسماعيل الصفوي الكاظمية، وأمر بتشكيل إدارة خاصّة بالبلدة ومحكمة شرعيّة يرأسها قاضٍ يحمل لقب « شيخ الإسلام »، وأمر بتشييد المشهد الكاظمي تشييداً رائعاً فخماً، وعيّن الرواتب لخدّام المشهد والمسؤولين عنه.
وفي نحو سنة 1302 هـ أمر المشير هدايت باشا قائد الفيلق العسكري التركيّ السادس في بغداد بعمل جسر من الخشب عائم على نهر دجلة، يربط بين الكاظمية والأعظيمة، وبذلك ارتبطت الكاظمية بالجانب الشرقي من بغداد أيضاً. وفي سنة 1318 هـ تمّ وضع حجر الأساس لبناء سراي الكاظمية.
وقد أنجبت بلدة الكاظمية خلال عمرها الطويل عدداً كبيراً جدّاً من الفقهاء والأدباء والشعراء والمفكّرين والأطباء. وضمّت المدينة بين جوانحها مجموعةً من المدارس الدينية التي تُعنى بتدريس العلوم الإسلاميّة، وكانت عامرةً زاهرةً بطلاّبها وأساتذتها، وفي طليعتها مدرسة الفقيه السيّد محسن الأعرجي المؤسَّسة في أوائل القرن الثالث عشر الهجري. وضمّت المدينة أيضاً مجموعة من المكتبات الضخمة الحافلة بنفائس المخطوطات وأُمّهات الكتب. وقيل: إنّ أوّل مطبعة عراقية حجرية كانت في الكاظمية سنة 1237 هـ، وذلك يُعَدّ في صدر قائمة النش