وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ في تخوم التاريخ ثمة رجالٌ أرسوا دعائم روعته، وأوقدوا ملامح عظمته، ونفخوا من إشراقات سيرتهم في روحه، فهو بدونهم عقيم المغزى، عديم المعنى.
إنهم جوهره الذي لا يخبو، وشمسه التي لا تأفل، ومنبعه الذي لا ينضب، مهما تعاقبت عليه الحقب، بل يزداد تألقاً وإشراقاً يوماً بعد يوم، فهم فيه كالمطر، كلما ازداد هطوله وتغلغل في أعماق التربة تتبرعم منه قامات السنابل...
إن المسار الذي رسمه هؤلاء الرجال الأفذاذ في مدار التاريخ ببطولاتهم وبسالتهم وصلابتهم وتمسكهم بمبدئهم وعقيدتهم كان مساراً استثنائياً خاصاً لا يتكرر كثيراً في دورة التاريخ، إنه ليس كالمسار الذي يكتبه أغلب المؤرخين عن أمجاد مزيفة وبطولات مزوّقة أضفوا عليها شعارات باطلة.
إنه مسار ليس كمسار السلوك الخاضع لإرادة السلطة والذي تخصص فيه إمعات الرجال من الذين تابعوا السلطة من الوصوليين والمنتفعين والسماسرة والمرتزقة والوضاعين وغيرهم والذين تقود إرادتهم غير الواعية إرادة السلطة فينساقون لها بخضوع تام ويستجيبون لأمرها، يسالمون من تسالم، ويحاربون من تحارب، ويحبون من تحب، ويبغضون من تبغض، فهم عبيد لها مهما بلغت تلك السلطة من الظلم والجور والفساد والطغيان.
إن المسار الذي سار عليه أولئك الرجال العظماء يختلف تماماً مع هذا المسار، بل يجابهه ويعارضه ويقاطعه، إنه المسار الذي يختط نفسه بنفسه، إنه مسار الحقيقة الذي رسموه بإدراك كامل، ووعي تام، وصلابة لا تنثني، فوقفوا إلى جانب الحق وحاربوا الباطل ودافعوا عن الحقيقة ملبين نداء العقيدة تحت لواء البصيرة وهم على أعلى درجات اليقين.
لقد أخذ هؤلاء الرجال النادرون على عاتقهم مسؤولية مواصلة مسيرة الإسلام والسير على النهج المحمدي الأصيل المتمثل بوصي الرسول (ص) علي بن أبي طالب (ع) فظلوا أوفياء لبيعته بعد أن تابعوه في أرساء قواعد الإسلام ببطولاتهم وتضحياتهم.
إنهم الآن في مهمة كبيرة ومسؤولية عظيمة بعد أن استقر الإسلام وأثبت قواعده، وهي مهمة الدفاع عنه ضد المنافقين، وهي مهمة لا تقل عن مهمتهم العظيمة في نشر الإسلام إن لم نقل أعظم منها، إنهم يرون الإسلام مهدداً من قبل نفس أعدائه في الجاهلية بعد أن تزيّوا بزي الإسلام، ولم تفارق الجاهلية قلوبهم، لقد نفخ بنو أمية الروح في الجاهلية الأولى، وأعادوا ترميم أصنامهم.
الشجرة الخبيثة
بعد مهزلة السقيفة وما رافقها من ويلات ومآسي وظلم بحق أمير المؤمنين (ع) وزوجته الطاهرة فاطمة الزهراء (ع)، وما تلاها من المجازر بحق المسلمين وغيرهم من الغزو والسلب والنهب وقتل مالك بن نويرة ــ الذي بشرّه النبي بالجنة ــ وقومه وهم مسلمون، ونفي الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري إلى الصحراء حتى مات جوعاً وعطشاً إلى غيرها من الأعمال، والتي يعتبرها مؤرخو المسار السلطوي فتوحات لنشر الإسلام وحرباً على الردّة ومصلحة للإسلام، ابتليت الأمة الإسلامية بأعداء الإسلام وأعداء النبي الألداء الذين لا زالوا يتربّصون به الدوائر ويكيدون له ما وسعهم وهو بنو أمية الشجرة الملعونة في القرآن.
لقد كان أول من كاد للإسلام بعد وفاة النبي (ص) هو رأس هذه الشجرة الخبيثة أبو سفيان الذي حاول أن يفتح ثغرة في صفوف المسلمين ينطلق منها للعمل على إعادة الجاهلية عندما جاء إلى أمير المؤمنين (ع) وعرض عليه نصرته بقوله: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ ! والله: لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً (1) ثم قال:
بني هاشمٍ لا يطمعُ الناسُ فيكمُ *** ولا سيما تيم بن مرَّة أو عدي
فما الأمرُ إلا منـــــــكمُ وإليكمُ *** وليسَ لها إلا أبــو حسنٍ علي
ولكن أمير المؤمنين (ع) كان على علم بما يضمره قلبه من الحقد الأسود على الإسلام فوجه إليه صفعة قوية بقوله: (والله ما أردت بها إلا الفتنة وإنك والله طالما بغيت للإسلام شراً فلا حاجة لنا في نصرتك) (2)
لقد آثر أمير المؤمنين (ع) مصلحة الإسلام التي وهب لها كل شيء وضحى من أجلها على حقه في الخلافة وقطع الطريق على هذا المنافق وغيره إلى التسلل لشق وحدة الإسلام وجنّد نفسه لدرء الخطر عنه.
وتفاقم خطر المنافقين على الإسلام في حكم بني أمية الذي أعاد أمجاد الروح القبلية فراودت أبا سفيان أحلامه في إعادة الجاهلية وهو يصيح: تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار ولا حساب ولا عقاب ! (3)
ويتمادى هذا الكافر في كفره فيركل قبر الحمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء برجله وهو يفرغ كل ما انطوى عليه قلبه من الشرك والحقد الأعمى على الإسلام ويخاطب صاحب القبر متشفياً بقوله: (قم يا أبا عمارة إن الأمر الذي حاربتنا عليه قد أصبح بأيد صبياننا) ! (4) وهذه الكلمة النكراء الخبيثة من أبي سفيان كانت في الإسلام وليس في الجاهلية ! يقولها وهو آمن مطمئن لأن خليفة المسلمين قريبه !
ويعيش أبو سفيان على كفره في أمن ودعة ورفاهية في ظل هذا الخليفة، ويموت من جور هذا الخليفة صحابي جليل من السابقين إلى الإسلام في الصحراء جوعاً وعطشاً ! وتنتهي ثورة المسلمين ضد الكفر والنفاق ويتولى أمير المؤمنين الخلافة فيلتف حوله أولئك الرجال الأفذاذ الذين قاتلوا معه جبهة الكفر المتمثلة بمعاوية وأدّوا مهمتهم في القتال معه على التأويل كما قاتلوا معه على التنزيل وثبت منهم من بقي بعده (ع) على عهده في البيعة له والمضي على نهجه القويم في إقامة العدل والحق ومحاربة الكفر والنفاق والفساد والإفساد.
الصحابي المجاهد
من أولئك الرجال العظماء الذين كانت له مواقف مشرقة ومشرّفة في الوقوف مع أمير المؤمنين (ع) في مواصلة مسيرة الإسلام والدفاع عن الشريعة الغراء بعد النبي (ص) الصحابي الجليل الشهيد عمرو بن الحمق الخزاعي الذي كان من سيوف أمير المؤمنين في قتاله الناكثين والقاسطين والمارقين والصوت الذي صرخ بوجه معاوية فآثر الموت على حياة يسمع فيها سب أمير المؤمنين من على منابر معاوية.
وفي هذا الموضوع آثرنا تقديم بعض الإحداث التي جرت بعد وفاة النبي (ص) والتي عاشها عمرو بن الحمق الخزاعي لنرى مواقفه من هذه الأحداث وما سجله هو للتاريخ من صفحات بطولية جعلته في مصاف الرجال العظماء الخالدين.
هو عمرو بن الحمق بن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن ذراح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.
هذا نسبه كما ساقه أغلب المؤرخين، ورغم إن التاريخ لم ينقل لنا شيئاً عنه قبل إسلامه، إلا أننا نستطيع أن نستشف صفاء قلبه وكرم أخلاقه ومنبته من قصة إسلامه، فقد بشرّه رسول الله (ص) بالجنة قبل أن يسلم، أما قصة إسلامه التي رواها كل المؤرخين فهي نصاً:
(لمَّا بعث رسول الله النبي (ص) جماعة من الصحابة في بعثة، قال لهم: إنكم ستلقون رجلاً صبيح الوجه يطعمكم مِن الطعام ويسقيكم من الشراب ويهديكم الطريق، هو من أهل الجنة).
فأقبلوا حتَّى انتهوا إلى عمرو بن الحمق الخزاعي فأمر فتيانه فنحروا جزوراً ــ شاة ــ وحلبوا مِن اللبن، فبات القوم يطعمون مِن اللحم ما شاؤوا ويسقون مِن اللبن، ثم أصبحوا، فقال لهم: ما أنتم بمنطلقين حتى تطعموا أو تزوّدوا، فقام رجل منهم وضحك إلى صاحبه، فقال عمرو : ولم ضحكت ؟ فقال: أبشر ببشرى الله ورسوله، فقال عمرو : وما ذاك ؟ فقال: بعثنا رسول الله (ص) في هذا الفج، وأخبرناه أنه ليس لنا زاد ولا هداية الطريق، فقال: ستلقون رجلاً صبيح الوجه يطعمكم الطعام ويسقيكم مِن الشراب ويدلّكم على الطريق، هو مِن أهل الجنة، فلم نلق مَن يوافق نعت رسول الله النبي (ص) غيرك، فركب عمرو بن الحمق معهم وأرشدهم على الطريق، ثم سار عمرو بن الحمق إلى رسول الله (ص) حتى بايعه وأسلم، وكان إسلامه بعد الحُدَيبية وشارك مع رسول الله (ص) في غزواته) هذه باختصار قصة إسلام هذا الصحابي الجليل كما روتها المصادر.
كان لعمرو من العمر يوم أسلم خمسة وعشرون عاماً، أما بالنسبة إلى حياته بعد وفاة النبي (ص)، فقد سكن عمرو مصر ثم جاء إلى الكوفة، فكانت حياته كسائر حياة أصحاب أمير المؤمنين (ع) في الانصياع لأوامره بالصبر والثبات لحفظ شرعة الإسلام حتى بدأ دوره الثاني في محاربة الفساد فكان أحد أقطاب الثورة التي قام بها المسلمون ضد الخليفة الثالث والتي أطاحت به.
مع أمير المؤمنين (ع)
بعد مقتل عثمان وتولي أمير المؤمنين (ع) الخلافة شهد عمرو بن الحمق حروب أمير المؤمنين الثلاث: الجمل وصفين والنهروان وساهم فيها بكلِّ صَلابَةٍ وثبات، وكان ولاؤه للإمام عظيماً، حتى قال له (ع): (ليتَ أنَّ في جندي مائة مِثلك يا خزاعي)، ففي وقعة صِفِّين قال عمرو بن الحمق لأمير المؤمنين (ع): (إِنِّي والله يا أمير المؤمنين، ما أجبتك، ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك، ولا إرادة مال تؤتينيه، ولا التماس سلطان يُرفَع ذكري به، ولكن أحببتُك لِخِصال خمس: إنك ابن عم رسول الله (ص)، وأوّل من آمن به، وزوج سيِّدة نساء الأُمَّة فاطمة (ع) بنت محمد (ص)، وأبو الذرّيّة التي بقيت فينا من رسول الله (ص)، وأعظم رجلٍ من المهاجرين سَهماً في الجهاد، فلو أنِّي كُلِّفت نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي، حتى يأتي عليَّ يومي في أمر أقوِّي به وليَّك، وأوهن به عدوَّك، ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحقّ عليَّ من حقك).
فقال أمير المؤمنين: (اللَّهُمَّ نَوِّر قلبَه بالتقى، واهدِهِ إلى صراط مستقيم).
ولما أنشأ أمير المؤمنين (ع) أيام خلافته (شَرَطَة الخميس) كان عمرو بن الحمق الخزاعي منهم إلى سائر المخلصين من أصحاب علي (ع) كالأصبغ بن نباتة، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر، وحجر بن عدي وغيرهم وقد تسمّوا بالشرطة لأنهم اشترطوا على أنفسهم الوفاء لعلي (ع)، وشرط لهم الجنة، وهذا ما حدّث به أمير المؤمنين من أن النبي (ص) فعل ذلك مع جماعة من أصحابه كسلمان والمقداد وعمار حيث قال لهم النبي(ص): (تشرطوا فإني لست أشارطكم إلا على الجنة).
ولذا وصف علماء الرجال عمرواً بأنه من أصفياء أصحاب علي (ع). وبلغ من إيمانه المطلق لله ولرسوله ولوصيه أنه قال لأمير المؤمنين (ع): (ليس لنا مَعَك رأي) يقصد إن كل رأي لأمير المؤمنين نافذ عليه
كان عمرو من قادة جيش أمير المؤمنين (ع) في حروبه الثلاث، وكانت له مواقف بطولية رائعة مشرقة في ساحات القتال فلمع اسمه بين القادة الأبطال في الجيش العلوي، ففي صفين وزّع أمير المؤمنين (ع) أدوار القادة في جيشه كما يلي: على ميمنته: الأشتر النخعي، وسعيد بن قيس الهمداني وعلى ميسرته: عمار بن ياسر، وشريح بن هاني، وعلى القلب: محمد بن أبي بكر، وعدي بن حاتم الطائي، وعلى الجناح: زياد بن كعب وحجر بن عدي الكندي، وعلى الكمين: عمرو بن الحمق وجندب بن زهير.
ومن مواقفه في ذلك اليوم أنّه قد وقف بين الصفّين وهو يخاطب أمير المؤمنين(ع) بقوله: (يا أمير المؤمنين أنت ابن عم نبينا، وأول المؤمنين إيماناً بالله عزّ وجل)
ولما وقعت الفتنة في جيش الإمام نتيجة المؤامرة الدنيئة من قبل عمرو بن العاص في رفع المصاحف، قال عمرو بن الحمق لأمير المؤمنين(ع): (يا أمير المؤمنين، إنا والله ما اخترناك ولا نصرناك عصبية على الباطل، ولا أحببنا إلاّ الله عزّ وجل، ولا طلبنا إلاّ الحقّ، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوت إليه لكان فيه اللّجاج وطالت فيه النجوى، ... حتى بلغ قوله: وليس لنا معك رأي)
ومن أراجيزه يوم الجمل:
هذا عليٌ قائدٌ نرضى به *** أخو رسول الله في أصحابه
من عودة النامي ومن نصابهِ
الوداع الأخير
بعد ذلك الجهاد العظيم مع أمير المؤمنين (ع) يشهد عمرو أشد اللحظات ألماً في حياته، وهي لحظات احتضار أمير المؤمنين (ع) فيدخل عليه حين ضُرب الضربة التي استشهد فيها بالكوفة، فيقول له: (ليس عليك بأس، إنما هو خدش).
إنه لا يريد أن يصدق أن يفارق هذا الإنسان الذي لا مثيل له في الأرض، هذا الإنسان الذي وصفه ضرار بن عمرو ـ أحد أصحابه ـ لمعاوية بقوله عندما ألح عليه فقال وهو يبكي: (كان علي والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدؤنا إذا أتيناه، ويلبينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، كان يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله أن أتيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السقيم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنياإلي تعرضت ؟ أولي تشوفت ؟ هيهات غري غيري، قد أبنتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كثير، آه من قلة الزاد، ووحشة الطريق، وبعد السفر، قال: فوكفت دموع معاوية ما تملكها عن لحيته وهو يمسحها بكفه وقد اختنق القوم بالبكاء فقال معاوية: رحم الله أبا حسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال ضرار: حزني عليه حزن من ذبح واحدها في حجره، فلا ترقأ عبرتها، ولا تسكن حرتها)
ويصف ضرار أمير المؤمنين (ع) في موضع آخر بقوله: (رحم الله أمير المؤمنين (ع) كان والله قصير اللباس، جشب المعاش، لا يعلق له الستور، ولا يدخر عنده النذور، ولا يغلق له دوننا باب، ولم يحجبنا عنه حجاب، كان والله طويل السجود، قليل الهجود، يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، يجود لله بمهجته، ويبوء إليه بعبرته، لم تطمع الدنيا فيه فتلهيه، ولا الشيطان فيغويه).
كان هذا شعور عمرو بن الحمق وهو يعيش لحظات الفراق وما أشده من ألم وحزن كحزن من ذبح وحيدها في حجرها كما وصفه ضرار، ويؤكد أمير المؤمنين هذا الفراق بقوله لعمرو: (لعمري أني مفارقكم).
ويُغمى على أمير المؤمنين (ع) بين ساعة وأخرى وعمرو يريد أن يتزوّد منه ما أمكنه، يقول عمرو: بعد أن أفاق علي من إغمائه سمعته يقول: (طوبى لهم وطوبى لكم، وطوباهم أفضل من طوباكم، قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، طوباهم برؤيتك، وطوبانا بالجهاد معك، وطوبانا بطاعتك، ومن هؤلاء الذين طوباهم أفضل من طوبانا؟ قال(ع): أولئك شيعتي الذين يأتون من بعدكم، يطيقون ما لا تطيقون ويحملون ما لا تحملون.
ولكن أمير المؤمنين(ع) طمأن عمرو بأنه سيمضي شهيداً على الحق وعلى ولايته فقال له: (يا عمرو انك لمقتول بعدي، وان رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الاسلام. والويل لقاتلك).
وهذه الشهادة قد أخبره قبلها بها رسول الله(ص) وكلا الشهادتين من منبع واحد حيث كان عمرو يقول في حياته: (والله لو كنت في جوف حجر لاستخرجني... حدثني بذلك رسول الله (ص).... إنّ رأسي أول رأس ينحر في الاسلام وينقل من بلد إلى بلد).
الشهادة .. نهاية المطاف
بعد استشهاد أمير المؤمنين (ع) بدأت مرحلة ثانية من صفحات الجهاد في حياة عمرو بن الحمق، وهي التصدي للأمويين ومقارعة ظلمهم وجورهم وفسادهم، وكان عمرو صديقاً لحجر بن عدي الكندي ورفيقه دربه في الجهاد وشريكه في ثورته، يقول الطبري:
(ثم كانت حادثة حجر بن عدي الكندي، فأبلى عمرو فيها بلاء حسناً، وضربه رجل من الحمراء - شرطة زياد - يدعى بكر بن عبيد بعمود على رأسه فوقع، وحمله الشيعة فخبأوه في دار رجل من الأزد، ثم خرج فاراً وصحبه الزعيم الآخر رفاعة بن شداد ـ وهو من رجال ثورة حجر ـ فيمما المدائن ثم ارتحلا حتى أتيا أرض الموصل فكمنا في جبل هناك، واستنكر عامل ذلك الرستاق شأنهما فسار اليهما بالخيل، فأما عمرو فلم يصل الموصل إلا مريضاً بالاستسقاء، ولم يكن عنده امتناع. واما رفاعة بن شداد - وكان شاباً قوياً - فوثب على فرس له جواد، وقال لعمرو: أقاتل عنك، قال: وما ينفعني أن تقاتل، إنج بنفسك إن استطعت. فحمل عليهم فأفرجوا له، فخرج تنفر به فرسه، وخرجت الخيل في طلبه - وكان رامياً - فأخذ لا يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره فانصرفوا عنه. وسألوا عمراً: من انت ؟ فقال: من ان تركتموه كان أسلم لكم، وان قتلتموه كان أضرّ لكم !. فسألوه فأبى ان يخبرهم، فبعث به ابن أبي بلتعة، عامل الرستاق، الى عامل الموصل، وهو (عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عثمان الثقفي)، فلما رأى عمرو بن الحمق عرفه، وكتب الى معاوية بخبره، فأمره معاوية بأن يطعنه تسع طعنات كما كان فعل بعثمان فطعن ومات بالأولى منهن أو الثانية).
ويقول ابن عبد البر: ثم اجتز رأسه وأرسله إلى معاوية بالشام فأمر به أن يطاف به في الشام وغيرها). وكان رفاعة قد توارى عنهم فلما قتلوا عمرواً وقطعوا رأسه وأخذوه معهم خرج رفاعة فدفن جثته وبقي رفاعة حتى خرج مع الحسين(ع) في ثورته واستشهد معه يوم الطف. (5)
آمنة بنت الشريد
وكان معاوية قد أمر بسجن زوجة عمرو بن الحمق آمنة بنت الشريد في دمشق بتهمة عدم البراءة من علي (ع) فبقيت في السجن لمدة سنتين فلما قتل زوجها وجيء برأسه إلى الشام أمر بإرساله إليها فرموه في حجرها وهي في السجن، فوضعت كفها على جبينه، ولثمت فمه، وقالت: (غيبتموه عني طويلاً، ثم أهديتموه اليّ قتيلاً، فأهلاً به من هدية غير قالية ولا مقلية). ثم قالت لرسول معاوية (بلّغ أيها الرسول عني معاوية ما أقول: أيتم الله ولدك وأوحش منك أهلك ولا غفر لك ذنبك، وطلب الله بدمه، و عجل الوبيل من نقمه، فقد أتى أمراً فرياً و قتل باراً تقياً فأبلغ أيها الرسول معاوية ما قلت)
فبلغ الرسول ما قالت فبعث إليها فقال لها: أنت القائلة ما قلت؟
قالت: (نعم غير ناكلة عنه و لا معتذرة منه)
فقال لها: اخرجي من بلادي..
قالت: (أفعل، فو الله ما هو لي بوطن، ولا أحن فيها إلى سجن، و لقد طال بها سهري، واشتد بها عبري، وكثر فيها ديني، من غير ما قرت به عيني)
فقال عبد الله بن أبي سرح الكاتب: (إنها منافقة فألحقها بزوجها)
فنظرت إليه فقالت: (يا من بين لحييه كجثمان الضفدع ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس ألا قلت من أنعمك خلعاً وأصفاك كساء إنما المارق المنافق من قال بغير الصواب و اتخذ العباد كالأرباب فأنزل كفره في الكتاب)
فأومئ معاوية إلى الحاجب بإخراجها، فقالت: (وا عجباه من ابن هند يشير إلي ببنانه و يمنعني نوافذ لسانه أما و الله لأبقرنه بكلام عتيد كنواقد الحديد أو ما أنا بآمنة بنت الشريد) واستمرت المحاورة بينهما فأخرست هذه اللبوة الشجاعة هذا الطاغية بفصاحة لسانها وصلابتها في دينها.
وذكر السيد هاشم معروف الحسني: (إنه ـ أي معاوية ـ أمر بقتلها وكانت أول امرأة قتلت في الإسلام بعد أن عرض عليها البراءة من علي (ع) فامتنعت عليه وتبرأت منه ومن جلاديه ومن يحابيه بفعل أو قول).
ثم يقول: (وغير بعيد على ابن هند أن يقتل امرأة لأنها لم تتبرأ من علي ودين علي (ع) كما قتل غيرها من أعيان المسلمين وصحابة الرسول لهذا السبب وهم لا يملكون سلاحا غير سلاح الإيمان الذي كان يعمر قلوبهم وبه وحده وقفوا تلك المواقف الخالدة يجاهدون به من ضل عن الحق وتخبط في متاهات الباطل والظلم والطغيان.
وهل يملك معاوية من الدين والقيم والرحمة ما يمنعه من قتل امرأة مسلمة لأنها لم تلعن علياً وتتبرأ من دينه دين محمد بن عبد الله وقد أمر جلاديه بنقلها من بيتها في الكوفة إلى سجونه المظلمة في دمشق.
وأي فرق بين قتلها بالسيف وبين وضعها مكبلة في سجون دمشق ليفاجئها برأس زوجها الصحابي الجليل ابن الثمانين سنة بعد أن طاف به في البلدان، وقد اقتدى به ولده يزيد من بعده فطاف برأس الحسين (ع) ونسائه في البلدان وانتهى به المطاف ليضعه في قصر الحمراء بين يديه وينكث ثناياه بمخصرته بحضور نسائه وشقيقاته وأطفاله). (6)
وكان لمقتل عمرو بن الحمق وزوجته وحجر بن عدي الكندي وأصحابه ردود أفعال لدى المسلمين تجاه وحشية السلطة، لكنها كانت تجابه بالقمع والإهمال، وجاءت ردود الأفعال هذه من كثير من شخصيات المسلمين، لكن الغريب إن البعض من هذه الشخصيات كانت على غير المنهج الذي سار عليه عمرو بن الحمق وحجر بن عدي بل كانت ممن يعادي هذا المنهج !
ومن هذه الردود رد عائشة في قولها لمعاوية كما يورده الطبري في تاريخه (ج5ص279): (أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ أما والله إن كان ما علمت لمسلماً حجاجاً معتمراً) !! وعندما يقول لها معاوية: (إني رأيت قتلهم صلاحاً للأمة وإن بقاءهم فساد للأمة)، تقول له: (سمعت رسول الله(ص) يقول: سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء) (7) ولكن ماذا لو قُتل عمرو وحجر في يوم الجمل؟
ولم تختلف ردود أفعال غيرها من مخالفي أهل البيت (ع) مثل رد: عبد الله بن عمر وغيره عن ردها التي كانت لأغراض سياسية ومآرب دنيوية فكانت كلمة حق يراد بها باطل.
ولكن عمرو بن الحمق وحجر بن عدي وأصحابه وغيرهم من أصحاب أمير المؤمنين (ع) في غنىً عن أمثال هذه الردود فقد نالوا أرفع الأوسمة وأعلى الشهادات من أقوال المعصومين بحقهم.
وكانت شهادة عمرو بن الحمق مع زوجته الشهيدة آمنة بنت الشريد عام (50هـ) وقد بلغ الثمانين من عمره وقد أبلته العبادة كما وصفه الإمام الحسين في رسالته التي بعثها إلى معاوية حيث يقول فيها:
(ألست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة - فأنحلت جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته واعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل اليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة على ربك واستخفافاً بذلك العهد).
و يشير الإمام (ع) بذلك العهد الى نصوص المادة الخامسة في معاهدة الصلح بينه وبين الإمام الحسن (ع) والتي تعهد بها على أن لا يتعرض بالأذى لأحد من أصحاب أمير المؤمنين (ع) لكن معاوية نكث بكل فقرات العهد.
وتضاف شهادة أخرى إلى شهادة الإمام الحسين (ع) بحق عمرو وهي من معصوم أيضا تدل على منزلة عمرو بن الحمق العظيمة لدى أهل البيت (ع) وهي من الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) كما ورد عنه قوله: (إِذَا كانَ يوم القيامة، ينادي منادٍ: أين حواري علي بن أبي طالب (ع) وصِي محمد بن عبد الله رسول الله (ص) ؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي، ومحمَّد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمَّار، مولى بني أسد، وأُوَيس القرني).
لقد طابت نفس عمرو إلى الشهادة فتقدم إليها بقدم الواثق المطمئن الذي سيلاقي ربه بروح وريحان وجنة نعيم، فلم ترهبه سيوف الجلادين، ولا سجون الظالمين، فنطق بالحق وعمل به حتى مضى على نهج الإسلام المحمدي الأصيل تحت راية الحق التي رفعها أمير المؤمنين (ع)
محمد طاهر الصفار
.........................
1 ــ تاريخ الطبري ج 3 ص 209 / الكامل لابن الأثير ج 2 ص 325
2 ــ العقـد الفريـد ج 3 ص 271 / الغدير ج 3 ص 254 / شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 2 ص 44
3 ــ شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ج ٩ ص ٥٣
4 ــ شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ج 4 ص 51
5 ــ الإستيعاب ج 2 ص 517
6 ــ الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ ص 307
7 ــ تاريخ الطبري ج 5 ص 279
.........
انتهى/ 278
المصدر : العتبة الحسينية المقدسة
السبت
٢ نوفمبر ٢٠١٩
٣:٥٢:٠٧ م
985668
عمرو بن الحمق الخزاعي كان من أولئك الرجال العظماء الذين له مواقف مشرقة ومشرّفة في الوقوف مع أمير المؤمنين (ع) في مواصلة مسيرة الإسلام والدفاع عن الشريعة الغراء بعد النبي (ص).