وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ـــ ابنا ــ يقول الواسطي:
لو لا رجـــــالٌ بــعد فقدِ محمدٍ *** مرقوا وفي يـوم النعيلة بُويعوا
ما جُرِّدتْ بالطــفِّ أسيافٌ ولا *** كانت رمــــاحُ بني أمية شُرَّعُ
لهفي له والخيـــلُ تعلو صدرَه *** والرأسُ منه على الأسنةِ يرفعُ
يا زائرَ المقتولِ بغياً قفْ على *** جدثٍ يقابله هنــــــالكَ مصرعُ
وقلِ السلامُ عليكَ يا مـولىً به *** يرجو الشفاعةَ عبــدكَ المُتشيِّعُ
يا يومَ عاشوراءَ أنتَ تركـتني *** حلفَ الهمومِ بمقـــــلةٍ لا تهجعُ
كثيرة هي النماذج الكبيرة في الأدب العربي التي لم تطرق بابها يد الدراسة والبحث ولم يكشف عن روائعها بتسليط الضوء عليها، وربما كان هذا الحال أفضل من إبرازها بطريقة مشوّهة وفق ما تقتضي الأهواء والأمزجة المذهبية والسياسية
وواحد من هذه النماذج الأدبية في التاريخ العربي هو الشاعر محمد بن علي الواسطي المعروف بـ (ابن المعلم الواسطي) (501 ــ 592 هـ)، الذي جنى عليه التاريخ وعقه المؤرخون رغم أنه يمثل قامة كبيرة في تخوم الأدب العربي ونجماً ساطعاً في سمائه.
ابن المعلم
لم تسعفنا مصادر التاريخ بما يليق بهذا الشاعر الكبير من معلومات عنه سوى بعض النُبذ التي لا تكوّن صورة كاملة عنه ولكنه ترك ما يدل على أثره الكبير في مجتمعه وهو شعره الذي جمعه بخطه العلامة الشيخ محمد هادي الأميني ابن الشيخ عبد الحسين الأميني صاحب موسوعة الغدير حيث يقول السيد جواد شبر:
رأيته عنده بخطه وقد ألفه من ثلاث نسخ مخطوطة للديوان، الأولى نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق الشام برقم ٦٧١١ الثانية نسخة مكتبة معهد الدراسات الاسلامية، الثالثة مخطوطة مكتبة الإمام الحكيم العامة ـ قسم المخطوطات برقم ٨٩٣ بخط جامع الديوان المرحوم الشيخ محمد الشيخ طاهر السماوي كتبها سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة ويحتوي الديوان على ١٠١ من الصفحات. (1)
كما نجد في النزر القليل من الأخبار التي ذكرها المؤرّخون عنه ما يدل على نبوغه ومكانته الأدبية الكبيرة في عصره من ذلك ما نقل عنه قوله:
كنت ببغداد فاجتزت يوماً بموضع رأيت الخلق مزدحمين، فسألت بعضهم عن سبب الزحام ؟ فقال: هذا ابن الجوزي الواعظ جالس، فزاحمت وتقدمت حتى شاهدته وسمعت كلامه وهو يعظ حتى قال مستشهداً على بعض إشاراته: ولقد أحسن ابن المعلم حيث يقول:
يزداد في مسمعي تكرار ذكركم *** طيباً ويحسن في عيني تكرُّره
فعجبت من اتفاق حضوري واستشهاده بشعري ولم يعلم بحضوري لا هو ولا غيره من الحاضرين.
وهذه الرواية تدل على شهرته في أوساط المجتمع ونفاذه في قلوبهم ويعزز ابن خلكان هذه الرواية في ترجمته لابن المعلم حيث يقول ما نصه:
أبو الغنائم محمد بن علي بن فارس بن علي بن عبدالله بن الحسين بن القاسم المعروف بابن المعلم والواسطي الهرثي الملقب نجم الدين الشاعر المشهور، وكان شاعراً رقيق الشعر لطيف حاشية الطبع يكاد شعره يذوب من رقته، وهو أحد من سار شعره، واشتهر ذكره ونبه بالشعر قدره، وحسن به حاله وأمره، وطال في نظم القريض عمره، وساعده على قوله زمانه ودهره وأكثر القول في فنون المقاصد، وكان سهل الألفاظ صحيح المعاني .... فعلق بالقلوب ولطف مكانه عند أكثر الناس ومالوا إليه وحفظوه وتداولوه بينهم واستشهد به الوعاظ واستحلاه السامعون. (2)
شعره
نشأ الواسطي نشأة شيعية ونهل من منابع الفكر والأدب الشيعي فلا غرو أن يصبح من أعلام الأدب وقد ترجم له أعلام الشيعة وعدّوه من شعراء الشيعة فترجم له السيد الأمين في أعيان الشيعة والشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب وغيرهم ومما يدل على تأثره بأدب الإمام أمير المؤمنين تضمين قوله (ع) فما عدا مما بدأ. وكان (ع) أول من نطق بهذه الكلمة فأخذ ابن المعلم هذا الكلام وقال من ضمن قصيدة طويلة:
منحوهُ بالجذعِ السلامَ وأعرضوا *** بالغورِ عنه فـ (ما عدا مما بدا)
ومن شعره في أهل البيت (ع) قصيدته التي ذكرها السيد محسن الأمين أعيان الشيعة وقال عنها: وجدنا هذه القصيدة في مجموعة نفيسة (3) وقد ذكرها السيد جواد شبر أيضاً وهذه القصيدة (العينية) التي تبلغ (28) بيتاً هيَ قصيدة شيعية قحّة يبدأها بوصف الديار والاطلال كعادة شعراء ذلك العصر ثم يتخلص إلى مدح أمير المؤمنين فهو (ع) الشفيع لشيعته يوم القيامة:
وهو صنوُ النـبيِّ أبــــــو الأئمّــــــــة والذي لوليهِ يومَ القيــامةِ يشفعُ
ثم يتطرق إلى فضائل أمير المؤمنين وما جاء بحقه في القرآن الكريم:
أما أميرُ المؤمنيـــــــــن فذكره *** في محكم التنزيل ذكـر أرفع
ثم يذكر حادثة الغدير التي نصب فيها رسول الله (ص) عليا خليفة من بعده ولكن ...
حفظوا عهود الغدر فيما بينهم *** وعهود أحمد يوم خُمٍ ضيّعوا
ثم يختمها برثاء سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وما جرى عليه وعلى أهل بيته في كربلاء وفي رأي الشاعر أن حادثة كربلاء لم تكن لتحدث لولا يوم السقيفة التي أشار إليها بـ (النعيلة) للتصغير والتحقير:
لو لا رجالٌ بـــــعدَ فقدِ محمدٍ *** مرقوا وفي يوم النعيلةِ بُويعوا
ما جُرِّدت بالطفِّ أسيافٌ ولا *** كانت رماح بني أميّـــة شرّعُ
ونترك للقارئ القصيدة فهي خير معبّر عمّا في نفس الشاعر:
هذي المنازلُ يا بثيـــــــــــــــــــــنة بلقعُ *** قفرى تنــــازعُها الرياحُ الأربعُ
طمستْ معالمُها وبـانَ أنيــــــــــــــــسُها *** واحتل عرصتَها الغرابُ الأبقعُ
لم يبقَ إلّا خط نـــــــــــــــــــــاي دارسٍ *** فيها وأشعــــث مائلٌ يتضعضعُ
وثلاثة لم تضــــــــــــــــــمـــــحل كأنها *** برسومِ عرصتِـــــــها حمامٌ وُقّع
في رســـــــــــــــــمِ دارٍ يـستهلُّ بـجوِّها *** جونٌ هتــــــــونٌ مرجحنٌ يهمعُ
وإذا تضاحكَ فـي الدُّجــــــــــى إيماضه *** فعيــــــــــونه في كل قطرٍ تدمعُ
عهدي بها : يـــــــــــــا بيـن وهي أنيـقة *** للخرَّدِ البيـــــضِ العذارى مربعُ
وعلى غصونِ الدَّوحِ في جنبــــــــــاتِها *** ورق الحمائمِ خـــــاطباتٍ تسجعُ
وتقولُ عــــــــاذلتي حمــــــــــلتُ مآثماً *** صمّ الجبالِ لـــــهولِها تتضعضعُ
دعْ ذكرَ رســـــــــــــــــمٍ دارسٍ بجديدِه *** كفُّ البلا بعد البشــــــــاشةِ تولعُ
واذخرْ لنفســـــــكَ عــــــــــدّة تنجو بها *** من هولِ يومٍ فيـــــــــه نارٌ تلذعُ
فأجبتها كفّي فلســـــــــــــــــــتُ إذا أتى *** يومُ المعــــادِ أخافُ منه وأجزعُ
قالتْ : فمن ينجيــــكَ مـــــــــــن أهوالهِ *** وعذابهِ ؟ قلتُ : البطيـنُ الأنزعُ
صنوُ النبيِّ أبــــــــــــــــو الأئمة والذي *** لوليهِ يومَ القيـــــــــــــــامةِ يشفعُ
قومٌ بهم غُفرتْ خطيـــــــــــــــــــئةُ آدمٍ *** وهمُ الوسيـــــــلةُ والنجومُ الطلّعُ
أمّا أمير المؤمنيــــــــــــــــــــــن فذكره *** في محكمِ التنزيــــــلِ ذكرٌ أرفعُ
سلْ عنه (مريم) في الكتابِ (وهل أتى) *** إن كنتَ بالذكــــــرِ المنزَّلِ تقنعُ
مَنْ قال فيه محمــــــــــــــــــــدٌ أقضاكمُ *** بعدي وأعلمــــــكم عليُّ الأروعُ
حفظوا عهــــــــــــــودَ الغدرِ فيما بينهم *** وعهـــــودَ أحمدَ يومَ خُمٍّ ضيّعوا
قتلوا بعرصــــــــــــــــــةِ كربلا أولادَه *** ولهم بغفــــــرانِ المهيمنِ مطمعُ
منعوا ورودَ المـــــــــــــــــاءِ آلَ محمدٍ *** وغدت ذئـــــابُ البرِّ منه تكرعُ
آلُ الضلالِ بنـــــــــــــــــــو أمية شرّعٌ *** فيه، وسبــــط الطهرِ أحمدَ يُمنعُ
لولا رجـــــــــــــــــــــالٌ بعد فقدِ محمدٍ *** مرقوا وفي يـــوم النعيلةِ بُويعوا
ما جُرِّدتْ بالطـــــــــــــــفِّ أسيافٌ ولا *** كانت رمــــــاحُ بني أمية شرَّعُ
لهفي له والخيلُ تعــــــــــــــــلو صدرَه *** والرأسُ منه على الأسنــةِ يُرفعُ
يا زائرَ المقتـــــــــــــولِ بغياً قفْ على *** جدثٍ يقــــــــابله هنالكَ مَصرعُ
وقلِ الســــــــــــــلامُ عليكَ يا مولىً بهِ *** يرجو الشفــــاعةَ عبدُكَ المتشيِّعُ
يا يومَ عاشــــــــــــــوراء أنتَ تركتني *** حلفَ الهمـــــــومِ بمقلةٍ لا تهجعُ
رثاء ابن المعلم ابنه
وقدِّر لابن المعلم أن يفقد ابنه محمداً في حياته فرثاه رثاءً مفجعاً في قصيدة طويلة أفرغ فيها عما اعتلج في صدره من الألم الطاغي فيبدأ القصيدة بالشكوى من الدنيا وما تضمره للمرء من المصائب والمحن فيقول:
كلُّ شيءٍ على البسيــــــطةِ يَفنى *** فضــــــــــلالٌ منَّا الـذي نَتمنَّى
أبقاءً يـــــــــــــــؤمِّل المرءُ هيهــــــــــــــاتَ بقاءُ الفـاني، وكيفَ وأنَّى ؟
ما نعيـــــــــــــمُ الحياةِ إلا شقاءٌ *** إنْ رضيـنا بعيــــشِنا أو سَخِطنا
هي دارٌ فيــها الصحيحُ من البلـــــــــــــــوى عليـلٌ، والمُسـتريـــحُ مُعنَّى
عجباً للذي تيـــــــــــقَّن أنَّ الــمَـــــــــــــــوتَ يأتيــهِ، كيف يَـعرِفُ أمْنا!
ويقول فيها:
يا هلالاً هوى وما تـــــــمَّ بدراً *** وقضيــــباً ذوى وما تمَّ غُصْـنا
وحُســـاماً ما سُلَّ منهُ إلى الأعـــــــــــــــداءِ فتـرٌ وأُودِعَ الأرضَ جَـفْنا
وبناءً من العـــــــــلا مُشْمَخِراً *** هدَمَ الدهرُ منــــــهُ رُكْنـاً فرُكْـنا
لم يكنْ بينَ ما تُصُـوِّرْتَ لفظاً *** غير عاميـــــنِ إذْ تَحولتَ مَعْنى
لو تراني ما بين قَصْـرٍ يُعَزَّى *** بكَ أبكـــــــــــي، وبين قبرٍ يُهنَّا
خلتَ أنّ الذي لجسْمِـــك أبلى *** هو دونَ الذي لجِســـــميَ أضنى
أنتَ أحييتَ أكبرَ الحُزْنِ وَقْعاً *** ليَ مُذْ مـــــتَّ أصغرَ النَّاسِ سنَّا
فسواءٌ على المقيـــــمِ على قبـــــــــــــرِكَ يبكيكَ: عـاشَ أو ماتَ حُزْنا
وفيها يستذكر ولده وتهيج به اللوعة والأسى:
آه مِنْ حـادثٍ أعادَ القـوى وَهْــــــــــــــــناً، وخطبٍ ردَّ الظهيرةَ دَجْنا
ومصابٍ شقَّ القلوبَ على المَفْــــــــــــــقودِ حُزْناً، ما شقَّ جيباً ورِدْنا
ألبسَ الصبحَ كالحــــوامل للثكــــــــــــــــــــلِ ثياباً مِـنْ شقةِ الليلِ دَكْنا
يا فقيداً أثنى العويــــــــلُ عليهِ *** مُــذْ غدَتْ ألـسُنُ الفصاحةِ لُكْنا
زلتَ عنَّا، عليــــــكَ منا سلامُ *** اللهِ مـــا نـــــــاحَ طائرٌ أو تَغنَّى
وسقى قبــــرَكَ الإلهُ رحيقَ الــــــــــــكوثرِ المَـــحْضَ، لا حَياءً ومُزْنا
ويختمها بقوله:
وعلمنا بما نُــــــــــلاقي، ولكنْـــــــــــــــــــــــــــنَا انثنيا كأنَّنا ما عَلِمنا
يتمنَّى الأُمنيَّـــــةَ المرءُ جَهْلاً *** وهْوَ مِنها إلـــــــــى المَنيَّة أدْنى
عملٌ سيــــــئٌ، وعُمْرٌ قصيرٌ *** ورجـــــــــاءٌ تَفْنى الحياةُ ويَفْنى
توفي ابن المعلم الواسطي في قرية الهرث التابعة لواسط وهي موطنه ومسكنه ومكان وفاته ودفنه.
محمد طاهر الصفار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ أدب الطف ج 3 ص 241
2 ــ وفيات الأعيان ج ٢ ص ٢٩
3 ــ أعيان الشيعة ج ٧ ص ٢٤٣
.......
انتهى / 278
المصدر : العتبة الحسينية المقدسة
الخميس
١٩ سبتمبر ٢٠١٩
٢:٥٥:٤١ م
976830
نشأ ابن المعلم الواسطي نشأة شيعية ونهل من منابع الفكر والأدب الشيعي فلا غرو أن يصبح من أعلام الأدب وقد ترجم له أعلام الشيعة وعدّوه من شعراء الشيعة فترجم له السيد الأمين والشيخ عباس القمي.