وفقاً لما أفادته وکالة أهل البیت(ع) للأنباء ـ ابنا ـ وبلحاظ هذا الموقع والدّور الحسّاس الذي يمثّله كتاب الله في حياة الفرد والجماعة المؤمنة به، كان لا بد من التعامل معه بشكل مغاير عن باقي الكتب والمصنّفات، ولعلّ هذه الحقيقة قد أدركها المسلمون الأوائل، لذلك سارعوا في تشكيل جملة من المباحث العلميَّة التي من خلالها يتمكن الفرد المسلم أن يفهم القرآن بشكل أوضح وأدقّ، وبالتالي يتجنب الوقوع في بعض الشبهات التي تنشأ جرّاء غياب المعطيات المتعلّقة بالنّص القرآني.
فتأسس من بدايات المراحل الأولى، ما يطلق عليه اليوم علوم القرآن، التي هي في واقعها جملة من البحوث والمسائل المتعلّقة بالنّصّ القرآنيّ، فنجد مثلا أنّ مسألة تحديد زمن نزول السّورة أو الآية القرآنية، معطى مساعد على تشخيص أيّ الآيتين نسخت الأخرى، والتي هي تبحث في مبحث آخر، وكذلك تحديد مكان نزول الآية أو السورة القرآنية، هو معطى مساعد على تحديد أسباب النزول الذي هو الآخر معطى مساعد على فهم وتفسير المعنى الكلّي للنّص القرآنيّ المراد تفسيره.
وتجدر الإشارة في المقام، أنّ بعض الأعلام ممّن حاول الكتابة في هذا الفن، قد وسّع دائرة مصاديق علوم القرآن، حتّى بلغ تعداده لها لأكثر من خمسين علمًا، بل بعضهم بلغ معه التعداد لقرابة التسعين علمًا، والحقّ أنّ هذه التوسعة لا فائدة منها، خصوصًا عندما ندرك أنّ ما حسبوه علمًا مستقلاً، هو في واقع أمره مبحث أو مسألة من علم آخر، وعليه فنحن سنحاول في هذا المقال أن نقتصر على ذكر ما يصحُّ وصفه بالعلم، مرجعين ما قد حسبه غيرنا علمًا مستقلاً إلى مَقْسَمه الصحيح.
فنحن إذا رجعنا إلى مفردة «القرآن»، وحاولنا التأمل في مَصبَّات النظر حين استعمالها، سنلحظ أنّها تارة تطلق ويراد بها خصوص اللّفظ، وأخرى تطلق ويراد بها خصوص المعنى، وثالثة تطلق ويراد بها مجموع اللّفظ والمعنى معًا، وعليه فهذه العلوم لابد وأن تكون في تعلّقها بالقرآن متّصلةً بإحدى هذه المصاديق الثلاثة، ونحن هنا سوف نعمل على تعداد هذه العلوم وتقريب موضوعاتها تاركين المجال للقارئ ليحدّد بنفسه كل صنف.
علم التجويد: وهو العلم الذي يُبحث فيه عن الضوابط والأحكام المتعلّقة بالقراءة والنُطق الصحيح للألفاظ والحروف القرآنية من مخارجها الصحيحة، مثلما نزل على النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، حين اجتماعها مع بعض أو مفرّقة، وكذلك الطرق الصحيحة من جهة السرعة والوقف لقراءة القرآن الكريم.
وعادة ما يقسّمون أساليب القراءة المحبّذة من جهة السرعة إلى أربعة مستويات، هي الحدر والتدوير والترتيل والتحقيق، وفي مقابل ذلك كرهوا باقي الأساليب، منها الترجيع، التطريب، التحزين، الترقيص، التحريف، الترعيد، بل إنّ بعض هذه الأساليب قد تصل لمرتبة الحرمة الشرعية.
علم الرسم والتخطيط: وهو العلم الذي يُبحث فيه حول الخطوط والرسوم التي يُكتَبُ ويُرسم بها القرآن الكريم، وهو من العلوم الفنِّية أكثر من كونه علمية، وأشهر أساليب الكتابة المشهورة هو الرسم العثماني المعروف.
طبعا النسخ التي بين أيدينا قد تمّ إضافة الحركات الإعرابية والنقاط الأعجمية في المراحل اللاحقة لمرحلة جمعه، لوضوح أنّ العرب كانوا يكتبون لغتهم بدون حركة أو نقطة، وقد اختلفوا في أوّل من أضاف هذه الحركات والنقاط، فمن أراد التوسع فليراجع المسألة في مضانها.
علم القراءات: وهو العلم الذي يتمّ فيه البحث عن كَيْفِيات النُطق بالألفاظ والكلمات القرآنية حسب نَقْلِ رُوَاتها لها، وفيه تُحدّد الضوابط والمقاييس التي على وفقها تعتبر القراءة مشهورة صحيحة من عدمها، فهو العلم الذي يتم البحث فيه عن طرق وكيفيات النُطق وكتابة الألفاظ والحروف القرآنية، وكذالك يبحث فيه عن مواضع الاتفاق والاختلاف بين القراءات، بحيث يتم فيه إرجاع كل قراءة لصاحبها .
التفسير والتأويل: هو العلم الذي تدور مباحثه حول كشف المعاني المقصودة والمرادة بها الألفاظ والآيات القرآنية، وتجدر الإشارة في المقام إلى أنّ لفظة «التأويل» كانت تستعمل عند القدماء بمعنى يُرادف معنى لفظة «التفسير»، غير أنّه وفي العصور المتأخرة أصبح كلّ منهما يستعمل في استعمال خاص به.
• فتستعمل لفظة «التفسير» في الكشف على المعاني الأولىّة والقريبة للألفاظ، أي الكشف عن المعاني الظاهرية للّفظ كما يعبّر الأصوليون، فالتفسير هو العلم الذي يَعمل على كشف مرادات الآيات والعبارات القرآنية من خلال الوصول للمعاني الموضوعة لها الألفاظ.
• بينما تستعمل لفظة «التأويل» في الكشف عن المعاني الثانوية البعيدة عن الألفاظ، وهي المعاني المرتبطة باللّفظ بدرجة ثانية وثالثة.....، وهي المعاني التي يُحتاج في العمل بها على ضرورة تقتضي التمسك بها، وتتجاوز المعنى الظاهري من اللّفظ، فالتأويل هو العلم الذي يَعمل على كشف المرادات البعيدة للآيات والعبارات القرآنية من خلال التمسّك بالمعاني البعيدة عن اللّفظ، والتي تتجاوز المعاني الموضوعة لها الألفاظ.
المحكم والمتشابه: هو العلم الذي يدور بحثه حول الآيات المُحْكمة ـ أيّ التي لها معنى واحد ـ والآيات المتشابهة ـ أي التي لها معاني كثيرة ـ، فيُبيِّن ويحدّد الآيات المُحْكَمَة من المُتشابهة، وأوّل من أشار إلى وجود الآيات المحكمة والمتشابهة هو المولى تعالى، حيث نجده يقول في كتابه الكريم ((هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ....))(آل عمران ـ7).
الناسخ والمنسوخ: هو العلم الذي تدور بحوثه حول تحديد الآيات الناسخة من المنسوخة، فالآية المنسوخة هي التي أُبْطِل حكمها، بحكمٍ تَحْمِلُهُ آية أخرى تسمى النّاسخة، وهو العلم الذي يبحث في التفريق بينهما، وأيّهما نسخ الآخر، وأدلّة الناسخة من المنسوخة، وأوَّل من أشار إلى مسألة النسخ في القرآن هو المولى تعالى في كتابه، حيث قال ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))(البقرة ـ106).
الوجوه والنظائر: هو العلم الذي يَبحث في المفردات القرآنية التي هي واحدة من جهة اللّفظ ومتعدّدة من جهة المعنى كالمشترك، أو هي واحدة من جهة اللّفظ والمفهوم العام ولكن لها مصاديق عدّة في الخارج كالمتواطئ.
علم التنزيل: وهو العلم الذي يهتم بالبحث عن الأسباب الموضوعية الواقفة خلف نزول آيات القرآن الكريم، ويرتبط بهذا المبحث جملة من المباحث الأخرى، كالبحث في الحوادث والأفراد المسبِّبين لنزول الآيات، ويسمّى هذا البحث بـ «أسباب النزول»، وكذلك مكان نزول الآيات القرآنيَّة، وهو ما يُعرف بـ «المَكِّي والمَدَنِي»، وزمن نزول الآيات القرآنيَّة وغير ذلك.
الإعجاز القرآني: هو المبحث الذي يَبحث في وُجُوهِ إعجاز القرآن الكريم، سواء كان هذا الإعجاز بيانيًا بلاغيًا، أم علميًا وتشرعيًا.
آيات الأحكام (فقه القرآن): وهو المبحث الذي تدور محاور بحثه حول الآيات القرآنية التي تتضمن في محتواها الأحكام، سواء كانت هذه الأحكام فقهية أم عقائدية.
المباحث القَصصيَّة: وهي المباحث التي تدور محاور بحثها حول تفسير الآيات القَصصية التي وردت في القرآن الكريم، وخاصة قصص الأنبياء والرُّسل والأقوام التي سبقت الإسلام، وعليه فمباحثه تدور حول المسائل التاريخيّة للأنبياء والرُّسل والأقوام السابقة للإسلام والمذكور في القرآن الكريم.
حبيب مقدم
........
انتهى / 278
المصدر : وكالة الحوزة
الخميس
٢٥ أبريل ٢٠١٩
٣:١٩:١٨ م
938339
عند تتبع ما يمثله القرآن الكريم عند الفرد المسلم، وتتبع دوره في حياته وحركته، سندرك حقيقة أنّ هذا الكتاب لم يُنزّل ليُقرأ فقط، أو ليتم معاملته على وفق ما يمثله من قداسة، بل نُزِّلَ ليكون المرجع في رسم المنظومات المعرفية التي لها تأثير مباشر على حركة الفرد المؤمن به، وكذلك ليكون المرجع في رسم الحدود التي تقف عندها جملة من السلوكات والمواقف البشرية، سواء الفردية منها أو الجماعية.