ابنا: ضخم الجثة، يبدو الكرسي الجالس عليه صغيراً لا يتسع له، ركبتاه فوق مستوى الحوض، يداه عندما يرسلهما تكادان تلمسان الأرض، الثلث الخلفي لقدمه خارج الحذاء البلاستيكي الذي ينتعله، حاجباه غليظان متصلان، تبرز عند حديثه تجاعيد كثيرة على جانبي فمه، وتجاعيد أكثر على جبهته، هيئة تفسر لك سبب تلقيبه بـ"الديناصور".
إسمه هشام إبراهيم عثمان مسمح، من أصول فلسطينية، ولد في درنة عام 1982، إنتسب لعائلة "العوكلي" من قبيلة "العبيدات" بالشرق الليبي، يحمل شهادة الليسانس في الآداب، عمل مدرّساً قبل عام 2011، وأعتقل بسجن أبو سليم في قضية حملت الرقم 355/2005
بعد عام 2011 تعددت المجموعات المسلحة في مدينة درنة، لينضمّ لمجموعة عُرفت بإسم "جماعة الصحابة" التي كانت تتمركز بمقر إدارة شركة الجبل في المدينة، وهي أول مجموعة بايعت تنظيم داعش الإرهابي في ليبيا، وكان إسمه الحركي هو "الديناصور"
-محاولة الهروب من سرت
لم يكن الديناصور شخصاً عادياً أو متطرفاً وحسب، يكفي أنه تمكّن في ظرف مستحيل من التسلل من "سمّ الخياط"، يومها كانت قوات عملية "البنيان المرصوص" تطوّق التنظيم في أقلّ من كيلومتر مربع في مدينة سرت. وكان الوحيد الذي إخترق ذلك الطوق المصمت، الأمر الذي يدلّ على قدرات حركية إستثنائية.
يتحدث مسمح عن ذلك، قائلاً في إعترافاته التي إطلع عليها معدّا التحقيق: في الأيام الأخيرة لداعش في سرت حوصرنا في حي الجيزة البحرية، كنت من ضمن المحاصَرين، حين جاءني نداء عبر اللاسلكي من آمر التسليح "حسن الشاعري" يأمرني بفتح النار من جهتي لتخفيف الضغط عليه، كان ذلك قبيل الفجر بأحد الأيام الأخيرة من نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
وتابع: إستطلعت الجبهة من جهتي، فوجدت منفذاً تسللت منه في غفلة من مقاتلي البنيان، فإتجهت إلى الحي رقم 3 وبقيت مختبئاً في أحد المنازل لثلاثة أيام.
تحرك العوكلي من "الحي رقم 3" حتى جامع "بن همال" ومنه إلى منطقة السبعة بالقرب من موقع لشركة الكهرباء، وكمن هناك محاولاً الإتصال عبر جهاز هاتف "ثريا" كان بحوزته لعلّه يجد من ينقذه، خلع حزامه الناسف ونام، ليستيقظ ومقاتلو البنيان فوق رأسه ببنادقهم، ويؤكد "علي بن غربية" مساعد قائد المحور الشرقي في قوات عملية البنيان المرصوص التي خاضت غمار الحرب على داعش في سرت أن "سلاح التنظيم الإرهابي عبارة عن بقايا أسلحة الجيش الليبي التي حصل عليها الثوار أثناء حرب التحرير سنه 2011 والتي وصلت إلى الدواعش بعد تحوّل أنصار الشريعة في سرت وبنغازي ومبايعتهم التنظيم"، متابعاً: "السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة هي الأسلحة المميزة التي كانت لدى التنظيم الإرهابي، وهذه سهلة التصنيع من بقايا القذائف التالفة يستخدمها أفراد التنظيم كأحد آخر الحلول لفك الحصار وكسب المعركة، وتعتمد على إقدام الفرد على الإنتحار".
عند هذه المرحلة تحول ديناصور داعش من موقع الفاعل إلى المفعول وصار الشاهد الوحيد في كثير من الجرائم التي إرتكبها إرهابيو التنظيم التكفيري ولم يبق غيره من الأحياء ليفكّ طلاسمها بعد أن تمّ توقيفه في سجون إدارة الجريمة بمصراتة، وبحسب مصدر أمني رفض الكشف عن هويته لمشاركته في التحقيقات الدائرة مع عناصر داعش، فإن الدواعش المقبوض عليهم في ليبيا، موجودون في سجون طرابلس ومصراتة وعملية التحقيق مستمرة، وكشفت التحقيقات تفاصيل مهمة عن بقايا خلايا التنظيم ما ساهم في تحجيم قوتها والحدّ من تحركاتها.
- شاهد على داعش
في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2014 وصل إلى ليبيا ثلاثة قادة مبعوثين من داعش في العراق وسورية، وتنقّلوا بين درنة وسرت، كان زعيمهم "وسام الزبيدي"، ويكنّى بـ"أبي عبدالعزيز الأنباري"، عراقي الجنسية من مدينة الرمادي وحضر إلى ليبيا مكلّفاً بإمارة شمال أفريقيا. وكان قد أسند إلى "الديناصور" مهمة تأمين تنقلاتهم، الأمر الذي سيتيح له فرصة - لم تتكرر مع غيره - ليستمع لأحاديثهم ويرصد تلقائياً، جانباً من تحركاتهم.
قبل أن يتولى هذه المهمة الحساسة، عرض قادة داعش عليه في منزل صديقه "فرج كيكبان" إمارة سرت، وتحديداً في أكتوبر/تشرين الأول 2014 في أول لقاء له معهم، لكنه رفض قائلاً: "أنا لم أستطع إدارة مدرسة، فكيف بمدينة؟"
إستلم الديناصور بعد ذلك التاريخ مهمة التنقل بقادة التنظيم الإرهابي بين المدن الليبية، درنة وبنغازي وأجدابيا والنوفلية وسرت.
- الثلاثة الذين كُلّفوا
ينقل مسمح عن "أبو عبدالعزيز" هذا أنه كان مسجوناً بسجن أبوغريب قبل أن يفرّ منه عام 2012 إثر هجوم لعناصر من جماعة دولة العراق الإسلامية، وأصبح من جماعة الحل والعقد في مجلس شورى مجاهدي بلاد الرافدين، والذي تحوّل إلى تنظيم دولة العراق الإسلامية بزعامة "أبو مصعب الزرقاوي".
قُتل "أبوعبد العزيز الأنباري" نتيجة قصف لطيران أمريكي على منطقة الفتائح بمدينة درنة في نوفمبر 2015، ليصبح "التكريتي" خلفاً له.
"أبومعاذ التكريتي" هو ثاني الشخصيات في هرم داعش ليبيا، وهو من العراق أيضاً، كان عمره وقتها يقارب الواحدة والأربعين، وقد تقلّد منصب والي شمال أفريقيا بعد مقتل أبو عبدالعزيز.
يمتلك التكريتي خبرة في مجال الإعلام، وبحسب الديناصور الحاضر لواقعة ذبح الأقباط المصريين في سرت، فإن التكريتي هو من أشرف على إخراج ذلك الإصدار. وقد فرّ بعد شهر من إندلاع الحرب في سرت، حيث تسلل مع مجموعة الحدود إلى الصحراء. وأبو معاذ التكريتي هو من يعطي التعليمات للمصورين كيف يتحركون ومتى، وقد أوقف التصوير أكثر من مرة لإعطاء التوجيهات أو إعادة الحركة، خاصة لأبي عامر الجزراوي المتحدث الوحيد في ذاك الإصدار.
ثالث القيادات هو أبوعامر الجزراوي، وهو الذي ظهر في فيديو ذبح الأقباط، متحدثاً باللغة الإنكليزية التي يجيدها بطلاقة لإقامته لفترة من الزمن في كندا وهو سعودي الأصل من مدينة الرياض وله زوجة وابن يعيشان في السعودية.
في عام 2015 تزوج "أبو عامر" من فتاة ليبية في سرت، ثم قُتل في حي الجيزة البحرية إبان عملية البنيان المرصوص في ديسمبر/كانون الأول 2016.
- وفد ألماني في درنة
من الأحداث التي أتيح للديناصور متابعة تفاصيلها أنّ شابين ألمانيين حضرا إلى درنة في شهر رمضان من عام 2012، أتى بهما المدعو "أبو منعم الحصادي" لموقع كتيبته في مقر شركة الجبل، وطلبا المساعدة في تهريب 20 شخصاً يحملون الجنسية الألمانية من مصر إلى ليبيا عبر الحدود البرية، بينهم أربع نساء وطفلان، لتسفيرهم بعد ذلك إلى تركيا ومنها إلى سورية للإلتحاق بتنظيم داعش هناك.
كان أمير المجموعة الألمانية يدعى "أبو أسامة" وهو مصري يحمل الجنسية الألمانية، أما مساعده فيدعى "أبو طلحة" ألماني من أصول غانية.
يذكر مسمح كيف تابع معهم التنسيق مع مهرّب داخل الحدود المصرية يدعى "فايز" وله إسم آخر يقال له "إكروم" من عائلة "العزومي" يقيم في مرسى مطروح، وكان من المهربين المعروفين والموثوقين لدى داعش.
وصلت المجموعة الألمانية إلى المهرّب بمرسى مطروح وحدد مسلك التهريب من مرسى مطروح ثم سيوة ومنها إلى الجغبوب، وتحديداً منطقة تسمى الوتر تبعد 50 كيلومتراً عن الحدود المصرية.
تحركت ثلاث سيارات من درنة، الأولى يقودها الديناصور والثانية أبومنعم الحصادي، فيما قاد "جلال الكيلاني" السيارة الثالثة، حيث إلتقوا مع المهرّب في منطقة تبعد 20 كيلومتراً جنوب طبرق وإستلموا كافة أفراد المجموعة وجيء بهم إلى درنة.
أشهر الواصلين لدرنة أبو طلحة الألماني أو "أبو رحمة" وهو غاني من مواليد ألمانيا، كان مغنّي راب مشهوراً، وبعد إنضمامه لداعش ظهر في إصدار بالقرب من سد الموصل بالعراق وإصدار آخر وهو يتحدث عن التنظيم الإرهابي باللغة الألمانية.
- مقتل إمرأتين ألمانية وروسية من داعش في درنة
بدأت إجراءات إستخراج جوازات السفر الليبية للألمان وإستغرق الأمر زمناً حتى جاء عيد الأضحى وفي أول أيام ذلك العيد عام 2012 خرج الوفد الألماني في نزهة نظّمها الديناصور ورفاقه، وبينما هم في مرحلة من الطريق إذا بحافلتهم تتعرض لحادث سير نتجت عنه حالتا وفاة وإصابات أخرى.
أصيب "أبو أسد" وهو ألماني الجنسية بكسر في رجله اليمنى ودخل في غيبوبة دامت 15 يوماً، سُفّر بعدها لتركيا بجواز مزور لعلاجه على نفقة لجنة علاج الجرحى الليبيين بالخارج، لكن السلطات التركية إكتشفت أمره فقبضت عليه ورُحّل لألمانيا كأحد المطلوبين.
فيما توفيت نتيجة الحادث امرأتان هما "أمّ دعاء" وهي ألمانية الجنسية والأصل و"أم داوود" الألمانية ذات الأصول الروسية، ودُفنتا بمقبرة الفتائح بالقسم الثالث وقد أمَّ المصلين في الجنازة "خالد سعد الكيلاني" أحد قيادات أنصار الشريعة بدرنة، وكان موقع الديناصور مأموماً.. وشاهداً.
ويعلّق المحلل السياسي الليبي "عبدالله الكبير" على الوقائع السابقة، قائلاً: إن ليبيا كانت محطة مهمة لتدريب وتسفير الجهاديين إلى سورية والعراق، والعناصر الجهادية المحلية توفرت لها معسكرات للتدريب وكذلك نجحت في إختراق بعض مرافق البلاد مثل المطارات، وبسبب إنهيار المنظومة الأمنية بعد سقوط القذافي كان من السهل على العناصر المتشددة بإعتبارها جزءاً من ثوار الجبهات أن تتسلل إلى بعض المواقع القيادية وتتمكن من إستخراج جوازات سفر للجهاديين.
- ألمان بجوازات ليبية
على مدى ستة أشهر عمل مسمح وجماعته على تسفير بقية المجموعة الألمانية بجوازات سفر ليبية عبر مطاري بنينة والأبرق إلى تركيا ومنها إلى أنطاكيا الحدودية في رحلة داخلية ليستلمهم مهرّب ويُدخلهم إلى سورية براً.
يقول الديناصور عن الجوازات المزورة إنها كانت تُستخرج من مكتب جوازات درنة بواسطة ضابط في مصلحة الجوازات يدعي "ع.ح" مقابل 50 ديناراً ليبياً عن كل جواز سفر وبعلم العقيد "ر.ش" مدير مكتب جوازات درنة وقتذاك.
بعد إقفال مكتب جوازات درنة جلب أبومنعم الحصادي عدداً كبيراً من الجوازات من مدينة سرت تحمل أرقاماً تسلسلية صادرة عن الإدارة العامة للجوازات.
وفي مطار بنينة بمدينة بنغازي كان التنسيق لتسفير "المهاجرين" إلى تركيا يتمّ مع قائد مليشيا يدعى "ع. و" مقابل المال، أما بمطار الأبرق فقد كان التنسيق مع "م.ع" أحد ضباط المطار كما كشفت إعترافات مسمح.
- ذبح الأقباط
لم يكن الديناصور بالتأكيد يعلم ما يخبئه له القدر فجر أحد أيام ديسمبر/كانون الأول 2014، فبينما كان في مقرّ إقامته في ديوان الحدود في منطقة السبعة بمدينة سرت، جاءه أمير الديوان "هاشم أبو سدرة" وطلب منه جلب معدات حفر "جرافة، فأس، مسحة"، صعد معه على متن سيارة وتوجّها إلى فندق المهاري ودخلا عبر طريق محاذية للفندق بإتجاه البحر.
يقول الديناصور: عند وصولنا إلى الشاطئ شاهدت مجموعة من عناصر التنظيم وسياراتهم و21 شخصا يرتدون زياً برتقالياً شبيهاً بلباس عمال النظافة.
يصف المشهد فيقول: كانت توجد سكة متحركة عليها كرسي وكاميرا سفلية تتحرك من بداية السكة إلى نهايتها وعلى هذا الكرسي ذراع طويلة عالية متحركة توجد في نهايتها كاميرا يتحكم بها مصور جالس على الكرسي، وكاميرات أخرى كانت مثبتة على شاطئ البحر.
فهم الديناصور مما رأى أن إصداراً للتنظيم الإرهابي سيجري تصويره، خاصة عندما شاهد الكاميرات، وأبو معاذ التكريتي يعطي التعليمات بينما أعطى أبو عبدالعزيز الأنباري الإشارة ليقوم عناصر داعش الملثمون بوضع الضحايا على بطونهم ومن ثمّ ذبحهم وفصل رؤوسهم ووضعها على ظهورهم.
كُلّف الديناصور بجمع الجثث ونقلها بصحبة آخرين لدفنها عند نقطة تبعد 12 كيلومتراً عن بوابة الأربعين جنوب مدينة سرت.
..................
انتهى/185