ابنا: ألقى الإمام موسى الصدر محاضرة بمناسبة ولادة الإمام أمیر المؤمنین (ع)، وتطرق فيها إلى بعض خصائص الإمام علي (ع) مشيراً إليها متسائلاً ومتأملاً.
أعداء الإمام الذين كان لهم مجال واسع طول التاريخ في تزييف الأحاديث الواردة عن الإمام. حكام العالم الإسلامي الذين كانوا يستأجرون الضمائر ويوظفون الرواة لتزوير الأحاديث وتشويهها ونزعها، حاولوا أن يعلقوا، وأن يردوا، وأن يذكروا أمثالًا لفضائل الإمام ومقامه. اختلقوا قصة أخرى، قالوا أنه في الكعبة وُلِدَ شخص آخر، اسمه حكيم بن حزام، هذا الرجل الذي قيل أنه وُلِدَ، حديث موضوع مزور، لأنه لا ينقل ولادة حكيم بن حزام أحد إلا المتأخرون الذين يحاولون أن يدسوا وينكروا فضل الإمام. وحكيم بن حزام رجل ضعيف الإيمان كان يتقاضى الزكاة من فئة ﴿المؤلفة قلوبهم﴾ [التوبة، 6]، يعني كان ضعيف الإيمان ولا قيمة له أبدًا. ولهذا هذه المنقبة سبحان الله، خصصها الله سبحانه وتعالى لإمامنا أمير المؤمنين (ع).
كما أن مقتل الإمام أيضًا، كما تعلمون، كان في المحراب. فالإمام أصيب بالجرح المهيب الذي قضى عليه بواسطة ابن ملجم في المحراب. فحياة الإمام بدأت في بيت الله، وانتهت في بيت الله.
حياة الإمام بين هذا المبدأ وذلك المنتهى، كلها سجود وعبادة وخدمة لله. يكفي أن نعلم أنه هو الذي حطم الأصنام بأمر رسول الله وهو الذي حطم الأصنام الاصطناعية، هو الذي قضى على كبار المشركين في الحروب، وعلى كبارهم في المجتمعات. أمير المؤمنين (ع) خُلِقَ بهذا الشكل وتمكن أن يكون عند أداء رسالته فأدى واجبه. مولد الإمام هذا في الكعبة ونهايته في المسجد. وحياته كما تعلمون حياة مليئة بالحركة والخير والسعي والفضل. ونحن مهما قلنا، ومهما تحدثنا عن الإمام، لا يمكننا أن نؤدي بعض التعبير والتفكير عنه.
ماذا نقول في رجل، كما يقول ابن أبي الحديد: أنكر أصدقاؤه فضائله خوفًا، وأعداؤه طمعًا وحسدًا، ومع ذلك- لست متذكرًا العبارة بالتفصيل - ظهر بين ذين وذين ما ملأ الخافقين، كما يقولون؟
والحقيقة أن الإمام في كل حقل من الحقول، له مناقب لا يمكن أن توصف:
في باب علمه كما نعلم، مدينة العلم بابها أمير المؤمنين (ع).
في باب العدالة والاستقامة والحكم بالحق، يقول رسول الله: أقضاكم علي، ويقول: أنا ميزان الأعمال وعلي لسانه.
في باب الحكمة كما نجد في خطبه وفي تعاليمه، ما نجد من الفضل والعلم والينابيع المتينة القوية الوافرة التي تملأ حياة المسلمين خيرًا وبركة.
في باب الشجاعة، ماذا نقول عنه؟
في باب الكرم ، يقول عدوه: لو كان له بيتان أحدهما من تبر - أي الذهب - والآخر من تبن لنفد تبره قبل تبنه.
وهكذا في جميع الحقول يقف الإنسان أمام أمير المؤمنين (ع) ولا يدري ماذا يقول. يقول أحد المعاصرين من الخلفاء: لو أن البحر مداد، والأشجار أقلام، والإنس كُتّاب، والجن حُسّاب، لما أحصوا فضائلك يا أبا الحسن. تعرفون من الذي يروي هذا الحديث في كتاب "علي والخلفاء"؟ الشيخ نجم الدين العسكري حفظه الله وأيده، ينقل هذا الحديث عن أكثر من عشر طرق عن الخليفة الأول أبي بكر، هو الذي يقول هذه الكلمة.
وهكذا يقول بنفس النقل عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حينما يقول: إن العلم قد قُسِّم عشرة أجزاء، وقد اختص علي بتسعة منها وشارك الآخرين في الجزء العاشر؛ حديث أيضًا عن عمر بن الخطاب. وهكذا نجد أنه حينما كان يظهر ويتجلى، يقف أمامه الصديق والعدو باعجاب واحترام. يقول معاوية في رسالة له لمحمد بن أبي بكر، يعبّر عن الإمام: أننا في أيام رسول الله، كنا ننظر إلى علي كالنجم أو كالعيوق، في عبارة أخرى: متى قُوبل بأحد، سلام الله عليه.
وهكذا جميع حياته وجميع سعيه وجميع لحظاته، كانت في سبيل الخير، وفي سبيل الكمال، وفي سبيل التقرب إلى الله ما هو إنتاجه؟ ماذا نقول؟ لحظة من حياته: ضربة علي يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين. لحظة من حياته يعني ضربة واحدة. فهذا الرجل في خلال ثلاثة وستين عامًا ماذا عمل؟ لحظة منها من حياته تعادل عبادة الثقلين... والآخرون... والباقي من أوقاته ماذا؟ وكيف؟ وكم من مقام له عند الله سبحانه وتعالى. جهاده مستمر، وعبادته مستمرة.
سمعتم ما يقول علي بن الحسين (ع)، حينما أكد عليه بعض أصحابه بأنك تكثر من الصلاة والتهجد والخشوع والعبادة عند الله، وأنتم من أهل بيت طهركم الله تطهيرًا؟ يطلب كتاب علي وصحيفة علي، ثم يقرأ ويقول: من مثلك يا أبا الحسن؟ ليله متواصل بنهاره، جهاده وسعيه وشجاعته... يبدو أنه ما كان يوفر لنفسه شيئًا. في نصيحته لابنه محمد بن الحنفية حينما كان يبعثه للقتال في واقعة الجمل، يقول له في بعض نصائحه، هذه النصائح تبين نفسية الإمام وطريقة عمله: عض على نواجذك، ثبِّت قدمك، أنظر إلى ما وراء القوم. ثم يقول: أعرْ الله جمجمتك، أعرْ الله جمجمتك!
هكذا كان يمشي، علي يمشي ويعتبر أن جمجمته أمانة وإعارة لله لا يوفّرها. لا أبالي أوقع الموت عليّ أم وقعت على الموت، وهكذا نجده في واقعة أحد، كما يقول بعض الآثار. يقول الإمام (ع) في واقعة أحد: تفقدت ما حولي فما وجدت رسول الله، فقلت في نفسي: سبحان الله، أين هو؟ هل هرب؟ وهو لا يهرب. هل صعد إلى السماء؟ ما كان ذلك منتظرًا. هل قُتِلَ؟ أمام هذا التساؤل وقفت مضطربًا، فكسرت غمادة سيفي - وهذا معناه الاستماتة - فتفقدت القوم فوجدتهم متجمهرين في مكان. فقلت هنالك الموت - لأنه يريد أن يموت - فهجمت عليهم وفرّقتهم كالجراد المنتشر فوجدت رسول الله مُلقىً على الأرض مغمىً عليه.
بهكذا حرب وجهاد، رجع علي (ع) من واقعة أحد وعلى جسمه ستة وثلاثون جرحًا، يدخل من أحدها الفتيل ويخرج من الآخر. يقول الراوي: زرناه وعدناه مع رسول الله، فدخلنا عليه فوجدناه مفروشًا على النطع كأنه مزقة من اللحم المقطع لا يمكن وضعه على الفراش، وضعوه على الجلد، نطع، يقول: بكى رسول الله من وضع الإمام، وقال له: يا أبا الحسن، ما جزاء من جاهد في سبيل الله وقدَّم مثل ما قدّمت؟ وهم في المجلس نادى رسول الله (ص) بالجهاد. والجهاد هذا إعادة الاعتبار للمسلمين بعد فشلهم في واقعة أحد لأنهم انكسروا، نادى بالجهاد تعبيرًا عن قوة معنويات المسلمين واستعدادهم وتضعيفًا لمعنويات الكفار. حينما نادى بالجهاد، أمير المؤمنين (ع)، قال: وأنا معك يا رسول الله. قال له: يا أبا الحسن، أبمثل هذه الحالة؟ قال: نعم، بأبي أنت وأمي والله لو حملوني على الأكتاف لما تركتك لحظة.
هذا جهاده وسعيه وتفانيه في سبيل الإسلام، وفي سبيل الدفاع عن الإسلام وإخلاصه في العمل. كما سمعتم أكثر من مرة في واقعة الأحزاب، ما أراد أن يقتل عمرو بن عبد ود العامري، إلا مخلصًا لله، لا يشرك في عمله هذا غضبه وانتقامه واستياءه من تصرفات البطل العامري الذي أهان الإمام حينما جلس على صدره.
هذه هي زاوية، أو أضواء، أو لمحة، من وجود الإمام (ع)، وإذا قلنا كل ما قلنا لا ينتهي. ولكن أريد أن أقول شيئًا، الإمام عظيم عزيز، حتى أن الذي نُقِلَ عن رسول الله في واقعة المعراج: أني وجدت قطارًا من الجمال، تحمل على ظهورها كتبًا كثيرة. فسألت: ما هذا؟ قالوا: كتب في فضل علي. سواء إن كان هذا صحيحًا أم لم يكن صحيحًا، ولكن هل أنت تعلم أننا لو جمعنا الكتب التي أُلِّفَتْ في الإمام، من تاريخ حياته إلى يومنا هذا، باللغات المختلفة في العالم، كم كتابًا يبلغ عددها؟ وإذا نريد أن نحمل هذه الكتب على الجمال، ألا تحتاج إلى قطار من الجمال؟ حتمًا ليس شيئًا مستغربًا.
......
انتهى / 278