بقلم: محمد الصفار
ابنا: ارتبط أهل هذه الأرض - مصر - بمحبة أهل البيت (عليهم السلام) ومودتهم منذ أن دخل إليهم الإسلام وارتفعت راية التوحيد على أرضهم وصدحت حناجر التكبير في أرجائها، وشهدت الوقائع التاريخية منذ صدر الإسلام على مدى تغلغل العقيدة الإسلامية ومودة أهل البيت في نفوس المصريين.
ويدلنا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه الذي بعثه إليهم حين ولّى عليهم (مالك الأشتر) على مدى إيمانهم العميق بالله حين خاطبهم قائلاً: (من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا لله حين عُصي في أرضه وذُهب بحقه...) نهج البلاغة (ج3خطبة38).
ووصفها (عليه السلام) أيضاً بأنها: (أعظم أجنادهِ في نفسه) كما في كتابه إلى (محمد بن أبي بكر) حين قلّده إيّاها فجاء فيه قوله: (عليه السلام): (واعلم يا محمد بن أبي بكر إني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر...). (الخطبة27في نفس الجزء من نهج البلاغة).
وبلغت ذروة العلاقة بين أهل مصر وأهل البيت (عليه السلام) في عهد الفاطميين الذين بَنوا (الجامع الأزهر) والذي أصبح في عهدهم أعظم جامعة إسلامية، وعاشت في عهدهم مصر أرقى فتراتها العلمية الزاخرة وحققت الكثير من الإنجازات في الميادين العلمية والفكرية والأدبية.
وقد عُني الفاطميون بالمناسبات الدينية ومنها التي تخصّ أهل البيت وخاصة يوم عاشوراء، وكان لقضية الحسين حضور واسع وأثر كبير عند المصريين، فلم تقتصر هذه القضية على شعرهم، بل أصبحت جزءاً لا يتجزّء من حياتهم.
يقول أبو الفداء (إسماعيل بن كثير) في تاريخه يصف يوم عاشوراء في أيام الفاطميين: (وفي يوم عاشوراء من سنة ست وتسعين وثلاثمائة جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المُنشدين إلى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد).
ويقول المقريزي في خططه: (إن شعار الحزن يوم العاشر من المحرم كان أيام الأخشيديين، واتّسع نطاقه في أيام الفاطميين، فكانت مصر في عهدهم بوقت البيع والشراء تُعطل الأسواق ويجتمع أهل النوح والنشيد يكونون بالأزقة والأسواق، ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وهم نائحون باكون)، ويقول أيضاً في نفس الكتاب: (كانوا – أي الفاطميين – ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر الإبل والغنم والبقر ويكثرون النوح والبكاء ولم يزالوا على ذلك حتى آخر دولتهم).
وبلغ اعتناء الفاطميين بذكرى عاشوراء مبلغاً عظيماً لما تمثله من قيم سماوية جسّدها الإمام الحسين يوم الطف، يقول السيد مير علي في (مختصر تاريخ العرب): (وكان من أفخم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين: الحسينية وهي بناء فسيح الأرجاء تُقام فيه ذكرى مقتل الحسين في موقعة كربلاء، وأمعن الفاطميون في إحياء هذه الشعائر وما إليها من شعائر الشيعة حتى أصبحت جزءاً من حياة الناس).
وقد انعكست كل هذه الأجواء في شعرهم حتى يصوّر الشاعر أبو الحسين أحمد بن علي بن الزبير الغساني المعروف بـ (القاضي الرشيد) مصر بكربلاء في رثائه للظافر بالله لما توحيه هذه الكلمة ـ كربلاء ـ من دلالة عميقة على الحزن فيقول:
(أفكربلاءٌ بالعراق *** وكربلاءُ بمصرَ أخرى)
فتذرف عيون الحاضرين ويتحوّل المجلس إلى عزاء.
فكربلاء كانت حاضرة دائماً في وجدان الشعراء المصريين حتى صارت رمزاً لكل حادث أليم لما توحيه من إحساس بالحزن وشعور بالأسى، وما تتركه في نفس الإنسان المسلم من وألم وحسرة عميقين.
ورغم إن السياسات التي تلت دولة الفاطميين قد حاولت أن تقطع هذه العلاقة الصميمية والحب المتجذّر لأهل البيت (عليهم السلام) من نفوس الشعب المصري، إلّا أن هذا الحب والولاء الخالص كان أكبر من كل الأساليب التي مُورست لمحوه، ونجد آثار هذا الحب نابضاً في الشعر المصري على طول تاريخه الذي عبّر عن انصهار الشعراء المصريين في قضية الإمام الحسين ووقفته الخالدة، فعبّروا عن تفجّعهم لما جرى على آل الرسول في كربلاء.
وعند تتبع الخط التاريخي الطويل للشعر المصري نجد أن هذا الشعر زاخر بقضية الحسين وكربلاء وعاشوراء، وقد احتلت هذه القضية مكانة كبيرة وحيزاً واسعاً في الشعر المصري. وهذا ما وقفنا عليه من هذا الشعر والشعراء:
العوني المصري (ت350هـ)
أقدم ما يمكن الإشارة إليه من الرثاء الحسيني في الشعر المصري هو للشاعر أبي محمد بن طلحة بن عبيد الله بن محمد بن أبي العون الغساني المعروف بـ (العوني المصري) والذي قيل عنه أن: (له في الأئمة المعصومين أكثر من عشرة آلاف بيت)، وقد جمع العلاّمة الباحث الشيخ (محمد السماوي) من شعره ما يربو على ثلاثمائة وخمسين بيتاً ورتّبها في ديوان، ومن مراثيه في الإمام الحسين يقول من قصيدة طويلة:
فشدَّ فيهم أبو علي *** وصافحتْ نفسُه الصِّفاحا
يا غيرة الله لا تغيثي *** منهم صياحا ولا ضباحا
ثم انثنى ظامئاً وحيداً *** كما غدا فيهم وراحا
ولم يزلْ يرتقي إلى أن *** دعاه داعي اللقا فصاحا
دونكمُ مهجتي فإني *** دُعيتُ أن أرتقي الضراحا
فكلكلوا فوقه، فهذا *** يقطعُ رأساً وذا جناحا
يا بأبي أنفساً ظماءً *** ماتتْ ولم تشربْ المُباحا
يا بأبي أجسماً تعرّتْ *** ثم اكتستْ بالدما وِشاحا
وله من قصيدة حسينية:
فيا بضعة من فؤادِ النبيِّ *** بالطفِّ أضحتْ كثيباً مهيلا
ويا كبداً من فؤادِ البتول *** بالطفِّ شلّت فأضحتْ أكيلا
قُتلتَ فأبكيتَ عينَ الرسول *** وأبكيتَ من رحمةٍ جبرئيلا
تميم بن الخليفة المعز الفاطمي: (337ــــ374هـ/948ــــ984م)
وعبقت النفحات الولائية من بيت الخلافة الفاطمية، فهذا شاعر من البيت الفاطمي يصدح برثاء الحسين (عليه السلام) وهو الأمير أبو علي تميم بن الخليفة المعز لدين الله معد بن إسماعيل الفاطمي الذي كتب في الحسين الكثير من القصائد، منها من قصيدة تبلغ (50) بيتا:
ثوت لي أسلافٌ كرامٌ بكربلا *** همُ لثغورِ المسلمينَ سَدادُ
أصابتهمُ من عبدِ شمسٍ عداوةٌ *** وعاجلهمْ بالناكثينَ حصادُ
فكيفَ يلذُّ العيشُ عفواً وقد سطا *** وجارَ على آلِ النبيِّ زيادُ
وقتلِهمُ بغياً عُبَيد وكادهم *** يزيدٌ بأنواعِ الشقاقِ فبادوا
بثاراتِ بدرٍ قاتلوهم ومكةٍ *** وكادوهم والحقُ ليسَ يُكادُ
فحُكّمتِ الأسيافُ فيهم وسلّطتْ *** عليهم رماحٌ للنفاقِ حِدادُ
فكم كربةٍ في كربلاء شديدة *** دهاهم بها للناكثينَ كِيادُ
ويقول في نفس القصيدة:
وكم بأعالي كربلا من حفائرٍ *** بها جثثُ الأبرارِ ليس تُعادُ
بها من بني الزهراء كلَّ سميدعٍ *** جوادٍ إذا أعيا الأنامَ جوادُ
معفّرةٌ في ذلك التربِ منهم *** وجوهٌ بها كان الصباحُ يُفادُ
ابن جبير المصري: (٤٢٠/٤٨٧هـ)
وهذا شاعر وصفه السيد الأمين في أعيان الشيعة (ج١٥ص٢٦٢) بـ (شاعر آل محمد)، وهو شاعرٌ مجيد له الكثير من القصائد في أهل البيت أشهرها الكافية والتي تبلغ أكثر من مائة بيت يقول منها:
يا آلَ أحمدَ كم يُكابدُ فيكمُ *** كبدي خطوباً للقلوبِ نواكي
كبدي بكمْ مقروحةٌ ومدامعي *** مسفوحةٌ وجوى فؤادي ذاكي
وإذا ذكرتُ مصابكم قال الأسى *** لجفونيَ: اجتنبي لذيذَ كراكِ
وعندما يصل إلى رثاء الحسين (عليه السلام) فيها يقول:
وأبكي قتيلاً بالطفوفِ لأجلهِ *** بكتِ السماءُ دماً فحقَّ بُكاكِ
إن تبكهم في اليوم تلقهمُ غداً *** عيني بوجهٍ مسفرٍ ضحّاكِ
يا ربِّ فاجعلْ حبُّهم لي جُنَّة *** من موبقاتِ الظلمِ والإشراكِ
طلائع بن رزيك (الملك الصالح): (495ــــ556هـ/1102ـــ1160م)
كما غمر الولاء الحسيني الوزارة الفاطمية، فهذا الشاعر الوزير الملقّب بـ (الملك الصالح، وفارس المسلمين) طلايع بن رزّيك يسخّر شعره وشاعريته في سبيل قضية أهل البيت ونهضة الحسين المباركة يقول في إحدى مراثيه الحسينية وتبلغ (32) بيتاً:
شاعَ النفاقُ بكربلا *** فيهم وقالوا: نحنُ شيعه
هيهات ساءَ صنيعهم *** فيها وما عرفوا الصنيعه
يا فعلة جاؤوا بها *** في الغدرِ فاضحة شنيعه
خابَ الذي أضحى الحسين *** لطولِ شقوتهِ صريعه
أفذاكَ يرجو أن يكون *** محمدٌ أبداً شفيعه
عجباً لمغرورين ضيّعَ *** قومُهم بهم الوديعه
ويقول من قصيدة حسينية أخرى تبلغ (59) بيتاً:
كفى الذي دخلَ الإسلام إذ فتكتْ *** أيمانكم ببني الزهراءِ من خللِ
منعتمُ من لذيذِ الماءِ شاربَهم *** ظلماً وكم فيكمُ من شاربٍ ثملِ
أبكيهم بدموعٍ لو بها شربوا *** في كربلاء كفتهم سورة الغللِ
ويقول أيضاً من حسينية أخرى تبلغ (42) بيتاً:
وبي لوعةٌ لا يستقرُّ نزاعُها *** لها كلما جنّ الظلامُ جنونُ
إذا عنَّ لي تذكارُ سكانِ كربلا *** فما لفؤادي في الضلوعِ سكونُ
فإن أنا لم أحزنْ على إثرِ ذاهبٍ *** فإنِّي على آلِ الرسولِ حزينُ
ومن نفس القصيدة:
ألا كل رزءٍ بعد يومٍ بكربلا *** وبعد مصابِ ابن النبيِّ يهونُ
ثوى حوله من آلهِ خيرُ عصبةٍ *** يُطالبُ فيهم للطغاةِ ديونُ
يُذادونَ عن ماءِ الفراتِ وغيرهم *** يبيتُ بصرفِ الخمرِ وهو بطينُ
ومن قصيدة رثائية أخرى تبلغ (60) بيتاً:
في كربلاء ثوى ابن بنـــــــتِ رسولِ ربِّ العالمينا
قفْ بالضريحِ ونادهِ *** يا غاية المتوسِّلينا
يا عروة الدينِ المتينِ *** وبحر علمِ العارفينا
القاضي الجليس ت (561هـ)
وهذا شاعر وصفه المؤرخون بأنه: (من مقدمي شعراء مصر وكتّابهم وأوحد عصره في مصره نظماً ونثراً وترسّلاً وشعراً)، وهو القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحباب الأغلبي السعدي التميمي، وقد زخر شعره بحب أهل البيت ومدحهم ورثائهم المبكي لا سيما في واقعة كربلاء فيقول في إحدى مراثيه:
لهفي لقتلى الطفِّ إذ *** خذلَ المصاحبُ والعشيرُ
وافاهمُ في كربلا *** يومٌ عبوسٌ قمطريرُ
دلفتْ لهم عصبُ الــــــضلالِ كأنَّما دُعيَ النفيرُ
عجباً لهم لم يلقهم *** من دونهم قدرٌ مُبيرُ
إيمورُ فوقَ الأرض فيضُ دمِ الحسينِ ولا تمورُ؟
أترى الجبال درتْ ولم تقذفهمُ منها صخورُ؟
أم كيفَ إذ منعوه وِردَ الماءِ لم تغُرِ البحورُ؟
ويقول من طفِّية أخرى:
غصبتمْ وليَّ الحقِّ مهجةَ نفسهِ *** وكان لكمْ غصبُ الإمامة مُقنعا
وألجمتمُ آلَ النبيِّ سيوفكم *** تفرِّي من الساداتِ سُوقاً وأذرُعا
وحللتمُ في كربلاءَ دماءهم *** فأضحتْ بهم هيمُ الأسنةِ شرَّعا
القاضي الرشيد (ت562هـ)
وهذا شاعر آخر هو القاضي الرشيد أبو الحسين أحمد بن علي بن الزبير الغساني الأسواني المصري الملقب بـ (القاضي الرشيد) ولقب أيضاً بـ (قاضي قضاة اليمن وداعي دعاة الزمن) يرمز إلى كربلاء برمز الحزن المتجدِّد، فهي حاضرة في وجدان المسلم في كل زمان ومكان فيقول:
أفكربلاءٌ بالعراق *** وكربلاءُ بمصرَ أخرى
وله من قصيدة في مدح أهل البيت:
خذوا بيدي يا آلَ بيتِ محمدٍ *** إذا زلّت الأقدامُ في غدوةِ الغدِ
أبى القلبُ إلّا حبّكم وولائكم *** وما ذاكَ إلّا من طهارةِ مولدي
ابن سناء الملك (ت608هـ)
وهذا شاعر مشهور آخر هو القاضي السعيد هبة الله بن جعفر بن المعتمد سناء الملك محمد السعدي المعروف بـ (ابن سناء الملك) يقول في إحدى مراثيه في الإمام الحسين:
قُتل الحسينُ بكلِ حزبٍ لبُغاةٍ وكلِ طعنِ
شنّوا عليه وماسقوه قطرةً من ماءِ شنِّ
أنتَ الوليُّ له تصرح بالولاءِ ولستَ تكني
ولأنت أولى من يباكرُ قاتليه بكل لعنِ
الجزّار المصري (ت672هـ)
ورزء الحسين رزء ثقيل على الشاعر جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم المعروف بـ (الجزّار المصري) حيث يقول في إحدى مراثيه الحسينية:
ويعود عاشورا يذكّرني *** رزءَ الحسينِ فليتَ لم يعدِ
يا ليتَ عيناً فيه قد كحلت *** بمسرةٍ لم تخلُ من رمدِ
ويداً به لشماتةٍ خضبت *** مقطوعة من زندِها بيدي
البوصيري (ت694هـ)
ولم تخلُ همزية البوصيري أبو عبد الله محمد بن سعيد الصنهاجي البوصيري من ذكر الحسين وكربلاء والمصاب الأليم الذي حلّ بآل الرسول فيخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في (بردته) المشهورة بقوله:
من شهيدينِ ليس ينسيني الطفُّ مصابيهما ولا كربلاءُ
مارعى فيهما ذمامَك مرؤوسٌ وقد خانَ عهدكَ الرؤساءُ
فأبكهمْ ما استطعتَ إن قليلاً *** في عظيمٍ من المصابِ البكاءُ
كل يومٍ وكل أرضٍ لكربي *** فيهم كربلاء وعاشوراءُ
ابن الجمال المصري (ت1072هـ)
وهذا الشاعر علي بن أبي بكر بن علي نور الدين بن الجمال المصري يذكر يوم عاشوراء بالنوح والحزن والبكاء فيقول:
وذكرني بالنوحِ والحزنِ والبُكا *** غريبٌ بأكنافِ الطفوفِ فريدُ
عطاشى على شاطي الفراتِ فمالهم *** سبيلٌ إلى قربِ المياهِ ورودُ
لقد صبروا لا ضيّع الله صبرَهم *** إلى أن فنوا من حولهِ وأبيدوا
الشبراوي (ت1171هـ)
ويفرد الشيخ عبد الله بن محمد الشبراوي المصري (شيخ الأزهر) في كتابه (الإتحاف بحب الأشراف) فصلاً خاصاً في مشهد رأس الحسين بمصر ويذكر الكرامات التي جرت له فينظمها قصائد في مدح الإمام الحسين:
لكَ في الحشرِ ياحسينُ مقامٌ *** ولأعداكَ فيه خزيٌ وطردُ
يا كريم الدارين يا من له الدهرُ على الرغمِ من يعاندُ عبدُ
أنتَ سيفٌ على عداكَ ولكن *** فيكَ حلمٌ وما لفضلك حدُ
ويقول في قصيدة أخرى:
يا سبطَ طه يا حسين على *** ضريحكَ المأنوسِ مني السلامُ
مشهدكَ السامي غدا كعبة *** لنا طوافٌ حوله واستلامُ
بيتٌ جديدٌ حلّ فيه الهدى *** فصارَ كالبيتِ العتيقِ الحرامُ
أحمد شوقي (ت١٣٥١هـ)
واحتلت قضية الحسين وكربلاء مكانة مقدسة في شعر شوقي ونثره يقول في مسرحيته مجنون ليلى: (كان الحسين بن علي كعبة القلوب والأبصار في جزيرة العرب بعد أن قتل أبوه علي ومات أخوه الحسن. وكذلك ظلّ الحسين قائماً في نفوس الناس هناك صورة مقدسة للإسلام تستمد أنضر ألوانها من صلته القريبة بجده رسول الله وبنوّته لرجل كان أشدّ الناس زهداً واستصغاراً لدنياه، وكذلك ظهرت بلاد العرب وقلبها يخفق بإسم الحسين).
ويقول في نفس المسرحية:
وحادٍ يسوقُ ركابَ الحسين *** يهزّ الجبالَ إذا ما ارتجلْ
فقمْ قيسُ واضرع مع الضارعين *** وأنزل بجنبِ الحسينِ الأملْ
ويقول من قصيدة يعرّض فيها بالسياسات التي نهجت نهج بني أمية في حربهم الحسين وذكر الحسين:
وأنتَ إذا ما ذكرتَ الحسين *** تصاممتُ لا جاهلاً موضعَه
أحبّ الحسين ولكنني *** لساني عليه وقلبي معَه
حبستُ لسانيَ عن مدحهِ *** حذارَ أميَّة أن تقطعَه
ويقول من منظومته (دول العرب وعظماء الإسلام):
هذا الحسينُ دمُه بكربلا *** روّى الثرى لما جرى على ظما
واستشهد الأقمارُ أهلُ بيته *** يهوون في التربِ فُرادى وثُنا
ابن زياد ويزيدُ بغيا *** واللهُ والأيامُ حربُ مَن بغى
لولا يزيد بادئاً ما شربتْ *** مروانُ بالكأسِ التي بها سقى
ويقول من قصيدة:
يُزجون نعشكَ في السناءِ وفي السنا *** فكأنما في نعشكَ القمرانِ
وكأنه نعشُ الحسينِ بكربلا *** يختال بين بكىً وبين حنانِ
فالحسين عند شوقي رمز للثورة وقدوة للثوار الأحرار، يقول في قصيدته: (الحرية الحمراء):
في مهرجانِ الحقّ أو يومِ الدمِ *** مهجٌ من الشهداءِ لم تتكلّمِ
يبدو عليها نورُ نورِ دمائها *** كدمِ الحسينِ على هلالِ محرمِ
يومُ الجهادِ بها كصدرِ نهارِه *** متمايلُ الأعطافِ مبتسمُ الفمِ
مع الشعر المصري المعاصر
ومثلما ألهبت قضية الحسين وكربلاء وجدان الشعراء المصريين الأقدمين فقد تغلغلت إلى نفوس الشعراء المعاصرين فاستلهموا منها القيم العليا واقتبسوا منها سمو المعنى، فكان للشعر المصري الحديث دور في إذكاء واقعة الطف في الضمير الإنساني، فهي (مآتم لا تنتهي) كما يقول الشاعر (مرسي شاكر طنطاوي):
في كربلاءَ مآتمٌ لا تنتهي *** حتى يداهمنا الحِمامُ صؤولاً
ويقول العلامة الشيخ عبد الله العلايلي في مقصورته:
فيا كربلا كهفُ الإباءِ مجسَّما *** ويا كربلا كهفُ البطولةِ والعلا
ويا كربلا قد حزتِ نفساً نبيلة *** وصُيّرتِ بعد اليوم رمزاً إلى السما
ويا كربلا قد صرتِ قبلة كل ذي *** نفسٍ تصاغرَ دون مبدئها الدنا
ويا كربلا قد حزتِ مجداً مؤثلاً *** وحزتِ فخاراً ينقضي دونه المدى
كما صاغ عبد الرحمن الشرقاوي مسرحيتيه (الحسين ثائراً) و (الحسين شهيداً) بلغة شعرية مفعمة بالروح الإنسانية عكست الروح الكبيرة التي جسدها الإمام الحسين والمبادىء العليا التي سعى من أجلها في نهضته المباركة فيقول:
(أنا ذا أخوضُ المستحيلَ إلى جلاءِ حقيقتك...،
فأضئ طريقي من أشعةِ حكمتك...
أنا ذا شهيدُ الحقِ ضعتُ لكي أصون من الضياع شريعتك..،
لا تُخفِ عن وجهي وضاءة نظرتك).
ويلجأ جمال الغيطاني إلى مسجد الحسين بالقاهرة لكي يستلهم المعاني العظيمة التي جسّدها الإمام الحسين فيقول:
(ولّيتُ قبلة إمامي الحسين
وفاضَ أسايَ فخاطبته بوجهتي وليس بنطقي:
يا نبعَ الصفاءِ، يا شرق المودة...
تعذِّبني قلة حيلتي وصعوبة الطريق
يا إمامي لم يعد حالي جئتك ملوعاً بالفقد
يقولُ صاحبُ الثغرِ العذبِ المنكوثِ بعصا الظالمين:
(كل شيء بقدر).
ويستفظع الشاعر أمل دنقل ما جرى على سيد الشهداء فيها ويستحضر قتله وهو ظمآن فيقول في قصيدته (من أوراق أبي نؤاس) في الورقة السابعة:
(كنتُ في كربلاء....
قال لي الشيخُ: إنّ الحسين
ماتَ من أجلِ جرعةِ ماءٍ
وتساءلتُ: كيف السيوفُ استباحت بني الأكرمين؟
فأجابَ الذي بصّرته السماء
إنه الذهب المتلألئ في كل عين
... ماتَ من أجلِ جرعةِ ماء)
ويقول عبد المعطي حجازي في قصيدته (عودة فبراير):
(كأنَّني سمعتُ صوتاً كالبكاء
هذا الحسينُ وحده في كربلاء....
مازالَ وحده يقاتل
مُعفَّرُ الوجهِ يريدُ كوبَ ماء
والأمويونَ عـلى النهرِ القريب
كأنَّني أرى دمشقَ بعد ليلةِ الغياب
بيوتُها مظلمة وسجنها العالي فضاءُ الليلِ ليس الليل،
والعقمُ في كأسِ الشراب
والكلماتُ مثقلاتٌ بالذنوب)
ويجد الشاعر فاروق جويدة في رحاب الحسين الموئل والملاذ من مصائب الزمان فيقول في قصيدته (في رحاب الحسين):
(هيا لنشكو... للحسين
أنا في رحابكَ كلما ضاق الزمان
أو ضاعَ مني الصبرُ أو تاهَ الأمان
جئنا إليك لنشتكي
فوق الطريقِ ينامُ عشاقُ المدينة
ينبتُ الأبناءُ كالأعشابِ في بئرِ السنين
فوق الطريقِ ننامُ بالأشواقِ بالعمرِ الحزين
وعلى دموعِ الدربِ نفترشُ الأسى
ما أطولَ الأحزانِ في عمرِ الحيارى الضائعين)
فالحسين هو الشهيد الحي الذي يرعب اسمه الطغاة، وهو معنى الإصلاح في الأمة، يلهمها معنى الحق والعدالة، ويضيء طريقها نحو الحرية:
(جئنا رحابكَ يا حسين
جئنا إليك لنشتكي أرضاً
رحيق العمر فيها للغريب
تعطي الدموعَ لأهلِها
والفرح فيها... للغريب
وتعلم الأحباب من ثدي الأسى طعمَ الجحود
أن يخنقَ الإنسانُ صوتَ حنينه
أن يقتلَ النجوى وتحترقُ العهود
أن تُصعقَ الأحلامُ آلافَ السدود
ونعيشَ نبكي الحظ... نشكو دائماً ظلم الوجود)
ويقول الشاعر أحمد بخيت في قصيدته (الحسين):
إيٍهٍ أبا الشهداءِ وابن شهيدِهم *** وأخا الشهيدِ كأنَّ يومَك أعْصُرُ
جسدٌ من الذِّكْرِ الحكيمِ أديمُهُ *** درعٌ على الدينِ القويمِ ومِغْفَرُ
عارٍ وتكسوه الدماءُ مهابةً *** لا غمدَ يحوي السيفَ ساعةَ يُشْهَرُ
الأنبياءُ المرسلونَ إزاءَهُ *** ـ والروحُ والملأُ الملائِكُ ـ حُضَّرُ
ومحمدٌ يُرخِي عليهِ رداءَهُ *** ويقول: يا وَلَدَاه فُزتَ وأُخْسِروا
يا أظمأ الأنهارِ قَبلكَ لمْ تكُنْ *** تَروي ظَما الدنيا وتظمأُ أنْهُرُ
لولا قضاءُ الله أن تظما له *** لسعى إليكَ من الجنانِ الكوثرُ
يا عاريَ الأنوارِ مسلوبَ الرِّدا *** بالنورِ لا بالثَوبِ طُهْرُكَ يُسْتَرُ
يا داميَ الأوصالِ لا قَبْرٌ لهُ *** أفْدِيكَ إِنِّ الشَّمْسَ ليستْ تُقْبَرُ
طُلاّبُ موتك يا ابْنَ بِنْتِ محمدٍ *** خَرَجوا من الصحراءِ ثم تصحّروا
وكأنَّ خيل الله لم تركضْ بهم *** والسامرينَ بمكةٍ لم يُسمروا
وكأنَّ برقاً ما أضاءَ ظلامَهم *** فمشَوا تجاهَ النورِ ثم استدبروا
وكأنّما ارتدوا على أعقابهم *** فأبوكَ أنتَ وهمْ جميعاً خيبرُ
أوَلم يشمُّوا فيكَ عطرَ المصطفى *** كذبوا فعطرُ المصطفى لا يُنكَرُ
هذا ما استطعنا تسليط الضوء عليه من شعر الشعراء المصريين الذين كتبوا في الحسين، ومن المؤكد أن هناك أسماء أخرى كثيرة فملحمة الحسين وكربلاء وعاشوراء فضاء لا ينتهي ومنبع لا ينضب كلّما نهلت منه الأجيال ازداد تدفّقاً.
.....
انتهى / 278
المصدر : العتبة الحسينية المقدسة
السبت
٢٨ يناير ٢٠١٧
٥:٠٣:١٥ م
807837
أقدم ما يمكن الإشارة إليه من الرثاء الحسيني في الشعر المصري هو للشاعر أبي محمد بن طلحة المعروف بالعوني المصري (ت350هـ) والذي قيل عنه أن:له في الأئمة المعصومين أكثر من عشرة آلاف بيت.