الكاتب المصري: عمرو جاد
ابنا: الدوحة بدأت ملف كأس العالم برشوة الفيفا وأنهته بإهدار دماء وحقوق مئات العمال الآسيويين، لم يتأكد بعد شكل الصفقة السياسية التى ستبرمها أطراف الصراع في سوريا، وهي الصفقة، التي يليها على الفور الحديث عن تحديد مسؤولية إعادة الإعمار، خاصة أن الحلف الخليجي الذي تقودانه قطر والسعودية، الذي بدأت كفة الاتهام بالتسبب في الوضع الحالي تميل ناحيته، لم يعترف بعد بالهزيمة في حلب، ورغم المشهد «المهين» لأفواج المقاتلين وهم يهربون وسط المدنيين في باصات الإجلاء ليبدو وكأن الكل مدنيون، إلا أن مراقبين يعتبرون هذا الخروج الذي صورته الكاميرات، بمثابة أول إعلان واقعي عن ذهاب أموال دافعي الضرائب في قطر أدراج الرياح بعدما أنفقها مسلحون خرجوا مستسلمين بهذا المشهد البائس.
هذا المشهد كان حلقة في مسلسل التفكك السوري، جاء أيضًا كضربة سوط أخرى تلقتها الدبلوماسية القطرية، التي حاولت قدر الإمكان التنصل - ولو خارجيا على الأقل - من دعم المسلحين الارهابيين في سوريا، خوفًا من اتهامات لاحقة بدعم تكفيريين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية حسب الوصف الروسي، الذي يرتكز إلى هذه النقطة لإضعاف موقف الحلف الخليجي داخل أروقة الأمم المتحدة، وتسبب في مأزق للجانب القطري الذي لم يضع في حسبانه هذه الضربات المتلاحقة، التي تظهر الدور الحقيقي للدوحة في تدمير سوريا، مما قد يضع أمام قطر مسؤوليتها في التعويض عن هذا الدمار بتولي الجانب الأعظم من إعادة الإعمار، على الأفل لتغسل الأموال القذرة، التي مولت بها المتطرفين.
بدأ مسلسل الكشف عن «الأموال القطرية القذرة» من خلال التغطيات المكثفة لوسائل الإعلام القطرية أو تلك المدعومة من الدوحة، للوضع في سوريا تحت شعار «الثورة» وتبنيها لوجهة نظر واحدة مصدرها مؤسسات إغاثية ومتحدثون باسم الحركات المسلحة، وتسببب هذه التغطية الأحادية في إظهار هذه الحركات وكأنها على مشارف النصر كل يوم، وفي حالة أن جاءت الأخبار سيئة نوعا ما لجأت وسائل الإعلام هذه للدفع في اتجاه أزمة المحاصرين وكان الهدف الأكبر من هذه التغطية المنحازة أن يظل القطريون في تعاطفهم مع قرار نظام تميم بن حمد بدعم المسلحين رغم المخاوف الأخلاقية المستقبلية، ورغم التجارب السابقة، حيث نشأ أخطر تنظيم تكفيري وهو «القاعدة» في ظروف مشابهة، لكن في الدوحة كان ضروريا خداع الناس حتى لا تأتيهم تلك المخاوف، ولكى يواصلوا التنازل عن أموالهم لصالح شعار «مستقبل أفضل لسوريا»، بينما الذي حدث ولم يتوقعوه أنهم تبرعوا ومنحوا الشرعية لتمويلات بلادهم المتدفقة إلى حلب، ليتفرق المتطرفون فى أنحاء سوريا ويعيش نظام الأسد بشرعية جديدة فرضتها المواقف على الأرض خلافا للوهم، الذى كانت تسوقه لهم الجزيرة وأخواتها.
ومع سعى نظام تميم للملمة خسائره في سوريا، وخيبة أمله فى محاولات إشاعة الفوضى في مصر عبر حملة تحريض ممنهجة من ذيول هاربة في الدوحة وأنقرة، كان المأزق هذه المرة من الداخل، حيث مفاجئا في وقت غير مناسب، حين بدأ القطريون يكتشفون زيف الانتصارات في حلب بعد استعادتها من النظام السوري، ومن بعدها إعلان قطر عن موازنتها العامة بعجز يصل إلى 28 مليار دولار، وهو رقم لم يعهده القطريون، وبالتالي بدأت تساؤلاتهم عن جدوى الإنفاق على معارك خاسرة يصورها الإعلام على أنها انتصارات، ثم تضاعف الحرج بعد إعلان مواطنين فرنسيين رفضهم تبرع الأمير الوالد حمد بن خليفة لقريتهم بمليون دولار لصناعة طعام مدرسة من مواد عضوية، لمجرد أنه يمتلك منزلا بهذه القرية، مما دفع القطريين للتساؤل حول معايير الإنفاق عند الأسرة الحاكمة في ظل دعوات للتقشف وتقليل الهدر تزامنًا مع التقلبات الاقتصادية العالمية وتراجع أسعار النفط.
بعد كشف الخديعة الإعلامية الكبرى توالت الضربات الفاضحة للدور القطري في استغلال ما يطلق عليه «الربيع العربي»، حيث تواترت لقطات فيديو مسربة من داخل سوريا لمسلحين يشكرون قطر على دعمها لهم بالمال والسلاح، وآخرين يتبادلون الاتهامات حول التقسيم الجائر للتمويلات، ثم يأتى التأكيد على تدفق هذه التمويلات، في شهادة خوان زاراتى، المستشار السابق في إدارة الرئيس جورج بوش الابن، حيث أكد في مقابلة تليفزيونية أن قطر في صدارة الدول، التي تمنح تمويلات للتكفيريين والإرهابيين، حتى أنه ذهب لربطها بتنظيم القاعدة التكفيرية والجماعات المتحدرة منها.
أما الرأي الذي شكل هزة كبيرة لادعاء قطر حول دعمها للحريات، ما كشفته أوساط أوروبية حول تمحور الصراع في سوريا حول مد أنابيب خط الغاز القطرى عبر سوريا وتركيا، مقابل مشروع آخر كان يستهدف نقل الغاز الإيراني عبر نفس المسار، لكن تحالف المال الوفير مع الضحالة السياسية الأكثر وفرة بين قطر وحلفائها، جعلا من 400 ألف قتيل سوري بلا ذنب وقودا للمنافسة على مصالح اقتصادية، استغلت الدوحة من خلالها الشعور العربي بضرورة التغيير ونجاحه في مصر وتونس، كما حاولت تجميل ما يجري في سوريا وليبيا واليمن بوصفه جهادًا مقدسًا من أجل الحرية والديمقراطية، في حين أن المدنيين الذين تدهسهم الحرب في تلك البؤر المشتعلة لا قيمة لهم إلا في عناوين الأخبار.
وفي مقابلته التليفزيونية مع كريستين أمانبور، مذيعة قناة CNN الأمريكية، لم يكن تميم بن حمد، أمير قطر، يدرك أنه سيتورط في أخطر موقف محرج حين قال إنه يفرق بين التكفيريين وغيرهم وأن أموالهم المتدفقة لسوريا لا تذهب للإرهابيين، حيث نشرت القناة في ذات المقابلة فيدوهات للمتطرفين يعترفون بـ«فضل» قطر عليهم، ويشكرونها على دعمهم لكى يتمكنوا من حمل السلاح، ومما ضاعف من حرج هذا الموقف تقرير آخر ظهر قبل أيام لصحيفة الإندبندنت البريطانية، قالت فيه إن معلومات استخباراتية ألمانية مُسربة كشف دعم قطر ودول خليجية للجماعات التكفيرية في ألمانيا.
وجاء السجال حول «ارتكاب جرائم حرب وممارسات ضد الإنسانية» في توقيت مناسب لتستغله موسكو في إعلانها صراحة أنها لن تدفع وحدها فاتورة نزيف «سوريا»، وعليه نقلت روسيا اللعبة لمربع آخر وسارعت بالقول على لسان مندوبها في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين إن إعادة الإعمار في سوريا تتطلب تسويات سياسية تبقى على النظام وتطرح تنازلات ترضى المعارضة «غير المسلحة»، وتتطلب أيضا 180 مليار دولار لا يستطيع بلد أو اثنان تحملها، وبالتالي فهو يحتاج لحملة «دولية» في تلميح لمسؤولية الدول التي كانت - من وجهة نظر روسيا - سببا في أزمة سوريا بتسليحهم لفصائل متطرفة تحت غطاء المعارضة والحراك الثوري.
وبدأت الرقعة تتسع على الدوحة لم تعد تستطع ملاحقتها رتقا بالماكينات الإعلامية، أو حتى التباهي بمعرفة الفرق بين التكفيريين والسلميين في سوريا، فقد جاء بيان الاتحاد الأوروبي عن سعيد للمشاركة في جهود إعادة الإعمار بتحذير من عدم القدرة على التوصل إلى سلام مستقر بسوريا، لأن البلاد ستواجه حرب العصابات لسنوات طويلة، في حال رفضها تخفيف مركزية السلطة وإعطاء مجال لأنشطة المعارضة داخل البلاد»، وقال مسؤول أوروبي لوكالة «رويترز» تعليقا على نص البيان: «في الظروف الطبيعية يجب على الاتحاد الأوروبى أن يلعب دورا محوريا في إعادة الإعمار.. لكن إذا أنشأوا كيانا مشوها هناك، فنحن لن ندفع تكاليفه»، هنا ينتهى كلام المسؤول الأوروبي، لكنه يبدأ مرحلة أخرى من تغيير لغة الحديث عن المعارضة داخل سوريا، حيث جاء التحذير من «حرب عصابات» أقرب إلى تهديد وتوصيف حقيقي لما آل إليه حال المعارضة خارج دمشق.
وتسببت اللغة الأوروبية المتراجعة تزامنًا مع الاقتراح الروسي في ارتباك واضح للجانب القطري، الذي حاول التملص من مسؤوليته عن دمار سوريا، والمبادرة بنفي تهم ارتكاب ممارسات ضد الإنسانية بدعمه لمسلحين دون التدقيق في ولاءاتهم، سارعت الدوحة مدعومة بدولة «ليختن شتاين» وعدد من الدول العربية والغربية مشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاسبة مجرمي الحرب في سوريا، وحسبما نقلت وسائل إعلام مقربة من الديوان القطري فإن مشروع القرار طالب بما أسماه «آليات واضحة ومحايدة لمحاسبة المتورطين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، ودعوة النظام السوري للتعاون مع آلية التحقق». ويعتبر محللون أن المبادرة القطرية تأتى خوفا من «تدقيق» وإعادة فتح ملفات سابقة لقطر، فيما اعتبروه دعما ماليا لعدد من الاضطرابات، التى شهدتها المنطقة العربية، وقد استغلت قطر هذه الاضطرابات لتحقيق مكاسب مادية أكثر مما أنفقته على إثارة القلق، وتتضفي الدوحة شرعية على هذه الأموال، فإنها تستغل غطاء العمل الخيري وجهود الإغاثة، حيث تشير تقديرات إلى إنفاقها أكثر من 2 مليار دولار خلال عام على هيئة تمويلات ومنح ذهب لمنظمات إغاثية وخيرية في الصومال وسوريا وليبيا.
وجاءت حالة ليبيا لتمثل تفسيرًا قاطعا يرد على المتشككين في موقف قطر من الاضطرابات العربية، حين ظهرت ليبيا على خريطة الاستهداف الربحي النفطى لقطر حين اشترت 3% من أسهم شركة توتال الفرنسية، والتى تستحوذ بدورها على 35% من النفط الليبي بعد سقوط القذافي، والذي تلاه اضطرابات حادة وفوضى عارمة بسبب النزاع بين الشرعية شرقًا وفصائل متطرفة مسلحة غربًا وجنوبًا، وسط أنباء تتردد عن دعم قطر لفصيل الإخوان المسلح هناك، لكن الدوحة لم تتحل بالصبر فسارعت لكي تتورط في رفضها رسميا لأي مقترحات بشأن نزع السلاح من أيدي المتطرفين في ليبيا.
ويكتشف المراقب للتدخلات القطرية في ليبيا أنها حلقة ضمن سلسلة من الجهود الرعناء للدوحة لإفساد المحيط المصري، وما يستدعيه من إشعال ما يمكن إشعاله من توترات تدعم السعي القطري لتنفيذ أجندة غامضة أول أهدافها التقليل من دور القاهرة المحوري في المنطقة، فجزء كبير من تمويلاتها تذهب لبث الشائعات وتضخيم المشاكل ونشر الإحباط في الداخل المصري عبر وسائطها الإعلامية، ومحاولات مستميتة لتفعيل الحصار الاقتصادي، وتشويه صورة مصر في الخارج، وهو ما قابلته الجبهة المصرية الداخلية بوعي وازدادت تماسكا، خاصة بعدما رأي الناس بأعينهم المصير السوري، الذي كانت قطر جزءا فاعلا فيه، ثم تتملص الآن من الاعتراف بالخطأ لكي لا تتحمل جزءا من تكلفة التعويض في المستقبل القريب.
وفي المستقبل القريب أيضًا لن تستطيع قطر أن تتخلص من إرثها الداخلي البغيض فى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وخروقات لحقوق العمال فى ملف إنشاءات كأس العالم 2022 - المشكوك فى نزاهة اختيارها لاستضافته - ومآسى العمال الذين وصفتهم تقارير إخبارية بأنهم عادوا لبلدانهم «جثث فى توابيت خشبية عائدة من صحراء الموت» كضحايا للعمل فى ظروف سيئة وأجور متدنية واستغلال للكفيل والوسطاء، ولما أرادت قطر أن تعالج المسألة اكتفت بتغيير قانون الكفالة وناقشت مع نيبال التعاون المشترك في حقوق الإنسان، دون التطرق لمعالجة مسألة الانتهاكات العمالية أو حتى الاعتراف بالخطأ في حق العمال الآسيويين لديها.. وبهذا المنهج سيظل النظام الحاكم في الدوحة يغطي على كل خطأ بخطيئة أكبر طالما لا يمتلك أصواتًا عاقلة بداخله تخبره متى يمكنه التوقف عن استخدام المال لتدمير الشعوب.
...................
انتهى / 232
المصدر : اليوم السابع
الثلاثاء
٢٧ ديسمبر ٢٠١٦
١١:١٦:٢٢ ص
801073
هكذا حولت قطر "الربيع العربي" إلى إعصار من الجرائم ضد الإنسانية.. الدوحة تعترف بدعم التكفيريين في سوريا وترفض تحمل مسؤوليتها عن الدمار.. "تميم" يرفض نزع سلاح التكفيريين في ليبيا طمعا في استمرار الفوضى