ابنا: يوافق آخر شهر ذي القعدة استشهاد الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام، فبهذه الذكرى الأليمة هناك محطات على بعض ما ورد بهذا الشأن، نقدمه إليكم:
استقدام الإمام (عليه السلام) الى بغداد:
لقد خشي المعتصم من بقاء الإمام الجواد (عليه السلام) بعيداً عنه في المدينة، لذلك قرر استدعاءه الى بغداد، حتى يكون على مقربة منه يحصي عليه انفاسه ويراقب حركاته، ولذلك جلبه من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومائتين، وتوفي بها(عليه السلام) في ذي القعدة من هذه السنة[1].
لقد كان هذا الاستقدام بمثابة الاقامة الجبرية تتبعه عملية اكبر وهي التصفية الجسدية.
اغتيال الإمام الجواد (عليه السلام):
كان وجود الإمام الجواد (عليه السلام) يمثل خطراً على النظام الحاكم لما كان يملكه هذا الإمام من دور فاعل وقيادي للاُمة، لذلك قررت السلطة أن تتخلّص منه مع عدم استبعادها وجود العلاقة بين الإمام القائد والتحركات النهضوية في الاُمة.
فقد روى المؤرخون عن زرقان صاحب ابن أبي دؤاد قاضي المعتصم قوله: «رجع ابن أبي دؤاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال وددت اليوم اني قد مت منذ عشرين سنة، قال قلت له: ولم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الاسود أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له: وكيف كان ذلك؟ قال: إن سارقاً اقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي فسألناه عن القطع في اي موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت: من الكرسوع.
قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قلت: لأن اليد هي الاصابع والكفّ الى الكرسوع[2]، لقول الله في التيمم ( فامسحوا بوجوهكم وايديكم )[3] واتفق معي ذلك قوم.
وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأن الله لمّا قال: ( وايديكم الى المرافق ) في الغسل دلّ ذلك على ان حدّ اليد هو المرفق.
قال: فالتفت الى محمد بن علي (عليه السلام) فقال: ما تقول في هذا ياأبا جعفر؟ فقال: قد تكلم القوم فيه ياأمير المؤمنين، قال: دعني ممّا تكلموا به ! اي شيء عندك؟ قال: اعفني عن هذا ياأمير المؤمنين، قال: اقسمت عليك بالله لمّا اخبرت بما عندك فيه.
فقال: أمّا اذا أقسمت عليّ بالله اني اقول انهم اخطأوا فيه السنّة، فإن القطع يجب ان يكون من مفصل اُصول الاصابع، فيترك الكفّ، قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله: السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى: ( وان المساجد لله )[4] يعني بهذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) وما كان لله لم يقطع.
قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.
قال ابن أبي دؤاد: قامت قيامتي وتمنّيت أني لم أك حيّاً.
قال زرقان: قال ابن أبي دؤاد: صرت الى المعتصم بعد ثالثة، فقلت: ان نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة وانا أكلّمه بما أعلم أني ادخل به النار، قال: وما هو؟ قلت: اذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من اُمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل شطر هذه الأمة بامامته، ويدّعون أ نّه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟
قال: فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً. قال: فأمر اليوم الرابع فلاناً من وزرائه بأن يدعوه [ اي الجواد(عليه السلام)] الى منزله فدعاه فأبى ان يجيبه وقال(عليه السلام): قد علمت اني لا أحضر مجالسكم، فقال: إني انما ادعوك الى الطعام واحبّ ان تطأ ثيابي، وتدخل منزلي فأتبرّك بذلك، فقد احبّ فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك، فصار اليه، فلمّا طعم منها أحس السمّ فدعا بدابّته فسأله رب المنزل ان يقيم. قال(عليه السلام): خروجي من دارك خير لك، فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفة حتى قبض (عليه السلام) »[5].
لقد كان الإمام الجواد (عليه السلام) يتوقع استشهاده بعد هذا الاستدعاء فقد روي عن اسماعيل بن مهران قوله: «لمّا اُخرج أبو جعفر (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الاولى من خرجتيه قلت له عند خروجه: جُعلت فداك، إني أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ قال: فكرّ بوجهه اليّ ضاحكاً وقال: ليس حيث ظننت في هذه السنة.
فلمّا استدعي به الى المعتصم صرتُ اليه فقلتُ له: جُعلتُ فداك، أنت خارجٌ، فإلى من هذا الأمرُ من بعدك؟ فبكى حتى اخضلّت لحيته ثم التفتَ اليّ فقال: عند هذه يُخاف عليّ، الأمرُ من بعدي الى ابني علي»[6].
لقد درس المعتصم اكثر السبل التي يستطيع بها ان يصفي الإمام، فاعلية وأقلها ضرراً، فلم يجد افضل من اُم الفضل بنت أخيه المأمون للقيام بهذه المهمّة فهي التي تستطيع ان تقتله بصورة اكيدة دون ان تثير ضجة في الاُمة، مستغلاً نقطتين في شخصيتها، هما:
1- كونها تنتمي للخط الحاكم انتماءً حقيقياً، فهي بنت المأمون وعمّها المعتصم، وليست بالمستوى الايماني الذي يجعلها تنفك عن انتمائها النسبي هذا، لذلك كانت تخضع لتأثيراته وتنفذ ما يريده ضد الإمام.
2- غيرتها وحقدها على الإمام بسبب تسريه وتزوّجه من نساء اُخريات خصوصاً وانها لم تلد للامام وإنما رزق الإمام من غيرها ولده الهادي (عليه السلام).
ولقد كان أمر غيرتها شائعاً بين الناس لذلك قال المؤرخون: «وقد روى الناس ان اُم الفضل كتبت الى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر وتقول: انه يتسرى علي ويغيرني. فكتب اليها المأمون: يابنيّة انا لم نزوجك أبا جعفر لنحرّم عليه حلالاً، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها»[7].
ولم تخل هذه الفترة من الاعتداءات الظاهرية على الإمام (عليه السلام) من أذناب السلطة، ومن ذلك ما فعله عمر بن فرج الرخجي الرجل المعادي لأهل البيت (عليهم السلام) والعامل عند السلطة العباسية. فمثلاً روى المؤرخون عن محمد بن سنان قوله: دخلت على أبي الحسن الهادي(عليه السلام) فقال: يامحمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت: مات عمر. فقال: الحمد لله على ذلك، أحصيت أربعاً وعشرين مرة، ثم قال: أو لا تدري ما قال ـ لعنه الله ـ لمحمد بن علي أبي؟ قال: قلت: لا، قال: خاطبه في شيء، فقال: أظنّك سكران، فقال أبي: اللهمّ إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً فأذقه طعم الحرب وذلّ الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حُرب ماله، وما كان له، ثم اُخذ أسيراً فهو ذا مات»[8].
استشهاد الإمام الجواد (عليه السلام)
تحدثنا عن دوافع المعتصم في اغتيال الإمام الجواد (عليه السلام) وعن اختياره اُم الفضل لتنفيذ الجريمة.
ومما يشير الى أسباب استغلال المعتصم لاُمّ الفضل وكيفية تحريضها على الاقدام على قتل الإمام (عليه السلام) ما روي من شدة غيرتها أيام أبيها وتوريطها لأبيها على ارتكاب جريمة قتل الإمام من قبل المأمون نفسه. [9]
قال أبو نصر الهمداني: «حدثتني حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر عمّة أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام).
قالت: لمّا مات محمّد بن عليّ الرّضا (عليه السلام) أتيت زوجته اُم عيسى[10] بنت المأمون فعزّيتها فوجدتها شديدة الحزن والجزع عليه تقتل نفسها بالبكاء والعويل، فخفت عليها ان تتصدّع مرارتها فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خُلقه وما اعطاه الله تعالى من الشّرف والاخلاص ومَنَحَهُ من العزّ والكرامة، اذ قالت امّ عيسى: الا اخبرك عنه بشيء عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار؟ قلت: وما ذاك؟
قالت: كنت أغار عليه كثيراً وأراقبه ابداً وربما يسمعني الكلام فاشكو ذلك الى أبي فيقول يابنيّة احتمليه فانّه بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبينما انا جالسة ذات يوم اذ دخلت عليّ جارية فسلّمت، فقلت: من انت؟ فقالت: انا جارية من ولد عمّار بن ياسر وانا زوجة أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا (عليه السلام) زوجك.
فدخلني من الغيرة ما لا اقدر على احتمال ذلك هممت ان اخرج واسيح في البلاد وكاد الشيطان ان يحملني على الإساءة اليها، فكظمت غيظي واحسنت رفدها وكسوتها، فلمّا خرجت من عندي المرأة نهضت ودخلت على أبي وأخبرته بالخبر وكان سكراناً لا يعقل. فقال: ياغلام عليّ بالسّيف، فاتى به، فركب وقال: والله لاقتلنّه فلمّا رايت ذلك قلت: انّا لله وانّا اليه راجعون، ما صنعت بنفسي وبزوجي وجعلت ألطم حرّ وجهي، فدخل عليه والدي وما زال يضربه بالسيف حتى قطعه.
ثم خرج من عنده وخرجت هاربة من خلفه فلم ارقد ليلتي فلمّا ارتفع النّهار اتيت أبي فقلت: اتدري ما صنعت البارحة؟ قال: وما صنعتُ؟ قلت: قتلتَ ابن الرّضا (عليه السلام)، فبرق عينه وغشي عليه ثم افاق بعد حين وقال: ويلك ما تقولين؟ قلت: نعم والله يا ابه دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسّيف حتى قتلته، فاضطرب من ذلك اضطراباً شديداً وقال: عليّ بياسر الخادم فجاء ياسر.
فنظر اليه المأمون وقال: ويلك ما هذا الّذي تقول هذه ابنتي قال: صدقَتْ ياامير المؤمنين فضرب بيده على صدره وخدّه، وقال: انّا لله وانّا اليه راجعون هلكنا بالله وعطبنا وافتضحنا الى آخر الابد ويلك ياياسر فانظر ما الخبر والقصة عنه(عليه السلام)؟ وعجّل عليّ بالخبر فان نفسي تكاد ان تخرج السّاعة فخرج ياسر وانا ألطم حرّ وجهي، فما كان ياسر من ان رجع، فقال: البشرى ياامير المؤمنين. قال: لك البشرى فما عندك؟
قال ياسر: دخلت عليه فاذا هو جالس وعليه قميص ودواج وهو يستاك فسلّمت عليه وقلت: ياابن رسول الله اُحب أن تهب لي قميصك هذا اصلّي فيه واتبرك به، وانما اردت ان انظر اليه والى جسده هل به اثر السّيف فوالله كأنّه العاج الّذي مسّه صفرة ما به اثر. فبكى المأمون طويلاً وقال: ما بقى مع هذا شيء إنّ هذا لعبرة للأوّلين والآخرين.
وقال: ياياسر امّا ركوبي اليه واخذي السّيف ودخولي عليه فاني ذاكر له وخروجي عنه فلست اذكر شيئاً غيره ولا اذكر ايضاً انصرافي الى مجلسي فكيف كان امري وذهابي اليه، لعن الله هذه الابنة لعناً وبيلاً، تقدّم اليها وقل لها يقول لك ابوك والله لئن جئتني بعد هذا اليوم شكوت او خرجت بغير اذنه لانتقمنّ له منك.
ثم سر الى ابن الرّضا وابلغه عني السّلام واحمل اليه عشرين الف دينار وقدّم اليه الشهري الّذي ركبته البارحة، ثم أمر بعد ذلك الهاشميّين ان يدخلوا عليه بالسّلام ويسلّموا عليه. قال ياسر: فأمرت لهم بذلك ودخلت انا ايضاً معهم وسلّمت عليه وابلغت التّسليم ووضعت المال بين يديه وعرضت الشّهري عليه فنظر اليه ساعة ثم تبسّم.
فقال(عليه السلام): ياياسر هكذا كان العهد بيننا وبينه حتّى يهجم علي، اما علم ان لي ناصراً وحاجزاً يحجز بيني وبينه. فقلت: ياسيّدي ياابن رسول الله دع عنك هذا العتاب واصفح، والله وحق جدّك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان يعقل شيئاًمن امره وما علم اين هو من ارض الله وقد نذر لله نذراً صادقاً وحلف ان لا يسكر بعد ذلك ابداً، فان ذلك من حبائل الشّيطان، فاذا انت ياابن رسول الله اتيته فلا تذكر له شيئاً ولا تعاتبه على ما كان منه.
فقال (عليه السلام): هكذا كان عزمي ورأيي والله، ثم دعا بثيابه ولبس ونهض وقام معه الناس اجمعون حتى دخل على المأمون فلمّا رآه قام اليه وضمّه الى صدره ورحّب به ولم يأذن لأحد في الدخول عليه ولم يزل يحدّثه ويستأمره، فلمّا انقضى ذلك قال أبو جعفر محمّد بن علي الرّضا (عليه السلام): «يا أمير المؤمنين»، قال: لبيّك وسعديك. قال: «لك عندي نصيحة فاقبلها».
قال المأمون: بالحمد والشكر فما ذاك ياابن رسول الله؟
قال(عليه السلام): احبّ لك ان لا تخرج باللّيل فإني لا آمن عليك من هذا الخلق المنكوس وعندي عقد تحصّن به نفسك وتحرّز به من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات، كما انقذني الله منك البارحة ولو لقيت به جيوش الرّوم والتّرك واجتمع عليك وعلى غلبتك اهل الأرض جميعاً ماتهيّأ لهم منك شيء بإذن الله الجبّار. وان احببت بعثت به اليك لتحترز به من جميع ما ذكرت لك. قال: نعم، فاكتب ذلك بخطّك وابعثه اليّ، قال: نعم.
قال ياسر: فلمّا اصبح أبو جعفر (عليه السلام) بعث اليّ فدعاني فلمّا صرت اليه وجلست بين يديه دعا برقّ ظبي من ارض تهامة ثم كتب بخطّه هذا العقد.
ثم قال(عليه السلام): ياياسر احمل هذا الى امير المومنين وقل له: حتى يصاغ له قصبة من فضّة منقوش عليها ما اذكره بعده فإذا اراد شدّه على عضده فليشدّه على عضده الأيمن وليتوضّأ وضوءاً حسناً سابغاً وليصل اربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة: فاتحة الكتاب مرّة وسبع مرّات: آية الكرسي وسبع مرات: شهد الله وسبع مرّات والشمس وضحاها وسبع مرّات: واللّيل اذا يغشى وسبع مرّات: قل هو الله احد.
فاذا فرغ منها فليشدّه على عضده الايمن عند الشّدائد والنوائب يسلم بحول الله وقوته من كلّ شيء يخافه ويحذره وينبغي ان لا يكون طلوع القمر في برج العقرب ولو انه غزى اهل الرّوم وملكهم لغلبهم باذن الله وبركة هذا الحرز.
وروي انه لمّا سمع المأمون من أبي جعفر في أمر هذا الحرز هذه الصفات كلّها غزا اهل الرّوم فنصره الله تعالى عليهم ومنح منهم من المغنم ما شاء الله ولم يفارق هذا الحرز عند كلّ غزاة ومحاربة وكان ينصره الله عزوجلّ بفضله ويرزقه الفتح بمشيّته انَّه وليّ ذلك بحوله وقوته ». [11]
ويقول المؤرخون إن اُم الفضل ارتكبت جريمتها بحقّ الإمام الجواد (عليه السلام) عندما سقته السمّ.
فقد روي: « أنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه... فأجابته الى ذلك وجعلت سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي فقال: ما بكاؤك؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر، فماتت بعلّة في اغمض المواضع من جوارحها، صارت ناصوراً فانفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة، حتى احتاجت الى الاسترفاد»[12].
وأثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً حتى لفظ انفاسه الاخيرة ولسانه يلهج بذكر الله تعالى، وقد انطفأت باستشهاده شعلة مشرقة من الامامة والقيادة المعصومة في الاسلام.
لقد استشهد الإمام الجواد (عليه السلام) على يد طاغية زمانه المعتصم العباسي وقد انطوت بموته صفحة من صفحات الرسالة الاسلامية التي اضاءت الفكر ورفعت منار العلم والفضيلة في الأرض.
تجهيزه ودفنه:
وجُهّز بدن الإمام (عليه السلام) فغسّل واُدرج في اكفانه، وبادر الواثق والمعتصم فصليا عليه [13]، وحمل الجثمان العظيم الى مقابر قريش، وقد احتفت به الجماهير الحاشدة، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله فقد ازدحمت عشرات الآلاف في مواكب حزينة وهي تردد فضل الإمام وتندبه، وتذكر الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون في فقدهم للامام الجواد (عليه السلام) وحفر للجثمان الطاهر قبر ملاصق لقبر جده العظيم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فواروه فيه وقد واروا معه القيم الانسانية، وكل ما يعتز به الانسان من المثل الكريمة[14].
عن أبي جعفر المشهدي باسناده عن محمد بن رضيّة عن مؤدّب لأبي الحسن]الهادي(عليه السلام)[، قال: «انه كان بين يدي يوماً يقرأ في اللوح اذ رمى اللوح من يده وقام فزعاً وهو يقول: انا لله وانا اليه راجعون مضى والله أبي (عليه السلام) فقلت: من اين علمت هذا؟ فقال(عليه السلام): من اجلال الله وعظمته شيء لا أعهده.
فقلت: وقد مضى، قال: دع عنك هذا ائذن لي ان ادخل البيت واخرج اليك واستعرضني بآي القرآن ان شئت اقل لك بحفظ، فدخل البيت فقمت ودخلت في طلبه اشفاقاً مني عليه وسألت عنه فقيل دخل هذا البيت وردّ الباب دونه وقال لي: لا تؤذن عليّ أحداً حتى أخرج عليكم.
فخرج(عليه السلام) الي متغيّراً وهو يقول: انا لله وانا اليه راجعون مضى والله أبي، فقلت: جعلت فداك، قد مضى فقال: نعم وتولّيت غسله وتكفينه وما كان ذلك لِيلَي منه غيري ثم قال لي: دع عنك واستعرضني آي القرآن ان شئت أفسر لك تحفظه»
فقلت: الاعراف. فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم * واذ نتقنا الجبل فوقهم كانّه ظلّة وظنوا انه واقع بهم )[15].
عمره وتاريخ استشهاده
اما عمر الإمام الجواد(عليه السلام) حين قضى نحبه مسموماً فكان خمساً وعشرين سنة [16] على ما هو المعروف، وهو أصغر الائمة الطاهرين الاثني عشر(عليهم السلام) سنّاً، وقد أمضى حياته في سبيل عزة الاسلام والمسلمين ودعوة الناس الى رحاب التوحيد والايمان والتقوى.
واستشهد الإمام الجواد (عليه السلام) سنة ( 220 هـ ) يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي القعدة، وقيل: لخمس ليال بقين من ذي الحجة وقيل: لست ليال خلون من ذي الحجة، وقيل: في آخر ذي القعدة [17].
فسلام عليه يوم ولد ويوم تقلّد الإمامة وجاهد في سبيل ربّه صابراً محتسباً ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.
متطلّبات عصر الإمام الجواد (عليه السلام)
بعد أن وقفنا في الفصلين السابقين على ملامح عصر الإمام الجواد(عليه السلام) وطبيعة تعامل الحكّام مع الإمام(عليه السلام) وخطّه الرسالي والجماعة الصالحة التي تقف الى جانب الإمام الحق الذي تمثّل مسيرته خطّ الهداية الربّانية للبشرية.. لابدّ أن نقف في هذا الفصل على مجمل متطلّبات عصر الإمام الجواد(عليه السلام) الخاص بظروفه ومستجداته الثقافية والسياسية والاجتماعية من خلال مجموعة المهام الرسالية التي جُعلت في الشريعة الإسلامية على عاتق أهل البيت(عليهم السلام) بشكل عام وعلى عاتق (التاسع منهم) الإمام الجواد بشكل خاص.
وذلك لأن أهل البيت(عليهم السلام) هم أهل بيت النبوّة والرسالة الذين ربّاهم الرسول(صلى الله عليه وآله) بيديه الكريمتين وجعلهم الدرع الحصينة التي تقي الرسالة من أن يتلاعب بها الحكّام ووعّاظ السلاطين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، كما أنها تقي الاُمة الإسلامية من السقوط والتردّي الى المهوى السحيق، بعد أن أصبحت الاُمة الإسلامية هي الاُمة الحية التي لابدّ لها أن تحمل مشعل الحضارة الإسلامية والربّانية الى العالم أجمع، وقد مُنيت بصدمة كبيرة تمثّلت في الانحراف الذي طال القيادة السياسية والذي أخذ يستشري في سائر مجالات الحياة الإسلامية.
والإمام الجواد(عليه السلام) في عصره الخاص أمام مجموعة من الإنجازات التي حققها آباؤه الطاهرون في هذين الحقلين المهمّين، كما أنّه أمام مستجدات ومتغيّرات في الوضع السياسي والاجتماعي والديني بعد أن سمحت الدولة الإسلامية للتيارات المنحرفة لتعمل بحرّية في الساحة الإسلامية وذلك لأن الحكام المنحرفين قد استهدفوا إضعاف جبهة أهل البيت الرسالية دون مواجهة علنية سافرة.
والإمام الجواد(عليه السلام) لابدّ أن يوازن ويوائم بين المهامّ والمسؤوليات الرسالية من جهة، والامكانات وما يمكن تحقيقه في هذا الظرف الخاص من جهة اُخرى للاقتراب من الأهداف الكبرى والنهائية التي رسمتها له الشريعة وصاحبها وجعلت منه قيّماً رسالياً وقائداً ربّانياً قد نذر نفسه لله تعالى ولرسالته الخالدة.
من هنا يتّضح لنا ما يتطلبه العصر الخاص بالإمام الجواد(عليه السلام) وما ينبغي أن يقوم به من دور فاعل في الساحة الإسلامية وما يحققه من انجازات خاصة بالجماعة الصالحة.
إذاً نقسّم البحث عن هذه المتطلّبات الى بحثين أساسييّن:
الأوّل: متطلّبات الساحة الإسلامية العامة.
الثاني: متطلّبات الجماعة الصالحة.
أما متطلّبات الساحة الإسلامية العامّة فتتلخّص فيما يلي:
1- إثبات جدارة خط أهل البيت(عليهم السلام) للقيادة الرسالية لجمهور المسلمين وجدارة الإمام الجواد(عليه السلام) بشكل خاص لمنصب القيادة الربّانية.
2- الردّ على محاولات التسقيط والاستفزاز التي كان يقوم بها الخطّ الحاكم ضد أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم.
3- التمهيد العام لدولة الحق المرتقبة رغم محاولات السلطة للقضاء على قضية الإمام المهدي(عليه السلام) بأشكال شتى.
4- مواجهة الانحرافات والبدع والتيارات المنحرفة في الساحة الإسلامية.
5- التوجّه الى هموم أبناء الاُمة الإسلامية.
وأما متطلّبات الخط الرسالي والجماعة الصالحة فهي كما يلي:
1- تجسيد ظاهرة الإمامة المبكّرة، من خلال تخطي القوانين الطبيعية.
2- تعميق البناء الثقافي والروحي والتربوي للجماعة الصالحة.
3- إحكام تنظيم الجماعة الصالحة واعدادها لدور الغيبة الطويلة.
4- التمهيد لإمامة الهادي المبكّرة رغم الظروف الحرجة.
5- التمهيد للإمام الغائب المنتظر بما يتناسب مع حراجة الظرف والاعداد الفكري والروحي لعصر الغيبة المرتقب إعداداً يتناسب مع صعوبات الظرف الخاص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] كشف الغمة: 2 / 361.
[2] الكرسوع: كعصفور: طرف الزند الذي يلي الخنصر الناتئ عند الرسغ.
[3] المائدة (5): 5.
[4] الجن (72): 18.
[5] بحار الانوار: 50 / 5 ـ 7.
[6] الارشاد: 2 / 298.
[7] كشف الغمة: 2 / 358.
[8] بحار الأنوار: 50/62 ـ 63.
[9] حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 264.
[10] اُم عيسى هي كنية اُخرى لاُم الفضل، واسمها زينب، كما في بعض النصوص.
[11] بحار الأنوار: 50 / 62 ـ 63.
[12] بحار الانوار: 50 / 17.
[13] ان الصلاة من قبل المعتصم والواثق على الإمام (عليه السلام) إنما هو للتعتيم الإعلامي على قتل الإمام (عليه السلام) والمعروف ان المعصوم (عليه السلام) يقوم بتجهيز المعصوم والصلاة عليه. فلا مانع من حضور الإمام الهادي(عليه السلام) عند تجهيز أبيه الجواد (عليه السلام). راجع النص من الإمام الهادي على حضوره تغسيل وصلاة ودفن أبيه في مسند الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 125 ـ 126.
[14] حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 263.
[15] الثاقب: 204.
[16] حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 264.
[17] الكافي: 1 / 497 / 12، اعلام الورى عن ابن عياش، التهذيب: 6 / 90.
المصدر : موقع صوت الجمهورية الإسلامية الإيرانية
الخميس
١ سبتمبر ٢٠١٦
١:٣٩:٢٨ م
776169
يوافق آخر شهر ذي القعدة استشهاد الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام، فبهذه الذكرى الأليمة هناك محطات على بعض ما ورد بهذا الشأن.