وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : مؤسسة السبطين
الجمعة

٢٣ أكتوبر ٢٠١٥

٢:٥٣:٤٠ م
716575

أمر الحسين(ع) في ليلة العاشر من المحرم أصحابه أن يقرّبوا بين بيوتهم و يدخلوا الأطناب بعضها في بعض و يكونوا بين يدي البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد و البيوت من ورائهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الّذي يأتيهم منه عدوّهم.

ابنا: المفاوضات بين الحسين(ع) و ابن سعد


و أرسل الحسين(ع) إلى عمر بن سعد مع عمرو بن قرظة الأنصاري أنّي اُريد أن اُكلّمك فالقني الليلة بين عسكري و عسكرك ، فخرج إليه ابن سعد في عشرين و خرج الحسين(ع) في مثلها فأمر الحسين(ع) أصحابه فتنحّوا و بقي معه أخوه العبّاس و ابنه عليّ الأكبر و أمر ابن سعد أصحابه فتنحّوا و بقي معه ابنه حفص و غلام له، فقال له الحسين(ع): ويلك يا ابن سعد أما تتّقي الله الّذي إليه معادك؟ أتقاتلني و أنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم و كن معي فإنّه أقرب لك إلى الله؟

فقال ابن سعد: أخاف أن تهدم داري، فقال الحسين أنا أبنيها لك، فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي؟ فقال الحسين: أنا اُخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز. فقال: لي عيال و أخاف عليهم، ثمّ سكت و لم يجبه إلى شيء، فانصرف عنه الحسين و هو يقول: مالَكَ ذَبَحَكَ الله على فراشك عاجلاً و لا  غفر لك يوم حشرك فوالله إنّي لأرجو أن لا  تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً، فقال: في الشعير كفاية عن البر، مستهزئاً بذلك القول.

و أرسل إليه مرّة اُخرى إنّي اُريد أن ألقاك فاجتمعا ليلاً بين العسكرين و تناجيا طويلاً، و التقى الحسين و عمر بن سعد مراراً ثلاثاً أو أربعاً ثمّ كتب عمر إلى ابن زياد: أمّا بعد فإنّ الله قد أطفأ النائرة و جمع الكلمة و أصلح أمر الاُمّة، هذا الحسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الّذي منه أتى أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من السملمين له ما لهم و عليه ما عليهم أو أن يأتي أميرالمؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه و بينه رأيه، و في هذا لك رضا و للاُمة صلاح.

و عن عقبة بن سمعان أنّه قال: و الله ما أعطاهم الحسين(ع) أن يضع يده في يد يزيد و لا  أن يسير إلى ثغر من الثغور، و لكنّه قال: دعوني أرجع إلى المكان الّذي أقبلت منه أو أذهب في هذه الأرض العريضة.

قال: فلمّا قرأ ابن زياد الكتاب، قال: هذا كتاب ناصح لأميره مشفق على قومه، فقام إليه شمر بن ذي الجوشن و قال: أتقبل هذا منه و قد نزل بأرضك و إلى جنبك و الله لئن رحل من بلادك و لم يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوّة و العزّة و لتكوننّ أولى بالضعف و العجز، و لكن لينزل على حكمك هو و أصحابه فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة و إن عفوت كان ذلك لك. فقال له ابن زياد: نعم ما رأيت، الرأيّ رأيك . اُخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين و أصحابه النزول على حكمي فإذا فعلوا فليبعث بهم إليّ سلماً و إن أبوا فليقاتلهم فإن فعل فاسمع له و أطع و إن أبى فأنت أمير الجيش فاضرب عنقه و ابعث إليّ برأسه.

و كتب إلى ابن سعد أنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه و لا  لتطاوله و لا  لتمنّيه السلامة و البقاء و لا  لتعتذر عنه و لا  لتكون له عندي شافعاً اُنظر فإن نزل حسين و أصحابه على حكمي و استسلموا فابعث بهم إليّ سلما و إن أبوا فازحف اليهم حتّى تقتلهم و تمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون، فإن قتلت حسيناً فاوطىء الخيل صدره و ظهره فإنّه عاقّ شاقّ قاطع ظلوم و لست أرى أنّ هذا يضر بعد الموت شيئاً و لكن على قول قد قلته لو قد قتلته لفعلت هذا به فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع و إن أبيت فاعتزل عملنا و جندنا و خل بين شمر بن ذي الجوشن و بين العسكر فإنّا قد أمرناه بأمرنا و السلام.

فلمّا قرأ ابن سعد الكتاب، قال له: مالكَ، ويلكَ لا  قَرّبَ الله دارك و قبّح الله ما قدمت به عليّ و الله إنّي لأظنّك أنت نهيته أن يقبل ما كتبت به إليه و أفسدت علينا أمراً كنّا قد رجونا أن يصلح، لا  يستسلم و الله حسين إنّ نفس أبيه لَبَيْنَ جنبيه. فقال له شمر بن ذي الجوشن: أخبرني بما أنت صانع، أتمضي لأمر أميرك و تقاتل عدوّه؟ و إلاّ فخلّ بيني و بين الجند و العسكر قال: لا  و لا  كرامة لك، و لكن أنا أتولّى ذلك فدونك، فكن أنت على الرّجالة.

ليلة عاشوراء


و نهض عمر بن سعد إلى الحسين(ع) عشيّة يوم الخميس لتسع مضين من المحرّم، و جاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين(ع) فقال: أين بنو اُختنا ـ يعني العبّاس و جعفراً و عبدالله و عثمان أبناء عليّ(ع) ـ فقال الحسين(ع): أجيبوه و إن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم، و ذلك أنّ اُمّهم أمّ البنين كانت من بني كلاب و شمر من بني كلاب.

فقالوا له: ما تريد؟ فقال لهم: أنتم يا بني اُختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين و الزموا طاعة يزيد، فقالوا له: لعنك الله و لعن أمانك أتؤمننا و ابن رسول الله لا  أمانَ له؟!

و ناداه العبّاس ابن أمير المؤمنين(ع): تبّت يداك و لَعَن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله أتأمرنا أن نترك أخانا و سيّدنا الحسين بن فاطمة و ندخل في طاعة اللعناء و أولاد اللعناء؟![1]

ثمّ نادى عمر بن سعد يا خيل الله اركبي و بالجنّة أبشري فركب الناس ثمّ زحف نحوهم بعد العصر و الحسين(ع) جالس أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه فسمعت اُخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت: يا أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين(ع) رأسه فقال: إنّي رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الساعة في المنام فقال إنّك تروح إلينا، فلطمت اُخته وجهها و نادت بالويل فقال لها الحسين(ع): ليس لكِ الويل يا اُخيّة اسكتي رحمك الله.[2]

و قال له العبّاس: يا أخي أتاك القوم فنهض ثمّ قال: يا عباس اركب أنت حتّى تلقاهم و تقول لهم: ما بالكم و ما بدا لكم؟ و تسألهم عمّا جاء بهم، فأتاهم في نحو عشرين فارساً فيهم زهير بن القين و حبيب بن مظاهر فسألهم فقالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم، قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبدالله فأعرض عليه ما ذكرتم، فوقفوا و رجع العباس إليه بالخبر و وقف أصحابه يخاطبون القوم و يعظونهم و يكفّونهم عن قتال الحسين(ع).

فلمّا أخبره العبّاس بقولهم قال له: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة و تدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة و ندعوه و نستغفره فهو يعلم أنّي كنت أحبّ الصلاة له و تلاوة كتابه و كثرة الدعاء و الاستغفار. فسألهم العبّاس ذلك، فتوقّف ابن سعد، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي سبحان الله و الله لو أنّهم من الترك أو الديلم و سألونا مثل ذلك لأجبناهم فكيف و هم آل محمّد؟! و قال له قيس ابن الأشعث بن قيس: أجبهم لعمري ليصبحنّك بالقتال. فأجابوهم إلى ذلك.

فجمع الحسين(ع) أصحابه عند قرب المساء. قال زين العابدين(ع): فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم و أنا إذ ذاك مرييض فسمعت أبي يقول لأصحابه: اُثني على الله أحسن الثناء و أحمده على السرّاء و الضرّاء اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرّمتنا بالنبوّة و علّمتنا القرآن و فقّهتنا في الدين و جعلت لنا أسماعاً و أبصاراً و أفئدة فاجعلنا لك من الشاكرين. أمّا بعد فإنّي لا  أعلم أصحاباً أوفى و لا  خيراً من أصحابي و لا  أهل بيت أبرّ و لا  أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عنّي خيراً ألا  و إنّي لأظنّ يوماً لنا من هؤلاء ألا  و أنّي قد أذنت لكم انطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، و هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً و ليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي و تفرّقوا في سواد هذا الليل و ذروني و هؤلاء القوم فإنّهم لا  يريدون غيري.

فقال له إخوته و أبناؤه و بنو أخيه و أبناء عبدالله بن جعفر: و لِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدك؟ لا  أرانا الله ذلك أبداً، بدأهم بهذا القول أخوه العبّاس بن أمير المؤمنين و اتّبعه الجماعة عليه فتكلّموا بمثله و نحوه.

ثمّ نظر إلى بني عقيل فقال: حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم، إذهبوا قد أذنت لكم، قالوا: سبحان الله فما يقول الناس لنا؟! و ما نقول لهم؟ إنّا تركنا شيخنا و سيّدنا و بني عمومتنا خير الأعمام و لم نرمِ معهم بسهم و لم نطعن معهم برمح و لم نضرِب معهم بسيف و لا  ندري ما صنعوا! لا  و الله ما نفعل ذلك، و لكنّنا نفديك بأنفسنا و أموالنا و أهلينا و نقاتل معك حتّى نردَ موردك، فقبّح الله العيش بعدك.

و قام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلّي عنك و قد أحاط بك هذا العدوّ؟ و بمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ لا  و الله لا  يراني الله أبداً و أنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي و أضاربهم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي، و لو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة و لم اُفارقك أو أموت معك.

و قام سعيد بن عبدالله الحنفي فقال: لا  و الله يا ابن رسول الله لا  نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) و الله لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق ثمّ اُذرى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونَك، و كيف لا  أفعل ذلك و إنّما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة الّتي لا  انقضاء لها أبداً.

و قام زهير بن القين و قال: و الله يا ابن رسول لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشِرت ألف مرّة و أنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن نفس هؤلاء الفتيان من إخوانك و ولدك و أهل بيتك.

و تكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً و قالوا: أنفسنا لك الفداك نقيك بأيدينا و وجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا و قضينا ما علينا.[3]

و أمر الحسين(ع) أصحابه أن يقرّبوا بين بيوتهم و يدخلوا الأطناب بعضها في بعض و يكونوا بين يدي البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد و البيوت من ورائهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الّذي يأتيهم منه عدوّهم.

و قام الحسين و أصحابه الليل كلّه يصلّون و يستغفرون و يدعون و باتوا و لهم دويّ كدويّ النحل ما بين ركاع و ساجد و قائم و قاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان و ثلاثون رجلاً.

قال بعض أصحاب الحسين(ع) : مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا و كان الحسين(ع) يقرأ (و لا  يحسبنّ الذين كفروا أنّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين. ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب).

فسمعها رجل من تلك الخيل يقال له عبدالله بن سمير فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم، فقال له بربر بن خضير: يافاسق أنت يجعلك الله من الطيّبين؟! فقال له: مَن أنت ويلك؟ قال: أنا برير بن خضير فتسابّا، فلمّا كان وقت السحر خفق الحسين عليه السلام برأسه خفقة ثم استيقظ فقال: رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت لتنهشني وفيها كلب أبقع رأيته أشدّهاعليّ وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجل أبرص.
________________________________________
[1]. فرجع الشمر إلى عسكره مغضباً، و كان ابن خالهم عبدالله بن أبي المحل بن حزام و قيل جرير بن عبدالله بن مخلّد الكلابي قد أخذ لهم أمانا من ابن زياد و أرسله إليهم مع مولى له و ذلك أنّ أمّهم اُمّ البنين بنت حزام زوجة عليّ(ع) هي عمّة عبدالله هذا، فلمّا رأوا الكتاب، قالوا: لا  حاجة لنا في أمانكم أمان الله خير من أمان ابن سميّة.

[2]. و في رواية أنّه(ع) جلس فرقد ثمّ استيقظ و قال: يا اُختاه رأيت الساعة جدّي محمّداً و أبي عليّاً و اُمّي فاطمة و أخي الحسن و هم يقولون يا حسين إنّك رائح إلينا عن قريب.

[3]. و وصل الخبر إلى محمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال بأنّ ابنه قد اُسر بثغر الريّ فقال: عند الله أحتسبه و نفسي ما كنت أحبّ أن يؤسر و أبقى بعده، فسمع الحسين(ع) قوله فقال: رحمك الله أنت في حلٍّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك، فقال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك ، قال: فأعط ابنك هذا هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه فأعطاه خمسة أثواب برود قيمتها ألف دينار فحملها مع ولده.
........
انتهى / 278