ابنا: ((خابَ الوافِدونَ عَلي غَيرِكَ و خَسِرَ المُتُّعَرِّضونَ إلاّ لَك)). الخائب هو الشخص الذي لا يأمل الوصول إلى المطلوب، الشخص الذي يتخلّف عن القافلة يقولون عنه خائب و خاسر، عبارتين لهما مضمون متقارب في المعنى. الخائب يُطلق على الشخص الذي يضيّع الأمر من يديّه، يضيّع الأمر من بين يديّه، الخاسر يطلق على الشخص الذي يخسر، يعني ليس فقط يضيّع الأمر من بين يديه، بل لا يعود بإمكانه استعادته ولا يمكن له أن يصل إليه.
((خاب الوافدون على غيرك)) فكلّ من ورد على غيرك؛ يده خالية، هؤلاء لا مصدر لديهم يغنيهم، لأنّ كلّ شيء سواك هباء، و كلّ شيءٍ سواك عدم، كلّ شيء غيرك فقّاقيع، والأفراد الذين سعوا نحو غيرك ووضعوا أثقالهم في ساحة غير ساحتك، فذهبوا نحو المقام، أو ذهبوا نحو المال، أو ذهبوا نحو كسب الشهرة، أو ذهبوا نحو الاستفادة – الاستفادة الدنيوية كل أولئك الأفراد خائبون. الأفراد الذين ذهبوا حتّى إلى جوانب غير ماديّة، ذهبوا حتّى نحو المقام المبرّز، ذهبوا حتّى نحو الإمام، ولكن ذهابهم نحو الإمام، ذلك الإمام في تعيّنه و في حدّ الرؤية و وبدون الالتفات إلى التوحيد، نظروا إليه، أولئك أيضاً ((خاب الوافدون)). إنّ الأفراد الذين يرون أن الولاية مفصولة عن التوحيد، وأنّ الولاية أقل من التوحيد برتبة، و لا ينظرون إلى الإمام بعنوان الوسيلة بل بعنوان الموضوعيّة، يختلفون عن الأفراد الذين يتوجّهون نحو ذات الله عزّ وجلّ، وكذلك الذين يعتبرون الإمام وسيلة من أجل الوصول إليه حاسبهم يختلف أيضاً عن حساب هؤلاء.
((و خسر المتعرضون إلا لك)) من يتعرض لغيرك فهو خاسر، من يعتبر قدراً لغيرك و يهتم بأشخاص سواك، و يبني علاقاته مع غيرك فهو خاسر، يشهد الله أن خطوراً واحدا يمرّ في ذهن الإنسان، بحيث يكون هذا الخطور غير إلهي، بل خطور مادي و دنيوي، فإنّه سوف يُكتب و يُسجّل، خطور واحد: (فلتصاحب هذا الشخص، و لتتخذه صديقاً فإنه سوف ينفعك يوماً ما، و على الأقل لا ضرر في ذلك). فإذا قام الإنسان بناءاً على هذا الخطور حتى بإلقاء السلام على ذلك الشخص، فما هي نتيجة عمله؟ ستكون ((خسر المتعرضون إلا لك)) فكل من تعرّض لغيرك يا رب سيخسر، و سيأتي اليوم الذي يتركه ذلك الشخص الذي اهتم بأمره لغير الله و سيدير ظهره له و يتجاهله، و عندها سيعرّف الإنسان أنّه قد خسر، كيف خسر؟ و ما معنى أنه خاسر؟ معناه عندما يقول الإنسان لنفسه: يا للعجب! لقد أقمت علاقة مع هذا الشخص لمدّة عامين كاملين، ثم يتركني و يذهب من أجل موضوع تافه كهذا؟!
لماذا يشعر الإنسان هنا بالضيق و الانزعاج؟ إن كل هذا الانزعاج لم يكن لأنّ ذلك الشخص قد قطع علاقته به، و إنّما هو قد تعلق بذلك الشخص لمدّة سنتين و جامله ودار في فلكه و أغدق عليه، راسماً في ذهنه خططاً للاستفادة منه، و لهذا فعندما تركه و ذهب انزعج و تضايق بهذا الشكل، و هذا معنى (خاسر).
أمّا لو أنّه أقام على علاقة معه لمدة سنتين و لكن دون أن يكون متعلّقاً به و يبني الآمال عليه، ثمّ تركه هذا الشخص، فهل سينزعج؟ أبداً، و لسان حاله سيقول: إذا أراد أن يذهب فليذهب. هل سيتضايق؟ لا، إذا أراد أن يعود و يستمرّ بالعلاقة فليعد و إن أراد أن يترك و يقطع فليترك و ليقطع.
إنّ مثل هذا الإنسان لن ينزعج و لن يتأثّر لأنّه لم يرهن قلبه لهذه العلاقة و لهذا الشخص، لقد أقام علاقة قوية، و أودع قلبه عند شخص آخر، و بنا علاقته مع شخص آخر، و هذا الشخص الآخر لم و لن يتركه و يذهب أبداً، (و إذا تركه فعلى الإنسان أن يرفع صوته بنداء وا مصيبتاه)، و لكن كلّا و هيهات، هو لا يذهب و لا يترك الإنسان أبداً، و كلّ شيء سواه فان و كل علاقة مع غيره منقطعة لا محالة.
((و ضاع الملمون إلا بك)) أي ضاع كل شخص ألمّ و انحنى و خضع لغيرك ((و أجدب من انتجع إلا فضلك)) أي أن كل من طلب من غيرك فلن يحصل إلا على الفقر و الحسرة
((بابك مفتوح للراغبين)) إن باب رحمتك مفتوح دائما لكل من أراد أن يستفيض من تلك الرحمة و تلك التجلّيات، ((و خيرك مبذول للطالبين، و فضلك مباح للسائلين)).. (( و نيلك متاح للآملين)) أي أنّ عطاءك و فضلك متاح و حاضر لكل شخص أمّل و تمنى ذلك منك، (( و رزقك مبسوط لمن عصاك)).. ((و حلمك معترض لمن ناواك)) أي أنّك تقابل الشخص الذي جاء قاصداً حربك و عداءك بالحلم و الرحمة، فرحمتك شاملة حتى لمثل هذا المعادي، ((عادتك الإحسان إلى المسيئين و سبيلك الإبقاء على المعتدين)) ... (( اللهم فاهدني هدى المهتدين))
هنا يصل الإمام إلى نقطة أخرى، فبهذه العبارة يصل الإمام بدعائه إلى أوجه و إلى أعلى مستوى، فيقول: أي ربِّ، حيث أنّ عندك كل هذه الخصوصيات التي تقدمّت و الصفات الرفيعة التي ذُكرت، فأسألك أن تهديني هدى المهتدين، لن يضرك هذا العطاء و لن ينقص من ملكك شيئاً، يا من عطاؤه يشمل الجميع و بابه مفتوح دائماً و حلمه شاملٌ حتى لعدوّه، أرجوك أن تأخذ بيدي! ((و ارزقني اجتهاد المجتهدين ، و لا تجعلني من الغافلين المبعدين ، و اغفر لي يوم الدين)) .
.......
انتهى/278