ابنا:ولادته :
مرت على شيعة آل البيت عليه السلام فترة عاشوا فيها القلق والاضطراب. فبالرغم من تجاوز العمر الشريف للإمام الرضا عليه السلام الأربعين عاماً، ولم تكن هناك علائم لولادة الإمام الجواد عليه السلام، فقد تأخرت ولادة خليفة الله على الأرض، لكن الإمام الرضا عليه السلام يعد أصحابه ويؤكد لهم أن خلفه الذي سيحمل عبء الإمامة قادم لا محالة، لكن زمن نزوله الى ساحة الأمة لم يأذن الله به بعد لحكمة هو أدرى بها.
ففي العاشر من شهر رجب سنة 195 للهجرة طلب الإمام الرضا عليه السلام من أخته حكيمة أن تبقى الى جانب زوجته خيزران (أم الإمام الجواد) بعد أن ظهرت علائم الطلق عليها.
فتحكيه السيدة الكريمة حكيمة بنت أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قالت : لمّا حضرت ولادة الخيزران أم أبي جعفر عليه السلام دعاني الرضا عليه السلام ، فقال : « يا حكيمة احضري ولادتها » ، وأدخلني وإيّاها والقابلة بيتاً ووضع لنا مصباحاً ، وأغلق الباب علينا .
فلمّا أخذها الطلق طفئ المصباح ، وكان بين يديها طست ، فاغتممت بطفء المصباح ، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه السلام في الطست ، وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتى أضاء البيت فأبصرناه فأخذته فوضعته في حجري ونزعت عنه ذلك الغشاء . فجاء الرضا عليه السلام وفتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه ووضعه في المهد.
كان الإمام الجواد عليه السلام أعجوبة لم تسبق بها الأمة الإسلامية. فقد نهض بأعباء الإمامة بعد أبيه الرضا عليه السلام وعمره تسع سنوات. وهو أمر استدعى التأمل والاستغراب حتى من قبل أتباع الإمام الرضا عليه السلام حين سئل عمن يخلفه، فأشار إليه وهو صغير. نعم! لقد عرفوا من خبر عيسى بن مريم وخبر يحيى بن زكريا عليهما السلام من قبل، وقد قص القرآن الكريم حكايتهما. لكن من طبيعة الإنسان الركون الى المشهود المحسوس، والتعود والحكم على المألوف. غير أنهم بعد أن رأوا آية الله حاضرة ناطقة، لم يكن أمامهم إلا التسليم.
كان ذلك ما ميّز الإمام الجواد عليه السلام من بين الأئمة المعصومين الباقين، فقد تأخرت ولادته زمناً جعل أتباع أهل البيت في قلق، ثم تقلد الإمامة هو صغير السن، كبير العقل، خارقاً في منطقه وحكمته وعلمه، ثم توفي وهو شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.
رغم أن ابنه الإمام الهادي عليه السلام تولى الإمامة وهو صغير أيضاً، لكن خبر تولي الإمام الجواد عليه السلام الإمامة وهو صغير انتشر وذاع ذكره، وذلك لأن مركز ذيوعه كان قصر الخليفة المأمون الذي أقام المناظرة الكبرى الشهيرة بين الإمام الجواد وبين قاضي قضاة المسلمين حينها يحيى بن أكثم.
ألقابه :
عرف عليه السلام بأكثر من لقب، فأشهر ألقابه الجواد، ثم التقي. أما عند جيرانه من أهل الكاظمية، فهو يعرف بباب المراد، لأنه الباب الذي يطرق طلباً للحاجات من الله سبحانه.
أولاده :
الذكور: علي الهادي، الإمام الذي تولى زمام الإمامة بعده، وموسى.
الإناث: فاطمة، وأمامة، وحكيمة وزينب.
ولم يرزق بولد من زوجته أم الفضل بنت المأمون، التي قامت باغتياله.
حياته وملوك عصره :
عاصر الإمام الجواد عليه السلام شطراً من خلافة المأمون، وسنتين من خلافة المعتصم.
أما المأمون، الذي اتجهت اليه أصابع الاتهام في قتل الإمام الرضا عليه السلام، فقد حاول استقطاب ابنه الإمام الجواد عليه السلام واستمالته إليه، في محاولة منه لإسقاط التهمة عنه وتبرئة ساحته من دم أبيه.
قام باستدعاء الإمام الجواد من المدينة، وعرض عليه أن يزوّجه ابنته أم الفضل، أملا في أن تشفع له المصاهرة في نسيان دم أبيه. لكن قراراً كهذا ووجه بثورة من رجال البلاط المحيطين بالمأمون. فقرار كهذا يبعثهم فيهم القلق على مستقبل العرش العباسي، وكانت تجربة ولاية العهد لأبيه الإمام الرضا عليه السلام من قبل المأمون قد جرّت عليهم قلقاً مماثلا.
حاولوا بشتى السبل إقناعه في العدول عن عزمه، لكنه لم يستجب لضغوطهم.
فتنازلوا بعض الشيء، وقالوا له إنه صغير لم يتعلم ولم يتفقه، وتنقصه الثقافة العامة. فاتركه حيناً يتعلم ويكتسب من المعارف ما يؤهله أن يكون صهراً للخليفة. ضحك المأمون من مبرراتهم التي طروحها لدفعه الى الرجوع عن قراره او تأخير تنفيذه على الأقل. فهو رجل ذكي، ويعلم منزلة هذا البيت وأهله، وأن علومهم لا تكتسب بالتعلّم التقليدي الذي يعرفونه. فعرض عليهم أن يمتحنوه بما يشاؤون من المعارف. فإن فشل في الاختبار، أخذ بمشورتهم. واذا نجح في الاختبار فله أن يمضي في قراره دون أن يكون لهم الاعتراض.
وافق رجال البلاط على عرض المأمون، وأعدوا ليوم الاختبار، واستدعوا قاضي القضاة في زمانه، يحيى بن أكثم، وطلبوا منه أن يهيئ من المسائل الشداد ما يفشل خطط الخليفة ويحقق لهم أهدافهم بمنع تلك الزيجة. وجاء اليوم الحاسم فاجتمع القوم، واستأذن قاضي القضاة الخليفة المأمون في أن يسأل الإمام الجواد عليه السلام بعض المسائل في الفقه. فأشار عليه أن يستأذن من الإمام في السؤال. تقدم القاضي للاستئذان وتطلع في وجه الصبي، وهو غير مصدق بجدوى توجيه أسئلة فقهية كبرى الى صبي في مثل ذلك السن، لكن عليه أن يمتثل أمر أولئك الرجال الذين استدعوه الى المنازلة، وربما وعدوه بالجوائز والعطايا إن حقق لهم مآربهم في إفحام الإمام وإفشال مخطط الخليفة.
يحيى: أتأذن لي، جعلت فداك، في مسألة؟ الإمام عليه السلام: سل إن شئت.
يحيى: ما تقول في مُحرمٍ قتل صيداً؟
الإمام عليه السلام: قتله في حلّ او حرم، عالماً كان المحرم أم جاهلاً، قتله عمداً او خطأ، حراً كان المحرم أم عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أم معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد كان أم من كباره، مصرّاً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أم بالحج؟
سؤال رد عليه الإمام عليه السلام بسيل من الأسئلة؟ وقد كان يشير به الى جهل السائل وعدم إحاطته بتفاصيل الموضوع. فقد كان على السائل أن يكون دقيقاً في سؤاله ويحدد الذي يريده، إذ أن المسألة فيها من التفرع والتشعب ما لا يجعل الجواب فيه عاماً شاملاً.
لم يجب الإمام بطريقة تقليدية، لأنه كان يعلم أن السائل لم يكن يقصد من سؤاله فهم حكم شرعي غامض. وإنما كان الداعي الى ذلك التحدي وإثبات وجود المعرفة لدى الإمام من عدمه. فكان الجواب شافياً كافياً وافياً، بعد ان أدى الغرض المنشود، ولم يثبت للخصم غزارة معرفة الإمام وحسب، بل أثبت جهل الخصم في تفاصيل سؤاله.
نزل هذا الردّ على قاضي القضاة كالصاعقة؟ فلم يدر ما يقول وظل متحيراً، وصار رجال البلاط أكثر حيرة ودهشة، فلم يفتح أحد منهم فاه. وأحس المأمون بنشوة النصر، وطلب من الإمام في الحال أن يبدأ خطبة الزواج وإجراء مراسيمه. وتم له ما أراد.
بعد ذلك، طلب المأمون من الإمام عليه السلام أن يفصل جواب مسألة القاضي بكل الاحتمالات التي ذكرها. ففصل الإمام بذلك الكثير من الاحتمالات، وحدد لكل احتمال جوابه.
وزيادة في إقناع حاشية الخليفة بخطئهم، طلب من الإمام عليه السلام أن يوجّه سؤالا بالمقابل الى قاضي القضاة ليمتحنه. فكان السؤال محيراً وأعلن القاضي عجزه عن الجواب وطلب من الإمام الجواب بنفسه عن سؤاله.
رضيت حاشية الخليفة بالواقع الجديد على مضض، مترقبين لما قد يحدث للعرش من انهيار، ومن وقوعه بيد غيرهم من غير العباسيين.
أخذ الإمام عروسه وعاد بها الى المدينة، وهمه الأكبر مواصلة الرسالة التي دأب آباؤه الكرام على تحمل أعبائها بنشر علوم النبي وآله، عليهم أفضل الصلاة والسلام. ثم عاد إلى بغداد، وكان أقطاب العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث بانتظاره، لينهلوا من علومه ويطرحوا عليه أسئلتهم وما أشكل عليهم من الأمور.
وانتهى عهد المأمون، وتولى الخلافة بعده أخوه المعتصم.
لم يكن يروق للمعتصم المكانة التي يحظى بها الإمام الجواد عليه السلام بين أصحابه أو عند سلفه المأمون. وهو يتذكر على الدوام التجارب التي مرّ بها آباؤه العباسيون مع أفراد هذا البيت، الذي ظلّ على مرّ الزمن مصدر قلق لعروشهم. تولى المعتصم الخلافة في عام 218 ﻫ بعد وفاة أخيه المأمون. وظل يتحين الفرص لقتل الإمام. وجاءته الفرصة مواتية له حينما علم أن زوجة الإمام، أم الفضل، وهي ابنة أخيه المأمون، على غير وفاق مع زوجها، بسبب غيرتها من زوجته الأخرى. فطلب منها أن تدس السم إليه في العنب. ففعلت ذلك. وحينما رأت الإمام عليه السلام وهو يصارع الموت من شدة السمّ، ندمت على ما فعلت وانفجرت باكية. ولكن أنّى لبكائها وندمها أن ينفعها وقد قتلت حجة الله في أرضه وإمام المسلمين. وصعدت روحه الطاهرة ليلتحق بجدّه [ص] وآبائه الطاهرين الذين سبقوه بالنهاية نفسها. ودفن الى جوار جده الإمام موسى بن جعفر الكاظم في الكاظمية المقدسة التي كانت تسمى قديماً مقبرة قريش.
تراث الامام الجواد عليه السلام:
حفظ لنا تراث الإمام الجواد عليه السلام عدد غير قليل من أصحابه وتلاميذه. وقد عدّ الشيخ محمد حسن آل ياسين [قدس سره] في كتابه (الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام) ما ينوف على المائة منهم، وذكر لهم كتباً ومصنفات كثيرة، مشتملة على ما دونوه عنه.
ثم نقلت تلك الحصائل الى كتب الشيعة الإمامية الأربعة المعتمدة، وهي الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه، وهي تعد جزءاً مهما من تراث أهل البيت عليه السلام.
من أقواله :
العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم.
الجمال في اللسان، والكمال في العقل.
إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له.
من شهد أمراً فكرهه كان كمن غاب عنه. ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده.
الشهادة بإمامته :
ممن شهد بإمامة الجواد عليه السلام وأذعن لها عم أبيه : علي بن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام ، فقد روى الكليني رحمه الله بسنده ، عن محمد ابن الحسن بن عمار قال : كنت عند علي بن جعفر الصادق جالساً بالمدينة ، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه ـ يعني أبا الحسن موسى الكاظم عليه السلام ـ إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوثب علي بن جعفر؛ بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه ، فقال له أبو جعفر عليه السلام : « يا عم إجلس رحمك الله » ، فقال : يا سيدي ! كيف أجلس وأنت قائم ؟
التوسل بالإمام الجواد عليه السلام:
فقد ورد التوسل به هذا الإمام الهمام عليه السلام عن طريق الكتب في موارد متعددة ، منها:
ما ورد توسله في ضمن التوسل بالمعصومين والمتداول قرائته في ليلة الإثنين والإربعاء: يا اَبا جَعْفَرٍ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِي اَيُّهَا التَّقِىُّ الْجَوادُ يَا بْنَ رَسُولِ اللّهِ يا حُجَّةَ اللّهِ عَلى خَلْقِهِ يا سَيِّدَنا وَمَوْلينا اِنّا تَوَجَّهْنا وَاسْتَشْفَعْنا وَتَوَسَّلْنا بِكَ اِلَى اللّهِ وَقَدَّمْناكَ بَيْنَ يَدَىْ حاجاتِنا يا وَجيهاً عِنْدَ اللّهِ اِشْفَعْ لَنا عِنْدَ اللّهِ
وهناك توسل آخر بالإمام الجواد عليه السلام ورد في كتب الأدعية كمفاتيح الجنان، فيظهر من معانيه أنه لطلب الرزق:
اَللّهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ بِحَقِّ وَلِيِّكَ مُحمَّد بْنِ عَلِىٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ إلاّ جُدْتَ بِهِ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ وَتَفَضَّلْتَ بِهِ عَليَّ مِنْ وُسْعِكَ وَوَسَّعْتَ عَلَيَّ رِزْقَكَ وَاَغْنَيْتَني عَمَّنْ سِواكَ، وَجَعَلْتَ حاجَتي اِلَيْكَ وَقَضاها عَلَيْكَ اِنَّكَ لِما تَشاءُ قَديرٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- الكافي، الشيخ الكليني.
2- التهذيب، الشيخ الطوسي.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي.
4- تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحراني.
5- تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب.
6- الإرشاد، الشيخ المفيد
7- إثبات الوصية، علي بن الحسين الشافعي المسعودي.
8- مستدرك عوالم العلوم، الشيخ عبد الله البحراني.
......
انتهى/278