كتب المحرر السياسي :
ابنا: بعد عشرة أيام على هجوم القنيطرة، حسم «حزب الله» سريعاً النقاش حول أين وكيف ومتى سيحصل الردّ، وفرض معادلته الدقيقة: «أكبر من ثأر.. وأقلّ من حرب»، في عملية نوعية مركبة انطوت على تفوق استخباري ولوجستي وعسكري في حيز جغرافي شديد الحساسية والتعقيد.
ولعل أهم ما حققته العملية ـــ الإنجاز، أنها أجهضت محاولة اسرائيل تعديل قواعد الاشتباك من خلال هجوم القنيطرة، وأعادت تثبيت معادلة الردع على قاعدة «أن أي اعتداء يتعرّض له محور المقاومة.. سيلقى الرد المناسب».
منذ اللحظة الاولى لعملية القنيطرة، كان الاسرائيلي يفضل ان يحصل الرد عبر الجولان، لأن من شأن ذلك أن يمنحه هامشاً واسعاً للرد في الداخل السوري، لكن المقاومة باغتت التقدير الإسرائيلي، فاختارت أن توجّه ضربتها في المكان الذي لم يكن مدرجاً، ربما، في أولوية الحسابات الاسرائيلية.
كان واضحاً أن انتقاء «المزارع»، هو الى حد ما «الخيار الآمن»، الذي يوفق بين حتمية الردّ وبين الرغبة في عدم التصعيد (الحرب)، إذ إن «المزارع» هي منطقة لبنانية محتلة تقع خارج نطاق القرار 1701، وتملك المقاومة فيها شرعية العمل
العسكري قبل عملية الأمس وبعدها.
وإذا كانت إسرائيل قد اختارت وفق مقاييسها المكان والزمان للاعتداء على موكب «حزب الله» في القنيطرة، متوقعة أن يأتيها الردّ من البقعة الجغرافية ذاتها، فإن «حزب الله» ارتأى أن يوجّه ضربته المضادة في مزارع شبعا، مكرساً بذلك وحدة
جبهة الصراع من الجنوب الى الجولان، واضعاً في حساباته أن الردّ عبر الجولان وما سيليه من تداعيات، قد يؤدي إلى إحراج حليفه السوري المنشغل بمواجهة القوى التكفيرية، وربّما الى تدحرج المنطقة كلها نحو مواجهة واسعة، وهو الأمر الذي
لا يريده الحزب، وإن كان مستعداً له لو حصل، بدليل القرار بالردّ، ومن ثم وضعه موضع التنفيذ.
وهذه النقطة وغيرها، سيركّز عليها السيد حسن نصرالله في خطابه المقرّر غداً، وربما يتزامن إحياء ذكرى شهداء عملية القنيطرة مع بثّ مقاطع مصورة لعملية شبعا، كما رجّحت بعض الأوساط الاعلامية أمس.
ولئن كانت إسرائيل لم تتجرأ حتى الآن على التبني الرسمي والواضح لغارة القنيطرة، فإن «حزب الله» سارع الى تبني عملية «المزارع» عبر بيان حمل الرقم واحد في رسالة ضمنية بأن أي ردّ اسرائيلي سيرتب رداً سريعاً من المقاومة.
وتعاملت وسائل الإعلام الإسرائيلية مع الردّ على أنه تعبير عن إخفاق استخباري وعملياتي من الدرجة الأولى، خصوصاً أنه تمّ في ظل حالة التأهب القصوى المعلنة منذ أيام على طول الحدود الشمالية من الناقورة الى الجولان، لكن هذا الإخفاق أظهر من ناحية أخرى المعضلة السياسية التي وجدت إسرائيل نفسها فيها إثر دخولها شرك التصعيد مع «حزب الله» بعد عملية القنيطرة: هل تصعّد ميدانياً أم تتجنّب الصدام الواسع؟
ومن الواضح، أن السلوك الاسرائيلي أعطى انطباعاً بأن العدو قرر أن «يبتلع» الضربة، وألا يذهب بعيداً في ردة فعله، برغم التصريحات مرتفعة النبرة التي أدلى بها بنيامين نتنياهو، غير القادر على خوض مغامرة واسعة على تخوم الانتخابات، ومن دون وجود ضوء أخضر أميركي.
وفي سياق احتواء الموقف، تواصلت المنسّقة الخاصة للأمم المتحدة سيغريد كاغ وقيادة «اليونيفيل» مع «حزب الله»، أمس، من زاوية الدعوة الى التهدئة وضبط النفس، وتبلّغ الجيش اللبناني من القوات الدولية رسالة، نقلاً عن الجانب
الإسرائيلي، مفادها بأن عمليات القصف انتهت وأن بإمكان جنود «اليونيفيل» الخروج من الملاجئ.
وسُجل أيضاً تنسيق بين «حزب الله» وقيادة الجيش، في ظل ارتياح للموقف الرسمي اللبناني الذي عبّر عنه رئيس الحكومة تمام سلام ووزير الخارجية جبران باسيل الذي أجرى اتصالات دولية وإقليمية صبّت كلها في خانة تأكيد الحق اللبناني.
وتلقى «حزب الله» أمس سيلاً من برقيات التهنئة والدعم من أوساط عربية متعددة، لاسيما فلسطينية على اختلاف مشاربها، ومن ضمنها قيادتا «فتح» و «حماس».
وقائع العملية
كيف حصلت العملية وما هي مقدّماتها؟
هي عملية نظيفة ونوعية بامتياز، وتنطوي على مزيج من عناصر الابتكار والخبرة والقدرة والمباغتة والشجاعة.
وبرغم أن العدو كان ينتظر الردّ منذ اعتداء القنيطرة، إلا أن «الفضيحة» التي أصيب بشظاياها ولا تقل وطأتها عن صواريخ «كورنيت»، هي أن المقاومة تحكّمت بمسرح العملية، محتفظة لنفسها بزمام المبادرة منذ إطلاق الصاروخ الأول على القافلة المعادية وحتى لحظة الانسحاب.
بعد جريمة القنيطرة، حصل نقاش واسع داخل قيادة المقاومة للخيارات المضادّة، وتقرّر الردّ عبر مزارع شبعا، بأسرع وقت ممكن، لمنع إسرائيل من استثمار مفاعيل غارة القنيطرة بتغيير قواعد الاشتباك، ومحاولة فرض أمر واقع جديد على خط الجبهة الممتدّ من الجنوب الى الجولان.
كُلّفت المجموعات العسكرية المعنية في المقاومة بتفعيل الرصد في المزارع، لتحديد الهدف الذي سيُضرب وزمان التنفيذ ومكانه، وتم تأجيل إطلالة السيد حسن نصرالله الإعلامية حتى الجمعة، لإفساح المجال أمام المقاومة لتُنجز مهمتها.
كان «السيد» قد حسم الأمر: الردّ قبل الخطاب، وليس العكس، «وهذه دفعة أولى في الحساب المفتوح بيننا وبين الإسرائيلي».
وضعت قيادة المقاومة الخطة وباشرت مجموعات النخبة بتنفيذها.. أساساً، تخضع كل همسة وحركة في المزارع المحتلة لمراقبة المقاومة التي بقيت حاضرة ومستيقظة على طول الحدود مع العدو، برغم انشغالاتها في الساحات الاخرى.
ومع اكتمال صورة المعطيات الميدانية لدى المقاومة، صدر قرار التنفيذ. بدأ الفصل التمهيدي للعملية أمس الاول، حين تم إطلاق صاروخين على الجولان المحتلّ، بغية استقطاب اهتمام العدو وأنظاره الى تلك المنطقة، في معرض التمويه والإلهاء،
وجاءت ردة الفعل الاسرائيلية على الصورة التي توقعتها المقاومة.
في هذه الأثناء، كانت مجموعة «شهداء القنيطرة» تمضي ليلتها في موقع أمامي في المزارع المحتلة ضمن منطقة جغرافية معقدة وغير مكشوفة، تنتظر مرور الهدف، وهي مزوّدة بأسلحة نوعية قادرة على إيصال الرسالة ببلاغة، بعدما نجحت في تجاوز أجهزة الرصد والمراقبة لدى العدو، واختراق إجراءاته الاحترازية المتخذة منذ ايام في ظل استنفار عسكري واسع النطاق.
قبل ظهر امس، مرّت القافلة العسكرية الاسرائيلية التي كانت تضم في عدادها ضابطاً برتبة رائد وضابط صف وعشرة عناصر.
وعندما أصبحت القافلة في مرمى عناصر الكمين، تم استهدافها في وضح النهار بستة صواريخ متطورة من نوع «كورنيت» تنتمي الى الجيل الرابع، وهو الأحدث.
وفي غضون لحظات، اصيبت كل الآليات المعادية بشكل مباشر، في وقت واحد تقريباً، بحيث لم يُعط الجنود والضباط الذين كانوا يستقلونها فرصة للرد وخوض مواجهة مع المهاجمين، وهذا ما يفسر أن العملية كانت عبارة عن ضربة في اتجاه واحد،
ولم تتخذ طابع الاشتباك.
أنجزت مجموعة المقاومين مهمتها بنجاح، وانسحبت بسلاسة وانسيابية، عائدة إلى مواقعها في العمق اللبناني، من دون تسجيل أي إصابة في صفوفها.
أما الإصابات الاسرائيلية، فإن مشهد الآليات المحترقة والمدمرة الى حد ذوبان بعض هياكلها، يوحي بان عددها أكبر بكثير من ذاك الذي اعترفت به اسرائيل (قتيلان أحدهما ضابط، وسبعة جرحى).
وعمل سلاح المدفعية والمجموعة الصاروخية التابعان للمقاومة على تغطية انسحاب القوة المهاجمة، من خلال قصف بالهاون طاول مواقع العدو في السماقة والعلم ورمثا والعباسية والغجر.
وفي أعقاب ذلك، بدأت المدفعية الإسرائيلية المركزة في مرابض زعورة وعمفيت عيار 155 ملم بقصف واسع طاول بشكل خاص العباسية حيث مواقع الكتيبة الإسبانية العاملة ضمن «اليونفيل» ما ادى الى اصابة جندي اسباني بجراح خطرة توفي
إثرها. وتوسّع القصف ليطال اطراف قرى بسطرة، المجيدية، حلتا، الماري، كفرشوبا، كفرحمام، وشبعا حيث طالت الشظايا عدداً من منازل البلدة، كما اصيب جامع العباسية بشظايا عدة، وقد احصي سقوط حوالي 150 الى 200 قذيفة اسرائيلية.
الحَرَج الإسرائيلي
والارجح، ان العملية النوعية في مزارع شبعا ستضع اسرائيل امام اسئلة صعبة من نوع:
كيف تمكنت المقاومة من تحقيق هذا الاختراق للمزارع المحتلة في وضح النهار، برغم أن الرد كان متوقعاً؟
كيف نفّذت المجموعة عمليتها؟
ثم كيف انسحب المهاجمون بهذه الأريحية من دون أن يواجهوا أي صعوبة؟
ولماذا لم يكن الموكب الاسرائيلي مصفحاً، مع ان منسوب المخاطر كان مرتفعاً؟ ولماذا تأخرت طواقم الإنقاذ بالوصول الى المكان؟
بمعزل عن طبيعة الإجابات الاسرائيلية، فإن ضربة الامس تؤشر الى إخفاق استخباري - عسكري لاسرائيل، والى انجاز للمقاومة من الوزن النوعي الذي سيعيد التوازن الى كفتي ميزان الصراع، وذلك بعنوان «الأمر لي». فالعملية تمت من أرض لبنانية محتلة وضد هدف اسرائيلي على أرض لبنانية محتلة، برغم كل الالتباسات المحيطة بقضية مزارع شبعا.
...................
انتهى / 232
المصدر : السفير
الخميس
٢٩ يناير ٢٠١٥
٣:٥٠:٤٦ م
668028
هجوم «المزارع»: لماذا شبعا.. وكيف دخلت المجموعة وخرجت؟
الرد السريع لحزب الله يفرض معادلة دقيقة بأن «المقاومة متى أرادت استطاعت الرد»
كان واضحاً أن انتقاء «المزارع»، هو الى حد ما «الخيار الآمن»، الذي يوفق بين حتمية الردّ وبين الرغبة في عدم التصعيد (الحرب)، إذ إن «المزارع» هي منطقة لبنانية محتلة تقع خارج نطاق القرار 1701، وتملك المقاومة فيها شرعية العمل العسكري قبل عملية الأمس وبعدها.